والجواب عن هذه الشبهة: أن يقال لهم: أما ما ذكرتم من الحصر، والتحديد والتبعيض، والحروف، والأصوات، فجميع ذلك راجع إلى تلاوة المخلوقين دون كلام الله تعالى الذي هو صفة من صفات ذاته؛ لأن جميع ما ذكرتم يحتاج إلى مخارج من لسان، وشفتين، وحلق، والله يتعالى ويتنزه عن جميع ذلك. بل نقول إن كلامه صفة له قديمة لا يحتاج فيه إلى أداة من صوت. أو حرف أو مخرج. يتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وكذلك ما ذكرتم من الحصر، والعد، والأول، والآخر، إنما ذلك راجع إلى تلاوة المخلوقين لكلامه وكتبتهم لكلامه دون كلامه الذي هو صفة، وقد بين ذلك سبحانه وتعالى بأظهر بيان لمن كان له فهم صحيح، لأنه تعالى قال: " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا " وقوله تعالى: " ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم " ومعلوم أن الكاتب منا يكتب عدة مصاحف بمحبرة واحدة، ويتلو التالي منا عدة ختمات، فالمحصور والمعدود المحدود الذي يتصف بأول وآخر صفاتنا من تلاوتنا لكلامه، وخطنا لكلامه، وحفظنا لكلامه. فأما صفته التي هي كلامه على الحقيقة فلا تتصف بالزوال، والحصر، والعد، والأول والآخر على ما أخبر سبحانه وتعالى على مقتضى التحقيق. لأن كل ما اتصف بالبداية والفراغ والحصر والعد فإنما هي صفة المخلوق لا صفة الخالق القديمة بقدمه الموجودة بوجوده، التي لا يجوز أن تتقدم عليه ولا تتأخر عنه. فاعلم هذه الجملة وتحققها تسلم من ضلالة الفريقين وتخلص من جهل الطائفتين.
مسألة
ويجب أن يعلم أن القراءة غير المقروءة. والتلاوة غير المتلو والكتابة غير المكتوب، وهذا إنما خالف فيه من لا حس له، ولا فهم، ولا عقل ولا تصور، ونحن بحمد الله نبين الفرق بين الأمرين من الكتاب والسنة ودليل العقول.
فأما الدليل من الكتاب فكثير جدا. أحدها: قوله: " وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث " فأخبر تعالى أن القرآن منه منزل موحى، وأن الرسول يقرؤه ويعلمه، فالموحى المنزل المقروء هو كلام الله تعالى القديم وصفة ذاته، والقراءة له فعل الرسول التي هي صفته. وأيضا قوله: تعالى " يا أيها الرسول بلغ " ففعل الرسول البلاغ الذي هو القراءة. وقوله تعالى: " لا تحرك به لسانك " وقوله تعالى: " إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم " وقوله تعالى: " يتلونه حق تلاوته " وقوله تعالى: " إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين " " وأن أتلو القرآن " فمعلوم أن ها هنا آمر أمر بشيئين، وهو الله تعالى، ومأمور وهو الرسول، فأمره بالعبادة له، فحصل ها هنا آمر، ومأمور، ومأمور به، فالآمر هو الله تعالى، والمأمور الرسول، والمأمور به العبادة، فالمعبود غير العبادة التي هي فعل الرسول، فكذلك التلاوة غير المتلو، لأن التلاوة فعل الرسول وهو المأمور بها، والمتلو كلامه القديم، ولم يأمره أن يأتي بكلامه القديم؛ لأن ذلك لا يتصور الأمر به ولا يدخل تحت قدرة مخلوق، إنما أمر بتلاوة كلامه، كما أمر بعبادته، وعبادته غيره، فكذلك تلاوة كلامه غير كلامه، فحصل من هذا: تال. وهو الرسول عليه السلام وتلاوته صفة له. ومتلو: وهو كلام الله القديم الذي هو صفة له. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: " فإذا قرأت القرآن " . ففرق بين القراءة والمقروء: وأيضا قوله تعالى: " واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك " فذكر قراءة ومقروءا، وتلاوة، ومتلوا، وعند الجاهل أن ذلك شيء واحد.
مخ ۲۷