وبينما كان يقول ذلك ضرب الجياد الجميلة الأعراف، بالسوط المقعقع، فلما أحست بالضربة، انطلقت بالعربة السريعة وسط الطرواديين والآخيين، تطأ القتلى والدروع، فلطخ الدم محور العربة. كما تضرجت حوافها بقطرات الدماء التي تناثرت من حوافر الخيل والعجلات. وكان هكتور متلهفا إلى الدخول في حشد الرجال، وإلى أن يقفز وسطهم فيشتتهم، فأحدث في وسط الدانيين طنين حرب شريرة، ولم يجد رمحه أقل راحة. نعم، لقد انطلق في صفوف المحاربين، مدججا بالرمح والسيف والصخور الضخمة، فلم يتجنب سوى منازلة أياس بن تيلامون.
وهنا أخذ الأب «زوس»، المتربع على عرشه عاليا، يستحث أياس على الفرار، فوقف هذا مشدوها، وقد ألقى ترسه ذا الطبقات السبع من جلد الثور، فوق ظهره. وألقى نظرة حسيرة على الجمع ثم ولى الأدبار، كحيوان مفترس لا يكف عن التلفت خلفه، وهو يتقهقر ببطء خطوة فخطوة، وكما تسوق الكلاب والفلاحون الأسد الهزيل من حظيرة الأبقار، فلا يمكنونه من نيل أسمن ما في القطيع الذي تولوا حراسته الليل بطوله، ولكنه من فرط حاجته إلى اللحم يقتحم الحظيرة، فلا يحظى بشيء؛ لأن الأيدي القوية تمطره وابلا من السهام، ومعها جذوات النار المستعرة، فتخور أمامها عزيمته، مهما تكن لهفته إلى الطعام، وينصرف عند الفجر خائبا حزين القلب، هكذا أيضا تقهقر «أياس» هاربا أمام الطرواديين بقلب مكمود، على غير هوى منه؛ إذ كان شديد الخوف على سفن الآخيين. وكما يحدث عندما يمر حمار على حقل قمح فينال من الأولاد العديدين ما يكره، حمار خامل تكسرت على ضلوعه هراوات كثيرة، ولكنه يمضي يعيث فسادا في الحبوب الوفيرة، فيضربه الأولاد بالهراوات رغم ضآلة قوتهم، ثم يتمكنون بصعوبة من طرده بعد أن يكون قد تناول كفايته من العلف، هكذا أيضا راح الطرواديون ذوو القلوب الجسورة وحلفاؤهم الذين جمعوا من عدة أراض، يضربون «أياس» العظيم ابن «تيلامون»، بالرماح فوق ترسه مباشرة، ويضيقون عليه الخناق باستمرار، ولكن «أياس» كان لا يلبث أن يتذكر شجاعته الثائرة، فيستدير نحوهم ويوقف فرق الطرواديين مستأنسي الخيول، وكان في بعض الأحيان يدور على أعقابه هاربا. بيد أنه أوقفهم جميعا ومنعهم من بلوغ السفن السريعة، ثم وقف هو نفسه بين الطرواديين والآخيين، يقاتل بحماس. وكانت الرماح التي قذفتها الأيدي القوية قد تركز بعضها في ترسه الضخم وهي تشق طريقها إليه: بينما انغرس كثير منها في الأرض قبل أن تصل إلى جسمه الأبيض، ودون أن تشبع غليلها من اللحم.
حتى إذا رآه «يوروبولوس» المجيد - ابن «يوايمون» - يكافح تحت وابل من السهام، أقبل يقف إلى جانبه، وقذف رمحه المتألق، فأصاب «أبيساون بن فاوسيوس» - راعي الجيش - في كبده أسفل عضلة الحجاب الحاجز، وفي الحال خارت ركبتاه، فانقض «يوروبولوس» عليه، وتأهب لتجريد كتفيه من السلاح. فما إن شاهده «باريس» الشبيه بالإله، وهو ينزع سلاح «أبيساون» حتى جذب قوسه في الحال ضد «يوروبولوس»، وقذفه بسهم في فخذه اليمنى، فانكسرت قصبة السهم، ومع ذلك فقد ثقلت فخذه. وإذ ذاك تحول راجعا إلى حشد زملائه، مجتنبا مصيره. ثم أطلق صيحة مدوية، ونادى على الدانيين بقوله: «أصدقائي، قادة وحكام الأروجسيين، هلموا، قفوا، وأبعدوا يوم الموت المشئوم عن أياس الذي تكاثرت عليه السهام، ولست أظن أنه سينجو من الحرب الأليمة. هيا، هلموا، قفوا وواجهوا العدو حول أياس العظيم، ابن تيلامون.»
هكذا قال «يوروبولوس» الجريح، فهبوا إليه يقفون بالقرب منه. وقد أسندوا تروسهم إلى أكتافهم، وشهروا رماحهم، فأقبل «أياس» نحوهم، ولما وصل إلى حشد زملائه، استدار ووقف بينهم. «أخيل» يوفد باتروكلوس إلى «نسطور»
هكذا قاتلوا كالنار المتأججة، ولكن جياد «نيليوس»، المبللة كلها بالعرق، حملت «نسطور» بعيدا عن المعركة، كما حملت «ماخاوون»، راعي الجيش. فأبصر به «أخيل» السريع القدمين ولاحظه؛ إذ كان واقفا بجانب مقدم سفينته الكبيرة الحجم، يتأمل الكفاح الدائر في المعركة، والصخب المبكي. وفي الحال تحدث إلى زميله «باتروكلوس»، وناداه من جانب السفينة، فسمعه هذا وأقبل لتوه من الكوخ وكأنه «أريس»، وكان هذا بالنسبة له بداية الشر. وبادر ابن مينويتيوس قائلا: «لم تستدعيني يا أخيل؟ ماذا تريد مني؟»
فأجابه أخيل، السريع القدمين، بقوله: «أيا ابن مينويتيوس العظيم، أيها العزيز على قلبي هذا، الآن أعتقد أن الآخيين سيكونون جاثين على ركبهم يصلون، إذ ألحت بهم الحاجة، وأصبحت الحال لا تطاق لأكثر من ذلك؛ لذا انطلق الآن يا باتروكلوس، يا حبيب زوس، واستفهم من نسطور عن هذا الذي يحضره جريحا من المعركة. وإذا شئت الحق فإنه يبدو من الخلف شبيها في كل شيء بماخاوون بن إسكليبيوس، ولكني لم أر عينيه، إذ أسرعت بي الجياد تعدو في لهفة إلى الأمام.»
هكذا قال، فأصغى «باتروكلوس» إلى زميله العزيز، وانطلق يعدو بجوار الأكواخ محاذيا سفن الآخيين. على أن الآخرين لم يكادا يبلغان كوخ ابن نيليوس حتى سارا في الحال على الأرض الفسيحة، وحل الخادم «يوريميدون» جياد «نسطور» الشيخ من العربة. وراح الاثنان يجففان العرق عن عباءتيهما وهما واقفان في النسيم على شاطئ البحر، ثم دخلا إلى الكوخ وجلسا فوق المقاعد. ومن أجلهما مزجت «هيكاميدي» - الجميلة الغدائر - شرابا، وهي التي كان نسطور العجوز قد سباها من «تينيدوس» عندما نهبها «أخيل». إنها ابنة «أرسينوس» العظيم القلب، وقد اختارها الآخيون لأنها كانت أعظم الجميع سدادا في الرأي.
ومدت الحسناء أمامها - بادئ ذي بدء - مائدة فاخرة، ذات سيقان من الميناء المتألقة، ووضعت عليها سفطا من البرونز، وبصلة لتكون «مزة» لشرابهما، وعسلا مصفى، ودقيقا من الشعير المقدس. وإلى جانبهما وضعت قدحا واسعة، كان الشيخ قد أحضرها من موطنه، مرصعة بزخارف ذهبية، ولها أربع أيد، حول كل منها زوج من اليمام يلتقط الحب، بينما كان في أسفلها دعامتان. وكان من الصعب على أي رجل غير «نسطور» أن يرفع هذه القدح عن المائدة، عندما تكون مملوءة. أما «نسطور» الشيخ فكان يرفعها فورا بسهولة. وفيها مزجت لهما المرأة، الشبيهة بالربات، شرابا من خمر «برامنية»، وبشرت عليها جبنا من لبن الماعز بمبشرة برونزية، ونثرت عليها من دقيق الشعير الأبيض، وطلبت إليهما أن يشربا، بعد أن انتهت من إعداد الشراب. فلما شربا وأطفآ ظمأهما المتأجج، لذت لهما الحكايات فأخذ كل منهما يتحدث إلى الآخر، ولكن «باتروكلوس» وقفت عند الأبواب، أشبه بالإله، فقفز الشيخ عند رؤيته عن مقعده اللامع، وقاده من يده إلى الداخل، وطلب إليه أن يجلس، ولكن «باتروكلوس» رفض الجلوس وهو واقف قبالته من بعيد، قائلا: «ليس لي أن أجلس، أيها السيد الشيخ، سليل زوس، وليس لك أن تحثني على ذلك. إنما المبجل والذي يجب أن يهاب هو الذي أرسلني ليعلم من ذا الذي جئت به إلى الوطن جريحا. أما أنا فإني أعرفه، فهو «ماخاوون»، راعي الجيش. والآن، اسمح لي بالعودة ثانية كرسول، أحمل النبأ إلى «أخيل». إنك تعرفه معرفة حقة، يا سيدي الشيخ، يا سليل زوس، وتعرف من أي نوع هو. إنه رجل صارم، أسهل شيء عنده أن يلوم حتى من لا لوم عليه!»
فأجاب الفارس نسطور الجيريني، قائلا: «لماذا يشفق أخيل هكذا على أبناء الآخيين الآن، بينما أصيب كثير منهم بالسهام؟ إنه لا يعلم ما ألم بجميع أرجاء المعسكر من حزن، فإن خيرة الرجال يرقدون وسط السفن، مضروبين بالسهام أو مصابين بجروح من طعنات الرماح. فقد أصيب ابن توديوس العتيد، وجرح أوديسيوس - ذلك البطل المشهور برمحه - بطعنة رمح. وكذا أجاممنون. كما أصيب «يوروبولوس» بدوره بسهم في فخذه. أما هذا الرجل الراقد إلى جانبي الآن، فقد حملته بعيدا عن ميدان القتال مصابا بسهم من وتر قوس. ومع ذلك فإن «أخيل» - رغم شجاعته البالغة لا يكترث للدانيين، ولا يحنو عليهم. أينتظر أن تحرق النار النهمة سفننا السريعة الواقفة عند البحر، رغما عن أنف الآخيين، وأن نقتل نحن رجلا بعد رجل؟ ذلك لأن قوتي ليست كما كانت من قبل في أطرافي الرخصة، ليتني كنت شابا وفي سابق قوتي عندما نشب القتال على أشده بين الأيليين وشعبنا، بسبب سرقة بعض الماشية. فلقد قتلت - إذ ذاك - أتومونيوس الشجاع، ابن هوبايروخوس - الذي كان يقيم في اليس يوم أن كنت أسوق ما غنمناه أخذا بالثأر - إذ بينما كان يقاتل من أجل الماشية، قذفته برمحي فأصاب وسط جبهته، فسقط يتردى، وفر الذين حوله من قومه فزعين مذعورين، فغنمنا منهم ما يفوق الحصر، وسقناه كلنا إلى خارج السهل: خمسين رأسا من البقر، وقطعانا من الأغنام لا تقع تحت حصر، وأسرابا عديدة من الخنازير، وقطعانا من الماعز كثيرة العدد متناثرة، ومائة وخمسين من الجياد العسجدية، كلها أفراس، وراء كثير منها صغار ترضع، سقنا كل ذلك إلى «بولوس» النيليوسية تحت جنح الظلام، وقدناها إلى داخل القلعة. فاغتبط نيليوس لأن كل هذه الغنيمة قد وقعت في يدي، أنا الذي ذهبت إلى الحرب وأنا بعد فتى يافع. وعند ذاك أعلن المنادون بصوت جهوري - عندما لمع الفجر في أفق السماء - أن يحضر إلى أليس العظيمة كل دائن. ثم اجتمع سائر قادة «البوليين»
5
ناپیژندل شوی مخ