الجواب الثاني: أنه أراد: إنا جعلنا قراءته وتلاوته بلسان العرب، وأفهمنا أحكامه. والمراد به باللسان العربي، وتكون الفائدة في ذلك الفرق بينه وبين التوراة والإنجيل، لأنه جعل تلاوة الكتابين المذكورين وإفهام أحكامهما باللسان العبراني والسرياني، وجعل تلاوة هذا الكتاب وإفهام أحكامه والمراد به بلسان العرب، ولو عرفوا الفرق بين التلاوة والمتلو لم يموهوا بمثل هذا التمويه.
والجواب الثالث: أن الجعل إذا عدي إلى مفعول واحد كان ظاهره الخلق، وإذا عدي إلى مفعولين كان ظاهره الحكم والتسمية، في أكثر الاستعمال. ولذلك لا يجوز أن يقول القائل: جعلت النجم والرجل، ويسكت حتى يصله بقوله: جعلت النجم هاديا ودليلا، وجعلت الرجل صديقا وصاحبا. فلما قال الله تعالى: " إنا جعلناه قرآنا عربيا " تعدى إلى مفعولين، فيكون بمعنى الحكم والتسمية.
فإن احتجوا بقوله تعالى: " وإذا بدلنا آية مكان آية " وقالوا: ما يغير ويبدل فهو مخلوق لا محالة، قلنا: هذا جهل منكم أيضا، وذلك أن التبديل والنسخ إنما يكون ويتصور في الرسم من خط أو تلاوة؛ أو في حكم، فيكون تقدير الكلام: وإذا بدلنا حكم آية أو تلاوة آية، دون المتلو القديم الذي لا يتصور عليه تبديل ولا تغيير، وقد بين ذلك سبحانه وتعالى وأخبر أن كلامه القديم لا يغير ولا يبدل.
دليل الأول: قوله تعالى: " وإذا بدلنا آية مكان آية " يعني حكم آية أو تلاوتها.
ودليل الثاني: قوله تعالى: " ولا مبدل لكلمات الله " وقوله تعالى " لا مبدل لكلماته " فأخبر تعالى أن التبديل يتصور في أحكام كلامه وتلاوة كلامه، دون كلامه القديم الذي هو صفة من صفات ذاته، ولو حققوا الفرق بين التلاوة والمتلو سلموا وجميع من وافقهم من الجهال الذين سلموا لهم وفق مذهبهم من خلق القرآن معنى، ومنعوه نطقا، نعوذ بالله من الجهل. وسنبين هذا الأمر إن شاء الله على الاستيفاء بالكمال، في مسألة الفرق بين التلاوة والمتلو، والقراءة والمقروء.
فإن احتجوا بقوله تعالى: " ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك " وقالوا: ما جاز عليه الذهاب والعدم فإنه مخلوق.
فالجواب عن هذا السؤال مثل الجواب المتقدم؛ لأن الذهاب والعدم إنما يكون في الحفظ والرسم، دون المحفوظ الذي هو كلام الله تعالى. ويدل على هذا: أن ابن مسعود رضي الله عنه لما قال: استكثروا من قراءة القرآن قبل أن يرفع. فقيل له: كيف يرفع وقد حفظناه في صدورنا وأثبتناه في مصاحفنا ؟. فقال: يسري عليه فيذهب حفظه من الصدور، ورسمه من المصاحف. وهذا صحيح، لأن حفظ المخلوق مخلوق مثله، وحفظه مخلوق مثله، فيتصور عليه الذهاب والعدم بالنسيان والمحو. وأما المحفوظ والمكتوب الذي هو كلامه القديم، فلا يتصور عليه ذلك. فاعلم ذلك وتحققه.
فإن احتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم قالوا: وما جاز أن ينتقل ويتحول ويسافر به فهو مخلوق. قلنا: كم هذا التمويه الذي تشبهون به على العوام وجهال الناس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بهذا الكلام حمل المصحف الذي فيه كلام الله مكتوب، ولم يرد بذلك نفس كلامه القديم الذي هو صفة من صفات ذاته، وقد قرنه صلى الله عليه وسلم بما يدل على أن المراد به المصحف دون غيره؛ ألا تراه قال: مخافة أن تناله أيديهم ومعلوم أن الذي تناله أيديهم إنما هو المصحف دون غيره، وقد بين عليه السلام ذلك في حديث آخر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر يريد بذلك الصحف التي يكتب فيها القرآن، دون نفس القرآن الذي هو كلام اله تعالى، لأنه صفة من صفات ذاته، ولا يتصور على صفات ذاته اللمس ونيل الأذى.
فإن قالوا: أجمعنا على أن القرآن سور، والسور آيات، والآيات كلمات، والكلمات حروف وأصوات. وجميع ذلك يدل على كونه محدثا مخلوقا؛ لأن السور معدودة محسوبة؛ لها أول وآخر، وكذلك الآيات والحروف، وما دخله الحصر والعد وكان له أول وآخر فهو مخلوق، وهذه الشبهة التي سخمت وجوه من وافقهم في مقالتهم هذه من أهل السنة الجهال بطرق التحقيق؛ حيث سلموا لهم مع زعمهم أنه كلامه ليس بمخلوق، ما قرروه من هذه الشبهة، وقالوا مثل قولهم: إن كلامه حروف وأصوات، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
مخ ۲۶