وينفتح كتاب القلب فنعني ما نقول، ونقف على ما نود معرفته، ويرقب الواحد منا فيض حياته ويسمع همسها الشيق، ويلمس حركتها المتتابعة، فيتمتع بالحقول اللامعة، ويتمتع بالشمس والنسيم. وأخيرا ، أخيرا يداهم ذلك الفيض الحار هدوء حبس فيه الخيال المراوغ المدعو بالراحة: نسمة باردة تهب على وجهه، وسكون غير مرغوب فيه يهجع في صدره.
إذ ذاك تتخيله عارفا آكاما أشرقت عليها حياته وبحرا تسير إليه أعمار الأنهار!
هوامش
الفصل السادس
الذكرى السادسة
في صباح الغد طرق بابي باكرا ودخل علي طبيب البلدة الذي كان بصلاحه وعنايته صديق كل نفس فيها. شهد تعاقب جيلين اثنين من أهلها والأطفال الذين دخلوا العالم على يده وصلوا إلى دور الأبوة والأمومة، وما زال يعاملهم جميعا معاملة الأب لأبنائه. لم يتزوج مع أنه كان حتى في شيخوخته قويا جميلا. رأيته مذ عرفته كما يقف الآن أمامي وعيناه الزرقاوان الرائقتان يلمعان تحت حاجبيه وشعره الأبيض الكثيف يتلوى جعديا، وهو يلبس الجرابات البيضاء وهذا الحذاء ذا العرى الفضية، وعلى ذراعه هذا الرداء البني الذي قضى عمره جديدا. وعصاه هذه الذهبية الرأس كان يحملها بعينها أيام طفولتي إذ يقف إلى جانب سريري ليجس نبضي ويصف لي الدواء. ولقد تعددت الأمراض في حداثتي إلا أن إيماني بقدرة هذا الرجل كان كفيلا بالشفاء، لأني لم أشك لحظة في كفاءته وسطوته على جميع العلل، فكان قول والدتي بوجوب استدعاء الطبيب يوازي عندي قولها بوجوب حضور الخياط ليفصل لي قميصا بذلة. وما كان علي إلا أن أتناول أول جرعة من الدواء لأشعر ببدء الشفاء والتحسن.
دخل الغرفة قائلا: «كيف حالك يا صديقي الصغير؟ أرى على وجهك دلائل التعب فلا تكثر من الدرس. ليس لدي وقت طويل للحديث. إنما جئت أقول لك أن تكف عن زيارة الكونتس ماري. لقد صرفت الليل قرب سريرها وأنت علة اضطرابها فامتنع عن زيارتها إذا كانت حقيقة عزيزة عليك. ستذهب هي إلى البرية قريبا وخير لك أن تسافر أنت أيضا وتغيب مدة. والآن عم صباحا وكن أبدا ولدا صالحا كما هو عهدي بك.»
قال هذه الكلمات وتناول يدي ناظرا في عيني بعطف مستفهما كمن يود سلب الوعد سلبا. ثم غادرني ليعود الأطفال المرضى.
أدهشني أن يهتدي غريب إلى أسرار نفسي قبل أن أكون على علم تام بها. غير أني لم أفكر في ذلك إلا عندما بلغ الطبيب أطراف الشارع، فجاش قلبي كالماء طال مكوثه على النار فغلى فجأة وفار وعلا حتى ضاق عليه الإناء فتدفق.
كيف لا أرى صديقتي بعد الآن وأنا لا أحيا إلا ساعة أكون قربها؟ سأقابلها هادئا لا أتحرك، وصامتا لا أتكلم، بل أكتفي بالوقوف عند النافذة وأنظر إليها وهي نائمة تحلم. كيف لا أراها؟ وكيف يمكنني أن لا أراها؟ بل كيف لا أودعها؟ هي لا تعلم، ولا تستطيع أن تعلم، أني أحبها. وأنا لا أرجو شيئا ولا طمع لي في شيء وقلبي ينبض بانتظام في حضرتها. إنما أحتاج إلى الشعور بوجودها، أحتاج إلى استنشاق روحها، وعلي أن أزورها لأنها تنتظرني. ترى أيجمعنا القدر بلا مأرب؟ ألست أنا تعزيتها، وأليس أنها موضع راحتي؟ أتدني الحياة بين روحين شأنها بذرات الرمل في الصحراء ثم تبعث بريح سموم فتتلاعب بضعفها وتذرها في الهواء غبارا؟ أليس أن نفوسا سعدت بالتقارب والتفاهم تحافظ على سعادتها، ولا تفصل بينها قوة ولو أسرفت في الدفاع والنضال وقضت في سبيل ذلك الاتصال؟ وقد تحتقرني الفتاة إن أنا جازفت بحبها وأجفلت لأول إشارة إجفال تلك الشجرة عند دوي الرعد في الفضاء.
ناپیژندل شوی مخ