ويجب أن يعلم أن الكلام الحقيقي هو المعنى الموجود في النفس لكن جعل عليه أمارات تدل عليه، فتارة تكون قولا بلسان على حكم أهل ذلك اللسان وما اصطلحوا عليه وجرى عرفهم به وجعل لغة لهم، وقد بين تعالى ذلك بقوله: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم " فأخبر تعالى أنه أرسل موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل بلسان عبراني، فأفهم كلام الله القديم القائم بالنفس بالعبرانية، وبعث عيسى عليه السلام بلسان سرياني، فأفهم قومه كلام الله القديم بلسانهم، وبعث نبينا صلى الله عليه وسلم بلسان العرب، فأفهم قومه كلام الله القديم القائم بالنفس بكلامهم؛ فلغة العرب غير لغة العبرانية ولغة السريانية غيرهما، لكن الكلام القديم القائم بالنفس شيء واحد لا يختلف ولا يتغير، وقد يدل على الكلام القائم بالنفس الخطوط المصطلح عليها بين كل أهل خط، فيقوم الخط في الدلالة مقام النطق باللسان، وقد بين تعالى ذلك فقال " هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " فقام الخط مقام النطق، لما كان يدل على الكلام دلالة النطق، لكن الخطوط تختلف بحكم الاصطلاح والمواضعة وقلة الحروف وكثرتها، فحرف الإنجيل والتوراة كل واحد منها خلاف الآخر، وكذلك حروف العرب وخطوطهم تخالف غيرها، وكذلك حروف الهند وخطوطهم تخالف الجميع، لكن لكل خط وحرف بين أهله يقوم لهم في الدلالة على الكلام القائم بأنفسهم مقام دلالة نطق ألسنتهم، ويختصون بذلك في الفهم والاصطلاح عند كلام اللسان، وعند رسم الحروف الخطوط، حتى لا يفهم غيرهم ذلك إلا أن يتعلم لغتهم وخطوطهم، فصح أن الكلام الحقيقي هو المعنى القائم بالنفس دون غيره، وإنما الغير دليل عليه بحكم التواضع والاصطلاح ويجوز أن يسمى كلاما إذ هو دليل على الكلام، لا أنه نفس الكلام، الحقيقي. وكذلك قد يدل على الكلام الحقيقي القائم بالنفس الرموز والإشارات، وقد بين ذلك تعالى بقوله في قصة زكريا عليه السلام " آيتك ألا تكلم الناس ثلاث أيام إلا رمزا " يعني أن لا تفهم الكلام القائم بنفسك باللسان، وإنما أفهمه بالرمز والإشارة ففعل كما أمره تعالى، فأخبر عنه فقال: " فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا " فأفهم أمره الذي هو الأمر بالتسبيح القائم في نفسه بالإشارة دون نطق اللسان، وكذلك الأخرس الذي لا ينطق باللسان ولا يسمع الصوت، إنما يفهمنا كلامه القائم بنفسه، ونفهمه كلامنا القائم بأنفسنا بالإشارة دون نطق اللسان، فحصل من هذه الجملة أن حقيقة الكلام على الإطلاق في حق الخالق والمخلوق إنما هو المعنى القائم بالنفس لكن جعل لنا دلالة عليه تارة بالصوت والحروف نطقا، وتارة بجمع الحروف بعضها إلى بعض كتابة دون الصوت ووجوده وتارة إشارة ورمزا دون الحرف والأصوات ووجودهما، فحقيق الكلام القائم بالنفس موجود عند الحرف والصوت، لكن الخلق كلامهم مخلوق كهم وكلام الله ليس بمخلوق كهو، سبحانه وتعالى. ونريد بقولنا كهو أن صفات ذاته لا توصف بالخلق والحدث ولا بشيء من الخلق والحدث، كما أنه تعالى لا يوصف بالخلق والحدث. ولا بشيء من صفات الخلق والحدث، ولا نريد بقولنا كهو أنها خالقة رازقة. فافهم هذا التحقيق، لأن المعتزلة تشنع وتقول: إذا كان الباري عالما بعلم ومتكلما بكلام والكل قديم يجب أن يكون معه قدماء كثيرة في الأزل، وإذا كانت كهو فيجب أن تكون خالقة رازقة آلهة كهو، وهذا تمويه منهم على عقول العوام، حتى ينفروهم عن أهل التحقيق والسنة والجماعة، ويميلوا إلى باطلهم من نفى صفات الله التي وصف بها نفسه في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يوافقوهم في القول بخلق القرآن معنى، وإن لم ينطقوا به، وكذلك أن المعتزلة أكثر حجتهم على أن كلام الله تعالى مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن أنه بزعمهم حروف وأصوات فرضوا من هؤلاء العوام أن يصرحوا في كلام الله تعالى بما يوجب كونه مخلوقا ضرورة، وإن لم يقولوا إنه مخلوق نطقا. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
مخ ۴۰