ومما يدل على أن حقيقة الكلام هو المعنى القائم بالنفس من الكتاب والسنة والأثر وكلام العرب؛ ما نذكر فمن ذلك قوله تعالى: " إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " ونحن نعلم وكل عاقل أنه تعالى ما كذب المنافقين في ألفاظهم، وإنما كذبهم فيما تكنه ضمائرهم وتكنه سرائرهم. وأيضا قوله تعالى: مخبرا عن الكفار: " ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم " فأخبر تعالى: أن القول بالنفس قائم وأن لم ينطق به اللسان، والقول هو الكلام، والكلام هو القول. وأيضا قوله تعالى: " يعلم السر وأخفى " قيل ما حدث به المرء نفسه مما يضمر فيها من قول أو فعل. وأيضا قوله تعالى: " يعلم ما في أنفسكم فاحذروه " وأيضا قوله تعالى: " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " فأسقط تعالى تلفظ المنافقين بالشهادة لرسوله، وجعل حكم الكذب للقول الذي في النفس والكلام الذي في النفس دون نطق اللسان، وأسقط حكم الكفر عن المكره على كلمة الكفر وجعل الحكم لصدق الكلام القائم في القلب؛ فدل بهذه الآيات وما جرى مجراها أن حقيقة الكلام هو المعنى القائم بالنفس. وله الحكم في الصدق والكذب دون الحروف والأصوات التي هي أمارات ودلالات على الكلام الحقيقي.
ويدل على ذلك من جهة السنة قوله صلى الله عليه وسلم: يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه. وهذا في حق المنافقين، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الكلام الحقيقي هو الذي في القلب دون نطق اللسان، وأن الحكم للكلام الذي في القلب على الحقيقة وأن قول اللسان مجاز قد يوافق قول القلب وقد يخالفه. وأيضا قوله صلى الله عليه وسلم: الندم توبة فأخبر صلى الله عليه وسلم: أن العاصي إذا نوى بقلبه الندم على المعصية منها أن ذلك حقيقة التوبة، وأن استغفار اللسان تبع لذلك، فصح أن الكلام الأصلي الحقيقي المعنى القائم بالنفس.
وأيضا قوله صلى الله عليه وسلم يقول الله تبارك وتعالى. " إذا ذكرني عبدي في نفسه " فأثبت الذكر للنفس، فالذكر والقول، والكلام، واحد، فعلم أن حقيقة الكلام المعنى القائم في النفس.
ويدل على ذلك أيضا قول عمر رضي الله عنه: زورت في نفسي كلاما فأتى أبو بكر فزاد عليه. فأثبت الكلام في النفس من غير نطق لسان، وعمر كان من أجل أهل اللسان والفصاحة وهو أحد الفصحاء السبعة، والعربي الفصيح يقول كان في نفسي كلام، وكان في نفسي قول، وكان في نفسي حديث، إلى غير ذلك. وأنشد الأخطل:
لا تعجبنك من أثير خطبة ... حتى يكون مع الكلام أصيلا
مخ ۴۱