ويدل على صحة ذلك أيضا قوله تعالى: " ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله " فأعلم أن ذلك بفضله لا بالعمل. وأيضا قوله تعالى: " ولولا فضل الله عليكم ورحمته " وسئل النبي صلى الله عليه وسلم أيدخل أحد منا الجنة بعمله ؟ فقال: لا. فقيل ولا أنت ؟ فقال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمته فقال له بعض الصحابة ففيم العمل ؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له. وإنما وعد الله سبحانه بالثواب وأوعد بالعقاب، وقوله الحق ووعده الصدق، فنصب الطاعات أمارة على الفوز بالدرجات، والمعاصي أمارة على التردي في الهلكات، وكل ذلك أمارة للخلق بعضهم على بعض، لا له سبحانه وتعالى؛ فإنه علم بالأشياء قبل كونها، كما قال بعضهم: تفرد الحق بعلم الغيوب فعلم ما كان وما يكون، وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون.
والدليل على الفصل الثاني: وهو: أن الحسن ما وافق الأمر، والقبيح ما خالف الأمر: أن لذة الجماع في الزوجة والأمة، صورتها في الفرج الحلال كصورتها في الفرج الحرام، إلا أن ذلك حسن في الملك بموافقة الشرع، قبيح في غير ذلك بمخالفة الشرع، وكذا القتل: وصورته في القصاص كهي في القتل من غير قصاص، إلا أن أحدهما حسن لمطابقة الشرع، والآخر قبيح بمخالفة الشرع. وكذا الأكل في آخر يوم من شهر رمضان، كصورة الأكل يوم الفطر، إلا أن أحدهما حسن لموافقة الشرع، والآخر قبيح لمخالفته، وكذلك بالعكس: إمساك يوم من شهر رمضان، كصورة الإمساك يوم الفطر، إلا أنه في أحدهما حسن للموافقة، وفي الآخر قبيح للمخالفة.
وجميع قواعد الشرع تدل على أن الحسن: ما حسنه الشرع وجوزه وسوغه. والقبيح: ما قبحه الشرع وحرمه، ومنع منه، لا من حيث الصورة، فتفهم ذلك يخلصك من جميع ما يورده جهال القدرية من شبههم التي تضل عقول العوام. فإذا ثبت هذا وتقرر: جاء منه أن الباري سبحانه وتعالى ليس فوقه آمر أمره، ولا ناه نهاه؛ حتى تتصف أفعاله تارة بالحسن لموافقة الأمر، ولا بالقبح لمخالفة الأمر، بل هو المالك على الحقيقة، يتصرف في ملكه كيف يشاء، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
### || مسألة
أرزاق العباد
ويجب أن يعلم: أن أرزاق العباد وجميع الحيوان من الله تعالى، فلا رازق إلا الله: حلالا كان أم حراما.
والدليل على ذلك قوله تعالى: " الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر " وقوله تعالى: " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها " وقوله تعالى: " الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون " . وقد أجمع المسلمون على إطلاق القول لا رازق إلا الله كما أجمعوا على أنه لا خالق إلا الله.
ويدل عليه أيضا: أنه لو فرض نشوء صبي من حال كونه طفلا إلى بلوغه بين اللصوص وقطاع الطريق وكان يتناول من طعامهم المسروق المنهوب، ثم من بعد إدراكه والبلوغ سلك مسلكهم في السرقة والنهب والغارة إلى أن شاخ وهرم، ولم يتناول لقمة من حلال قط، فلو قال قائل: إن هذا الشخص لم يرزقه الله رزقا قط، ولا أكل له رزقا، كان هذا القائل معاندا للنص الوارد، وخارقا لإجماع المسلمين. فدلت هذه الجملة: أن لا خالق إلا الله ولا رازق إلا هو.
مسألة
ويجب أن يعلم: أن كل ما ورد به الشرع من عذاب القبر وسؤال منكر ونكير، ورد الروح إلى الميت عند السؤال ، ونصب الصراط، والميزان، والحوض والشفاعة للعصاة من المؤمنين، كل ذلك حق وصدق، ويجب الإيمان والقطع به؛ لأن جميع ذلك غير مستحيل في العقل.
وكذلك يجب القطع بأن الجنة والنار مخلوقتان في وقتنا، وكذلك يجب القطع بأن نعيم أهل الجنة لا ينقطع، وأن عذاب جهنم مخلد للكفار، وإن من كان مؤمنا لا يخلد في النار.
والدليل على إثبات عذاب القبر: قوله تعالى: " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا " . قال أبو هريرة: يعني عذاب القبر. وأيضا: قوله صلى الله عليه وسلم: القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار. وقد قال تعالى: " النار يعرضون عليها غدوا وعشيا " ، والغدو والعشي إنما يكون في الدنيا. وأيضا ما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: أعوذ بالله من عذاب القبر.
مخ ۱۵