أن يوفده إلى هرقل العتيد. فبالرغم من أن الأب كان خسيسا وضيعا، إلا أنه أنجب ابنا فاق سواه في كل ضرب من ضروب سرعة القدم والقتال، وفي رجاحة العقل كان هو الأول بين شعب موكيناي. هذا هو الذي حقق لهكتور مجد النصر، إذ إنه تعثر - وهو يستدير - في حافة ترسه الذي كان يحمله بنفسه، وكان ترسا يصل إلى قدميه، وقاية ضد الرماح، فسقط إلى الخلف، ومن حول صدغيه جلجلت خوذته بشدة. وسرعان ما لمحه هكتور فعدا إليه، ووقف بجانبه، وثبت رمحه في صدره، وقتله بالقرب من رفاقه الأعزاء، الذين لم يفلحوا في مساعدته - رغم حزنهم على زميلهم - إذ إنهم كانوا في هلع من هكتور العظيم!
ووصلوا إلى وسط السفن، فاحتموا بمقدماتها، مقدمات السفن التي كانت قد سحبت إلى الصف الأول، ولكن الطرواديين هجموا، فتقهقر الأرجوسيون رغم أنفهم عن السفن الخارجية، ولكنهم صمدوا محتشدين إلى جانب أكواخهم، ولم ينتشروا في أرجاء المعسكر، إذ كبحهم العار والخوف، فأخذوا يتنادون بغير انقطاع وبأعلى الأصوات، ولكن صوت نسطور الجيريني - حصن الآخيين - ارتفع على ما عداه، وهو يناشد كل رجل، مستحلفا إياه بمن أنجبوه قائلا: «أصدقائي، كونوا رجالا، واخجلوا من أولئك الأقوام. وليتذكر كل واحد منكم أطفاله وزوجته، وأملاكه وأبويه، أحياء كانوا أم أمواتا، من أجل من هم ليسوا معنا هنا، أتوسل إليكم الآن أن تقفوا بثبات، وألا تركنوا إلى الفرار!»
وما إن قال هذا حتى أثار قوة وروح كل رجل، وأزالت «أثينا» الضباب عن عيونهم، فوصل إليهم الضوء من كلا الجانبين ساطعا؛ من جانب السفن، ومن جانب الحرب التي لا تبقي على أحد. فشاهدوا، جميعا هكتور - الرائع في صيحة الحرب - ورفاقه، أولئك الذين كانوا في المؤخرة ولم يشتركوا في القتال، وكل من قاتل بجانب السفن السريعة.
إذ ذاك لم يعد قلب أياس - العظيم الجرأة - يقنع بالوقوف بعيدا عن مكان وقوف بقية أبناء الآخيين، فأخذ يسير بخطى واسعة، صاعدا وهابطا من ظهور السفن، وفي يديه رمح طويل يلوح به، رمح للقتال البحري، معقود بحلقات، طوله اثنتان وعشرون ذراعا. وكما يسرج الرجل الخبير بشئون الجياد أربعة خيول منتقاة من بين عدة خيول، فيشد كل منها إلى الأخريات ويسوقها مسرعة من السهل إلى المدينة العظيمة، عبر طريق عامة، بين إعجاب الكثيرين - رجالا ونساء - وهو يمضي قدما، بل إنه ليقفز، وينتقل من جواد إلى آخر، وهي تعدو إلى الأمام، هكذا ظل «أياس» يسير بخطى واسعة فوق ظهور السفن العديدة، وقد ارتفع صوته إلى السماء وهو دائب على مناداة الدانيين بصيحات هائلة، كي يدافعوا عن سفنهم وأكواخهم. ولم يبق هكتور في وسط حشد الطرواديين المدرعين بالدرقات، وإنما انقض كصقر كاسر يهاجم قطيعا من الطيور المجنحة كان يأكل بجانب شاطئ نهر، قطيع من الأوز البري، أو الكراكي، أو البجع الطويل الأعناق.
هكذا انقض هكتور - هو الآخر - على سفينة دكناء الحيزوم هاجما عليها مباشرة، وقد دفعه زوس من خلفه بيد خارقة القوة، مثيرا الجيش كله معه.
وهكذا نشب القتال المرير - من جديد - بجانب السفن. ولست بحاجة إلى أن أذكر لك أنهم أقبلوا على الحرب في حمية، دون ما كلل ولا هوادة. وكانوا يفكرون في نضالهم على هذا النحو: كان الآخيون يعتقدون أنهم ينبغي ألا يهربوا من الخطر قط، بل عليهم أن يفنوا هناك. بينما كان كل طروادي يأمل في فؤاده أن يشعل النيران في السفن ويقتل المحاربين الآخيين، وبهذه الأفكار، وقف كل من الفريقين في مواجهة الآخر، ولكن هكتور أمسك بمؤخر سفينة مبحرة، سفينة بديعة، سريعة، فوق البحر، كانت قد حملت «بروتيسيلاوس» إلى طروادة، ولكنها لم تعد به ثانية إلى وطنه.
6
فحول سفينته راح الآخيون والطرواديون يقتلون بعضهم بعضا في عراك متشابك، ولم يعد أحد منهم ينأى لكي يرسل السهام والرماح في الهواء، بل وقف كل منهم جد قريب من الآخر، وراحوا - بحمية واحدة - يقاتلون بالفئوس الحربية الحادة وبالبلطات، وبالسيوف الكبيرة والرماح ذات الحدين! وكم من أسلحة هائلة، محبوكة بسيور قاتمة عند المقبض، سقطت فوق الأرض، بعضها من الأيدي والبعض الآخر من أكتاف المحاربين وهم يقاتلون، حتى تخضبت الأرض السوداء بالدماء!
بيد أن هكتور لم يفلت السفينة، حين أمسك بمؤخرها، بل احتفظ بطرفها في يديه، وصاح في الطرواديين بقوله: «أحضروا النار، وصيحوا صيحة الحرب جميعا في صوت واحد؛ فقد وهبنا زوس الآن يوما يفوق كل ما عداه، لسوف ندمر اليوم السفن التي جاءت إلى هنا بالرغم من الآلهة، جالبة إلينا آلاما عديدة، بفضل جبن الشيوخ الذين منعوني - عندما كنت متلهفا إلى القتال عند مؤخر السفن - كما منعوا الجيش، ولكن إذا كان زوس - الذي يجلجل صوته إلى بعيد - قد أثقل عقولنا، فإنه الآن من تلقاء نفسه يدفعنا ويرشدنا.»
هكذا قال، وشدد انقضاضه على الأرجوسيين، ولكن أياس لم يمكث في مكانه طويلا؛ إذ كانت الرماح تحاصره بشدة. ولما كان دائم الحذر من الموت، فإنه تقهقر قليلا بجانب منصة طولها سبع أقدام،
ناپیژندل شوی مخ