فإذا أخطأ من يقحم القرآن في تأييد النظرية العلمية قبل ثبوتها، فمثله في الخطأ من يقحم القرآن في تحريمها وهي بين الظن والرجحان، وبين الأخذ والرد، في انتظار البرهان الحاسم من بينات العقل أو مشاهدات العيان.
وقد أخطأ هذا الخطأ جهلاء الدين والعلم الذين حرموا القول بدوران الأرض، وهو أثبت من وجودهم على ظهرها، وأخطأ مثلهم من حرموا القول بجراثيم الوباء وهي - فيما تبين بعد ذلك - إحدى حقائق العيان.
ومذهب التطور - خاصة فيما يتعلق بتحول الأنواع - لم يثبت بالدليل القاطع؛ لأن أنصاره لم يذكروا حتى الآن حيوانا واحدا تحول من نوع إلى نوع بفعل الانتخاب الطبيعي، أو بفعل تنازع البقاء وبقاء الأصلح، ولكن بطلان القول بهذا الانتخاب لم يثبت كذلك بالدليل القاطع على وجه من الوجوه، وليس في القرآن ما يوجب علينا أن نقول ببطلان الانتخاب الطبيعي؛ لأن خلق الإنسان من الطين لا ينفي التحول إلى غير الطين، ولا يوجب علينا القول بكيفية الخلق من الطين على صورة من صور التركيب، وإنما نعلم من القرآن أن الله بدأ خلق الإنسان من طين.
ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين (السجدة: 8).
وفي آية أخرى:
من سلالة من طين
فلا اختلاف بين هذا وبين التحول الذي يثبت - إذا ثبت - على وجه من الوجوه.
ومذهب النشوء - مع سائر العلوم الحديثة - يقول لنا عن المستقبل البعيد أضعاف ما قاله لنا عن الماضي البعيد: هل يتطور الإنسان في المستقبل مع قوانين الوراثة العلمية أو لا يتطور؟ وهل يعرف العلماء مسلكه في طريق التطور أو لا يعلمون؟
من رجع إلى القرآن ليعلم حكمه في التطور المقبل وجده على العهد به يملي للعقل، ولا يصده عن طريق يرجى منه النفاذ إلى علم مجهول. وفيما تقدم كلام نقلناه عن أهل العلوم «المختصة» بتطور الأحياء وقوانين التوريث، نلتفت إليه فنعلم أن قوانين «الناسلات والصبغيات» في الأرحام لم تنبئهم بخبر يهدي إلى مصير معلوم، وأثبت ما عندهم من نبأ أن الغد كله مرهون بميراث العقل والمشيئة والإيمان.
فالذي يعرفه علماء الأجنة وقوانين الوراثة غير قليل بالنظر إلى ما كان معروفا من ذلك قبل مائة سنة، ولكنهم - كثر أو قل - لا ينفعهم في تنظيم عمل الوراثة بالانتخاب أو اللقاح في ظلمات الأرحام، وإنما ينفعهم أن يحسنوا هداية «الإنسانية» إلى خير ما تستطيعه العقول المميزة إذا صدقت النية على حب الخير، وأجمعت العزم على استخلاص الذرية المختارة بالتعليم والإرشاد، وجعلت مسألة التقدم و«بقاء الأصلح» مسألة فهم واعتقاد أدنى إلى البلاغ من لقاح الأصلاب والأرحام.
ناپیژندل شوی مخ