ولم يتحرك أحد منهم من مكانه، فأحاط بهم ثلاثة رجال وساروا أمامهم إلى عربة كبيرة كالصندوق، جوانبها الأربعة مغلقة ومظلمة من الداخل كالزنزانة المتحركة.
جاء مقعدها إلى جوار شق صغير في جدار العربة، كشق المفتاح في الباب، رأت من خلاله الشوارع المزدحمة بالناس، والعربات، والترام. كانت الشمس قد بدأت تغرب وأنوار الشوارع والبيوت والدكاكين بدأت تنتشر، ومعها تنتشر تلك الحركة المصاحبة لقدوم الليل وخروج الناس للتنزه والسهر، أو للعمل في وردية الليل أو لشراء حاجياتهم. عالم آخر تنظر إليه من خلال ثقب صغير في صندوق مغلق، كالعالم المسحور الذي كانت تراه وهي طفلة من خلال الثقب في صندوق الدنيا، أو جراب الحاوي.
وأصبحت حركة الشوارع والناس أمامها حركة غريبة، منفصلة تماما عن العالم الذي أصبحت فيه، والذي بدا لها لا يعرف شيئا اسمه طعام أو شراب أو نوم أو بيوت أو آباء أو أمهات، أو دكاكين أو ناس تشتري، أو أطفال يولدون أو عجائز يمتن، أو شوارع يمشي فيها الناس، أو ترامات تسير فوق قضبان. وبدت لها حركة الناس وهم يسيرون حركة عبثية بلا معنى، وخيل إليها أن هؤلاء الناس ميتون أو أنهم يعيشون في عالم فاتر بغير حرارة وبغير نبض. عالم الناس أصبح ميتا في نظرها، والحياة كلها أصبحت متجمعة متركزة في تلك العربة، أو ذلك الصندوق المغلق، أو بالتحديد ذلك المقعد الذي يشغله الجسم النحيل ومن فوقه الرأس والملامح المحددة المرهقة المحملة بالهموم، والعينين العميقتين بقدرتهما العجيبة على الرؤية والنفاذ إلى حقيقة الأشياء.
توقفت العربة، وانفتح باب الصندوق، وجاء عدد من الرجال ساروا من أمامهم ومن خلفهم، ودخلوا معهم إلى مبنى غريب، ووجدت نفسها في حجرة ضيقة خالية، وانغلق الباب عليها وحدها، وظلت عيناها ثابتتين فوق الباب الموصد لا تريان شيئا إلا الباب. حاجز كبير مصمت من الخشب الداكن السميك، يحول بينها وبين سليم. يقف بينها وبين حياتها، يمنعها من الحركة، يشدها بعيدا عن إرادتها كذراعي أمها الكبيرتين حين كانتا تشدانها، وصوت أبيها حين ينهرها، وصوت الترام وهو يزحف فوق القضبان، وباب الكلية الحديدي والمشرحة بالمناضد الرخامية ومن فوقها أشلاء الجثث وسيقان الطلبة المعوجة وعيون الطالبات المنكسرة، وعينا الدكتور علوي الزرقاوان بنهمهما الخفي. •••
بقبضة يدها القوية تضرب الباب الخشبي، وبقدمها اليمنى، واليسرى، تضرب الباب السميك المصمت، بكل جسدها تضربه، لكن جسدها يرتد عنه ويرتطم بالجدار ثم يرتد عن الجدار ويرتطم بالباب كالذي يضرب رأسه ليكسر الحائط، فيبقى الحائط وينكسر الرأس. لكن رأسها لا ينكسر، لا شيء فيها ينكسر. وجسدها الطويل يظل ممدودا فوق الأرض، يشغل المساحة بين الجدار والباب، ومن تحته تنساب خيوط رفيعة من الدماء، من تحت أنفها وأذنيها، ومن بين أصابع يديها وقدميها، ويفتح الشرطي الباب، أنفه يتشمم رائحة الدم، وعيناه تتلصصان، تصوب إليهما عينيها السوداوين فيطرق إلى الأرض بحركة مستسلمة ككل رجال الشرطة، يقاومها بحركة أخرى متغطرسة وبشد عضلات ظهره وعنقه، وتجحظ عيناه كالمشنوق، والسوط يتدلى من بين أصابعه الغليظة المشققة كأصابع الجلاد.
كل شيء من حولها يبدو مألوفا، كأنه حدث من قبل مرة أو مرتين، والألم في جسدها أحسته من قبل، وتلك البقع الحمراء فوق الأرض، بل هذا الشرطي رأته، والعينان، والأنف، والسوط، والجدار، والبقع الحمراء، والباب، وكل شيء يتكرر، وكأنما تستطيع أن تعرف ما الذي سيحدث في الغد، والورقة البيضاء تخفيها تحت البرش، كما كانت تخفيها عن عيني أبيها، وحينما يختفي السجان تخرج الورقة، وتنظر في خطوطها المميزة، تعرف خطوطها كما تعرف ملامحها، وبتلك الحركة الإرادية القوية تحرك الفرشاة فوق الصفحة البيضاء، وكل الأشياء تتخذ شكلا جديدا، وألوانا جديدة، أو بعبارة أخرى ألوانها الحقيقية. وتصبح عيناها قادرتين على اكتشاف أن ورق الأشجار ليس أخضر، والسماء ليس لونها أزرق، والجدار ليس رماديا، بل إنه ليس مصمتا أيضا، بل هو شفاف كستارة من حرير، جسدها يخترقه بسهولة، وهي تشعر بقوة خارقة، حقيقية وليست وهمية، لها كثافة مادية ملموسة، تحسها بأصابعها متينة مرنة كالمطاط، لا تنكسر وإنما تنثني فحسب تحت الضغط الشديد، تدرك بها أن جسدها لا يمكن أن ينسحب من الحياة، ويظل قلبها يدق بتلك الضربات العالية كالقهقهات، ويصبح للأشياء ألوان زاهية، والبقع الحمراء فوق الأرض تصبح متوهجة وضاءة كقرص الشمس، والنجوم تسطع بضوء قوي كضوء القمر، واخضرار الشجر يصبح أزرق داكنا، وكل ورقة لها خيوط ونسيج بارز كالأسنان المشرشرة، يحركها الهواء بذبذبة غير مرئية كحركة الزمن، ويصبح الماضي كالحاضر كالمستقبل، والأمس كاليوم كالغد، يصبح الزمن بغير زمن، وهذه حقيقة رائعة لا يكتشفها الإنسان إلا في زنزانة السجن.
هذا الاكتشاف أو هذا الإدراك هو السبب الحقيقي وراء تلك النشوة العجيبة التي كانت تطل من عينيها السوداوين، والتي كانت تجعل جسدها النازف يتراقص برشاقة نادرة، يداعب أسراب البق النشطة فوق البرش. وهي مقدرة خارقة للعادة، لا يكتسبها الجسم إلا حين يتخلص من وعيه الإنساني المزيف ويصبح بوعيه الحقيقي.
حين أطل الحارس برأسه من الباب دهش، كانت بهية تفرد ذراعيها وتتحسس بأصابعها عروقها النافرة المنتفخة، وحينما تحس دورة الدم في جسدها تضحك، فالإنسان منذ آلاف السنين يحاول عن طريق دورة الدم في جسده أن يعرف الكون، وتنظر بهية إلى الشرطي بعينيها السوداوين، تدرك عن يقين أن الكون يدور مع دورة الدم في جسدها، وأن هذا الدوران بالذات هو ما يفزع رجال الشرطة، ويشل تفكيرهم، خاصة إذا كان الدوران شديدا إلى حد أن يبدو السطح أملس ساكنا كسطح الأرض، مع أن لونه أحمر وردي كلون الدم، ويمشي ببطء أشبه بالكبرباء في العروق الزرقاء تحت الجلد.
سألها الشرطي بصوته الحاد الأنثوي: أنت بهية شاهين.
أجابت على الفور ولا تزال تضحك وعيناها مرفوعتان إلى أعلى بشموخها العادي: لا.
ناپیژندل شوی مخ