1952م
في خطر
كتبت في ذكرى العدوان الثلاثي على الوطن
كنت قد تلقيت البرقية من أبي في المساء. أجهشت بالبكاء عندما فضضتها وقرأت فيها: «أمك في خطر. احضر حالا.» وعندما أسرعت السيدة التي أسكن عندها من المطبخ لتعرف ما الخبر أخفيت وجهي بعيدا ومسحت دموعي بسرعة. سألتني: خير! حصل شيء لا سمح الله؟ قلت وأنا أتجه إلى غرفتي: خير إن شاء الله، أنا مسافر. وعندما ألحت في السؤال قلت لها: تلغراف من البلد، يظهر أن أمي مريضة. ورحت أرتدي ملابسي على عجل، بينما أم محمد تدعو الله لي بالسلامة، وأن يعيدني مجبور الخاطر.
لم أكد أصل إلى المحطة حتى وجدت تاكسيا في الانتظار. أدخلت رأسي من النافذة وقلت في لهفة: المنصورة؟ قال السائق في صوت خشن: نفر واحد؟ قلت: نعم. مستعجل جدا. سأدفع الفرق. ولم يتركني أكمل عبارتي، فصاح في غلظة لم أعرف سببها: طيب ادخل. جلست إلى جانبه في الكرسي الأمامي. كنت مشغولا بنفسي عن كل شيء حولي. أتحسس جيبي كل لحظة وأخرج منه البرقية لأقرأها ثم أدخلها في جيبي لأعود فأخرجها وأقرأها، ثم أدخلها في جيبي لأعود فأخرجها وأقرأها من جديد، كأنني أتمنى لو تغيرت حروفها، لو قلت لي مثلا أمك بخير، لو خانتني عيناي فلم تقعا على كلمة الخطر الراقدة في جيبي كالغول. ونبهتني أصوات حديث في العربة إلى المقعد الخلفي. التفت فوجدت هناك امرأتين، تلبس إحداهما السواد وتلف حول رأسها طرحة سوداء، أما الأخرى - وقد رجحت أن تكون ابنتها - فقد كانت مائلة إلى السمنة، ذات وجه أبيض محمر الخدود واسع العينين تلمع فيهما السعادة، ولم أتبين من نظرتي السريعة إلا أنها كانت ترتدي بلوزة رمادية مفتوحة، يتدلى على صدرها عقد من الفل تفوح رائحته في أرجاء العربة. قالت السيدة الكبيرة: قلت لك نسافر من ساعتها. أنت السبب. قالت الصغيرة: أنا أو الخياطة ؟ قالت الأخرى: كنت قعدت على دماغها بدل الجري في المحلات. أجابت الصغيرة: يعني نخبط المشوار ونرجع من غير الفستان. قالت السيدة الكبيرة في عصبية: زمان المعازيم وصلوا من الصبح. تدخل السائق في الحديث بغير أن يحرك رأسه الكبير وقال بصوته الخشن: مستحيل يا ست هانم، السكك ملغمة. سألت السيدة الكبيرة: ملغمة؟! فقال السائق وهو يثبت عينيه القاسيتين على الطريق: «دبابات ومصفحات وطيارات. ألم تسمعوا الأخبار من الصبح؟» قالت السيدة في أسى: سمعنا يا ابني. ربنا يجازي أولاد الحرام. إنما الناس زمانها سبقتنا على الفرح. أصل عقبال عندك ... ولم يتركها السائق تكمل حديثها، فقال وهو يدير مفتاح الراديو: إن شاء الله نرميهم في البحر!
انطلقت الأصوات تهدر من الراديو. موسيقى عسكرية صاخبة. حناجر تنشق هاتفة: الله أكبر. تصرخ كأنها تنقض على مدينة نائمة فتوقظها أو تستنفر قطعانا خالية البال لتنتبه إلى الوحش الذي يوشك أن يفترسها. والتوتر والوجوم والسخط يكاد يخنق حتى وجه الشمس الغاربة. وأنا أطل من نافذة العربة لكيلا يرى أحد دموعي، وأتحسس جيبي ربما للمرة المائة لأتحقق من حروف البرقية. ترى هل هي في خطر حقا أم ماتت وانتهى الأمر؟ هل كذبوا علي أيضا في هذه المرة، أم خافوا علي من الصدمة؟ هل أجدها راقدة على الفراش، فأقبل وجهها العجوز وأشم رائحة جلدها المميزة بطعم الملح والعرق وأجلس إلى جوارها أراقب صدرها يعلو ويهبط، أم فات الأوان؟ ثم ماذا أفعل لو وجدتها أسلمت الروح ودفنوها وانتهى الأمر؟ لا يمكن أن يحدث هذا. لا يمكن أن يدفنوها قبل حضوري. لا يمكن أن يكونوا مجردين من الإحساس إلى هذا الحد. قال السائق: سمعت البلاغ الأخير؟ قلت: هل هناك جديد؟ قال وهو يلتفت إلي فأرى وجهه الضخم ورقبته الغليظة: قضينا على أول موجة. قلت: الحمد لله. ولكن الحالة خطرة. أطلق ضحكة خشنة وقال: عليهم هم. نحن في بلادنا ولا يمكن يمسوها.
انطلق صوت المذيع الشاب كالعاصفة. كان يدوي في أذني كإعصار من النار وهو يقول: اضرب يا أخي. اضرب أعداء الله ، أعداء الوطن، أعداء الإنسان. اضرب بكل قوتك. اقتلهم قبل أن يقتلوك. قالت السيدة الكبيرة. يا ساتر يا رب. الله يقطع الإنجليز وسنينهم. وتأوهت الصغيرة بصوت لم أتبينه. ومرت إحدى عربات الجيش فزعق السائق: الله ينصركم. وغابت الشمس في الأفق الغربي وبدأ الطريق يظلم. وانطلقت أصوات الموسيقى العسكرية تهدر من الراديو.
كنا قد وصلنا بنها عندما أضاء السائق المصابيح الأمامية. وكان الناس متجمعين على الطريق يتابعون الأخبار ويطالعون الصحف. ولم يكن من العسير أن نلاحظ الوجوم على كل وجه، والعصبية في كل خطوة، والقلق في كل العيون. سيكون الليل قد جاء عندما أدخل القرية. وسيكون علي أن أعبر السكة الحديدية وأنحدر على الطريق الزراعي قبل أن يطالعني أول بيت فيها. هل أنسى آخر مرة تركت القرية؟ كانت أمي تقف على الباب، تطل برأسها على الطريق في انتظار العربة التي تقلني إلى المدينة. وعندما قبلتها لآخر مرة نظرت من النافذة ورأيت عينيها الحزينتين تشيعاني إلى آخر لحظة. ظلت واقفة في مكانها حتى اختفت العربة وانعطفت على الطريق الزراعي. كنت قد أفهمتها أنني سأدخل الجامعة وقلت لها إنني سأدرس تاريخ بلادنا هناك. وعندما قالت لي شد حيلك واغرورقت عيناها بالدموع لم أملك أنا أيضا أن أمنع نفسي من البكاء. لم تكن مريضة عندما تركتها، فمن أين جاءها المرض؟ صحيح أن وجهها كان ذابلا ونفسها متقطعا، ولكن هكذا كل الوجوه في قريتنا. عجيب ألا نفطن إلى أقرب الناس إلينا أو نهتم بمرضهم ونسألهم عن حالهم. كل هذا ولم تنقض بضعة أيام على سفري. لو أنها كاشفتني بمرضها فهل كنت أبقى إلى جانبها؟ أم إن الطموح يعمينا دائما عن أحب أحبابنا؟
صوت المذيع ما زال يهدر. الغضب الهائل يلهب الكلمات فترتعد وتنفجر: اضربهم يا أخي. اضربهم قبل أن يدنسوا أرضك. اقتلهم قبل أن يهتكوا عرضك. اقتلهم باسم أمك وأبيك وإخوتك وأولادك. اقتلهم باسم وطنك وتاريخك ومستقبلك. اقتلهم باسم الملايين المحرومين ... والشهداء والمظلومين.
نعم يا أمي سنقتلهم. سنرد المعتدين عن بابك. وهل يكونون أقوى من بختنصر والإسكندر؟ هل يكونون أعتى من بطليموس ولويس التاسع؟ نعم أنا معهم قادم إليك. سنقف حراسا على حائط العجوز. سنجذب أجراس النحاس المعلقة عليه. وسيأتي الناس يا حبيبتي من أسوان إلى العريش ليحموك ويردوا المعتدي عنك. الشيخ والطفل والمرأة سيأتون. المتعب من الحياة لن يتعب والعازف الأعمى على القيثارة لن ينعى الحياة. وستجمع إيزيس الجميلة أشلاء روحنا من تحت أقدام الغاضبين. صحيح أن النقاب على وجهها ملطخ الآن بالوحل. صحيح أن ثقوب الرصاص تملؤه والتراب الذي تثيره أرجل المشاة يعفره. لكن إيزيس لن تهدأ حتى تعثر عليه وتضم أشلاءه. إيزيس يا حبيبتي لن تهدأ حتى تبعثي من جديد. وعندما نطارد «معات» الظلم من سطح الأرض، سيعود الحق والعدل مرة ثانية. وستنهضين من على فراشك وتعانقي ابنك.
ناپیژندل شوی مخ