بالرغم من أعمال «أجاممنون» المجيد، فإن الطرواديين شددوا الهجوم على الآخيين. ثم بدأ الشر يحيق بباتروكلوس ... إلخ.
اليوم الثالث للقتال
وفي هذه الأثناء، بزغ الفجر من عربته بجوار «تيثونوس» المجيد. لينشر النور على الخالدين والبشر فأرسل «زوس» إلى سفن الآخيين السريعة «أيريس» المروعة، تحمل في يديها علامة الحرب. فاتخذت وقفتها إلى جانب سفينة «أوديسيوس» السوداء، الضخمة الهيكل - إذ ذاك في الوسط - حتى تبلغ صيحتها كلا من الطرفين، وتترامى إلى أكواخ أياس بن تيلامون، وأكواخ «أخيل»؛ لأن هذين كانا قد سحبا سفنهما الجميلة إلى أقصى الطرفين، معتمدين على شجاعتهما وقوة سواعدهما. فوقفت الربة هناك وأطلقت صرخة مدوية مفزعة، وبثت في قلب كل رجل من الآخيين قوة عظيمة للحرب والقتال المستمرين. فتحمسوا للحرب وامتلئوا حمية، وفضلوا القتال على العودة في سفنهم الخاوية إلى بلادهم العزيزة!
وصاح ابن أتريوس عاليا، وأمر الأرجوسيين بتنظيم أنفسهم للمعركة ولبس البرونز البراق وهو في وسطهم. فوضع الدروع أولا حول ساقيه - وكانت جميلة، ومثبتة بقطع فضية عند العقبين - ثم لبس حول صدره الدرقة التي كان «كونيراس» قد أهداه إياها عندما نزل ضيفا عليه، فهناك في قبرص - رغم بعدها - سمع «كونيراس» تلك الشائعة القوية على أن الآخيين كانوا على وشك الإبحار في سفنهم إلى طروادة؛ ولذا قدم الدرقة الصدرية إلى الملك لتدخل السرور إلى نفسه. وكانت مزينة بعشرة خطوط من «الميناء» القاتمة، واثني عشر خطا من الذهب، وعشرين من القصدير، وثعابين من الميناء ملتوية الأعناق، ثلاثة في كل جانب، أشبه بقوس قزح الذي أقامه ابن كرونوس في السحب، إشارة للبشر. وعلق على كتفه سيفه، الذي كانت تزينه أزرار من الذهب، وكان غمده المصنوع من الفضة مثبتا بسلاسل ذهبية. وحمل ترسه المكين، المرصع ترصيعا فاخرا، ليصونه من الجانبين. وكان ترسا جميلا، تحيط به عشر دوائر من البرونز، ومن فوقها عشرون قوسا من القصدير الأبيض اللامع، وتتوسطه دائرة من الميناء الدكناء. وكانت الجورجون، القبيحة المنظر، مثبتة كتاج، تحملق بفظاعة وقد أحاطت بها ربات الفزع والشغب. وكانت تتدلى من الترس حمائل من الفضة زينت بثعبان من الميناء ذي ثلاثة رءوس - ملتوية في هذا الاتجاه وذاك - وقد انبثقت من عنق واحد، ثم ارتدى خوذته التي يعلوها قرنان وأربع خطوط محدودبة وخصلة من شعر الخيل وكانت الريشة تهتز فوقها بشدة. وأخذ رمحين عتيدين، مدببين بالبرونز، وكانا حادين. وأخذ البرونز يومض إلى بعد شاسع، نحو السماء. وعند ذلك أرعدت «أثينا» و«هيرا»، تبجيلا لملك موكيناي، الكثير الذهب.
وأقبل كل رجل - بعد ذلك - يلقي أمره على سائقه، بأن يمسك جواديه بعناية ونظام عند الخندق، وأن يكون مترجلا، مجهزا بعدته الحربية، يسير متقدما بسرعة. وما إن أقبل الفجر، حتى انبعثت صيحة مدوية لا تخمد. وكانوا متأهبين عند الخندق، يتبعهم سائقوهم على مسافة قصيرة، وقد أثار ابن كرونوس بينهما ضجيجا شريرا، وأرسل قطرات الندى المشبعة بالدماء، من أعلى إلى أسفل، إذ كان على وشك إرسال كثير من الرؤساء الجسورين إلى هاديس!
أما الطرواديون فقد اجتمعوا في أرض السهل المرتفعة - في الجانب المقابل لهم - واحتشدوا حول «هكتور» العظيم و«بولوداماس» المنقطع النظير، و«أينياس» الذي كان الطرواديون يبجلونه كإله، وأبناء «أنتينور» الثلاثة: «بولوبوس» و«أجينور» العظيم، و«أكاماس» الصغير الشبيه بالخالدين. وكان «هكتور» بين المحاربين - في المقدمة - يحمل ترسه المتزن تماما من كل جانب. وكما يلمع النجم الضار خلال السحب - في سناء خلاب - ثم يختفي ثانية وراء الغيوم القاتمة، هكذا كان «هكتور» يبدو تارة وسط محاربي المقدمة، وطورا بين مقاتلي المؤخرة، يصدر إليهم أوامره، وهو يتألق - وقد اكتسى كله بالبرونز اللامع - كأنه برق الأب زوس حامل الترس!
مغامرات «أجاممنون»
وكالحصادين في حقل قمح أو شعير لرجل ثري، إذ يدفعون الحزم بسرعة، كل نحو الآخر، فتتراكم الحزم وتزداد علوا ومتانة، هكذا أيضا قفز كل من الطرواديين والآخيين، بعضهم على بعض، محدثين دمارا. وما كان ليخطر ببال أي من الطرفين أن يركن إلى الفرار المهلك، فخاضوا المعركة رءوسا متعادلة، وهاجوا كالذئاب. وكانت «أيريس» - الممتلئة بالأنين البالغ - مغتبطة وهي تشاهد ما يدور؛ لأنها وحدها، دون الآلهة، كانت بين المحاربين وسط المعركة، بينما كان الآلهة الآخرون في قصورهم سالمين؛ إذ شيد لكل منهم قصر جميل بين أطواء أوليمبوس. وراح الجميع يعتبون على ابن كرونوس - سيد الغيوم الدكناء - عزمه على أن يمنح المجد للطرواديين. ومع ذلك فإن الأب لم يلتفت إليهم، بل جلس في عزلة عن الآخرين، ينعم في مجده بعيدا، وهو ينظر إلى مدينة طروادة وسفن الآخيين - على وميض البرونز - وإلى القتلة والمقتولين!
وكلما ازداد الصبح انبلاجا، وتقدم النهار المقدس، كانت الرماح تزداد سدادا نحو أهدافها، فراح الناس يتساقطون، حتى إذا حانت الساعة التي يعد فيها الحطاب طعامه في ممرات أحد الجبال - وقد كل ساعداه من قطع الأشجار العالية، وحل التعب بروحه، واستبدت بقلبه الرغبة في الطعام الشهي - حطم الدانيون بشجاعتهم كتائب الأعداء، وهم ينادون زملاءهم وسط الصفوف. فهجم «أجاممنون» إلى قلب الأعداء بعيدا عن المقدمة، وقتل المحارب «بينور» - راعي الجيش - ومن بعده زميله «أوليوس»، سائق الخيول، فلقد وثب «أوليوس» من عربته ووقف أمامه، فهجم عليه الملك بغتة وضربه على جنبه برمحه الحاد، ولم ينثن الرمح من جراء خوذته البرونزية الثقيلة، بل إنه نفذ خلالها وخلال العظام، فتناثر مخه كله داخلها. وهكذا صرعه في عنفوانه. وما لبث «أجاممنون» - ملك البشر - أن ترك هذين هناك يلمعان وقد تعرى صدراهما - بعد أن خلع عنهما عباءتيهما - وذهب ليقتل «أسوس» و«أنتيفوس» ولدي بريام - وكان أحدهما ابن سفاح، والآخر وليد زواج شرعي - إذ كانا في عربة واحدة. وكان ابن السفاح يمسك بأعنة الخيل، بينما كان «أنتيفوس» المجيد يقف إلى جواره ليقاتل. وكان «أخيل» ذات مرة قد كبلهما بأغصان الصفصاف اللدنة، وسط مروج أيدا، إذ قبض عليهما وهما يرعيان الأغنام، ثم أطلق سراحهما مقابل فدية. أما الآن، فقد انقض ابن أتريوس، «أجاممنون» الواسع السلطان، فضرب أسوس في صدره - فوق الثدي - برمية من رمحه. كما أصاب «أنتيفوس» بضربة قوية من سيفه بجانب أذنه، وألقى به من العربة. ثم أسرع ليجرد كليهما من عدته الحربية الفاخرة، وكان يعرفهما معرفة جيدة؛ لأنه رآهما قبل ذلك بجانب السفن السريعة، عندما جاء بهما «أخيل » السريع القدمين من أيدا. وكما يفتك الليث في سهولة بصغار الغزالة السريعة العدو، عندما يقبض على الصغار بأنيابه القوية، بعد الانقضاض عليها في وكرها، فيسلبها حياتها الوادعة، والأم لا تملك أن تذود عنها، مهما تكن قريبة جدا منها؛ لأنها تخاف أن تحل بها نفس الرجفة المفزعة، فتطلق العنان لأقدامها خلال الشجيرات الكثيفة إلى الغابة، فيتساقط عرقها أمام هجمة ذلك الحيوان المتوحش، هكذا أيضا لم يكن في وسع أي من الطرواديين أن يبعد الهلاك عن هذين الأخوين، بل اضطروا جميعا إلى الفرار أمام الأرجوسيين.
وبعد ذلك هجم «أجاممنون» على «بايساندر»، وعلى «هيبولوخوس» الجريء في القتال، ابني «أنتيماخوس» الحكيم القلب، الذي أبى - أكثر من سواه - أن ترد هيلينا الجميلة الشعر ثانية إلى «مينيلاوس»، أملا في أن يتلقى ذهبا من «باريس»، وهدايا قيمة. ولقد هاجم الملك «أجاممنون» ولديه، وكانا في عربة واحدة يحاولان قيادة الجياد المسرعة، لأن الأعنة البراقة أفلتت من أيديهما، وراح الجوادان السريعان يجريان جامحين. فهجم ابن أتريوس على المحاربين، كأنه الليث الهصور، فتوسل إليه كلاهما. قائلين: «خذنا أحياء يا ابن أتريوس، واقبل فدية ثمينة، فإن قصر أبينا «أنتيماخوس» زاخر بكنوز كبيرة من البرونز والذهب والحديد، المشغولة بالكد والتعب، وإن أبانا ليمنحك منها فدية تفوق الحصر، إذا ما سمع أننا لا نزال على قيد الحياة، عند سفن الآخيين.»
ناپیژندل شوی مخ