الإهداء
ابن السلطان
حادثة
واحد من أهل الكهف
الصبر
التابوت
المدام
القط
مولانا السلطان
الزواج الأبدي
في خطر
القضية
اليتيم
أيها الحبيب
الإهداء
ابن السلطان
حادثة
واحد من أهل الكهف
الصبر
التابوت
المدام
القط
مولانا السلطان
الزواج الأبدي
في خطر
القضية
اليتيم
أيها الحبيب
ابن السلطان
ابن السلطان
وقصص أخرى
تأليف
عبد الغفار مكاوي
الإهداء
إلى ذكرى أمي وأبي.
ابن السلطان
رأيته لأول مرة في دكان أبي.
كنت في ذلك الحين في السابعة أو الثامنة من عمري أختلف على المدرسة الابتدائية الواقعة في البلدة المجاورة على حمار هزيل يعرف الطريق أكثر مما أعرفه، وربما كان يعرف عن العالم أكثر مما أعرف.
كنت أقرأ درسا في كتاب الجغرافيا، عن منطقة عجيبة اسمها المنطقة الاستوائية. وكان اليوم من أيام الصيف القائظة، وجسدي ينضح بالعرق، ورأسي مثل قدرة الفول تغلي وتفور. أغلقت الكتاب وأخذت أفكر فيما قرأت. هل يمكن أن تكون الحرارة في خط الاستواء أشد مما هي عليه في بلدنا؟ وأيقنت أن الكتاب لا ريب مخطئ، وأن خط الاستواء يمر من بلدنا بغير شك. وأقبلت على الساحة المواجهة أبحث فيها عن مكان الخط الملتهب، فلم أر أمامي غير سوق القرية يحوطه سور خشبي مهدم في أكثر أجزائه، وترقد فيه قطعان من الخرفان والجاموس والحمير. وأحسست بفيض من السعادة وأنا أنظر إلى هذه القطعان التي لا تعرف شيئا عن خط الاستواء.
كان ذلك في يوم السوق. وكان دكان أبي في مدخل القرية، يلتقي فيه الفلاحون القادمون من الكفور المجاورة فيطلبون طبقا من الفول، أو يستريحون في الظل. وكنت أعجب لأن أبي يعرفهم جميعا، وأعجب أكثر من ذلك لأنه يحبهم جميعا؛ فلا يكاد أحدهم يدخل الدكان مجهدا من عناء السكة الطويلة حتى يستقبله مرحبا مناديا باسمه، سائلا عن الصحة والعيال، بل لقد كان يعرف من طلق منهم زوجته، ومن مات ابنه، أو فطست بهيمته أو سرق أولاد الحرام جرنه. كل منهم يجد الكلمة الحلوة عنده: ربنا يعوضك خيرا، كل شيء قسمة ونصيب، الحمد لله على الستر، النسوان ليس لها أمان، والمرأة مثل القطة تأكل وتنكر، الأمر أمره؛ لهذا كان أبي تاجرا ناجحا، وكل من يحاول أن يفتح مطعما إلى جوارنا تكسد تجارته، ويعزل بعد أيام.
كنت في ذلك اليوم مسترخيا في الظل، أراقب ما يجري في السوق، وكان أبي قد سمع كلام الفلاحين، فلم يعد يجبرني على العمل معه، أو يؤنبني على كسلي، بل إنه قد غفر لي كل شقاوتي حين علم أنني عرفت الجهات الأربع، وأنني أضع له سجادة الصلاة ناحية القبلة تماما.
وكنت أتابع وجوه الزبائن يدخلون ويخرجون من دكاننا دون أن أجد بينها ما يلفت النظر - فقد كانوا جميعا كأنهم أولاد أب واحد - حينما وجدت رجلا يقف أمامي ويحملق في وجهي. الحقيقة أنني خفت منه في أول الأمر، وأيقنت أنه لا يمكن إلا أن يكون مجذوبا أو وليا من أولياء الله. كانت شفتاه الدقيقتان، المجروحتان في أكثر من موضع، ترتعشان بصوت خفيض. وكان وجهه شاحبا وصدغاه غائرين، وعظام خديه بارزة وعيناه المفتوحتان كعيني ذئب جائع تقاومان جفنين يريدان أن ينطبقا عليهما. وكان العرق ينضح من جبهته، ويسيل في خطوط سوداء متعرجة على خديه، كأنه دماء جمدت من أثر جرح قديم. الحق أنني استغرقت في النظر إليه فلم أتبين كلامه. ولو أنني سمعته حينئذ لقلت له: لا تتكلم. انتظر حتى أشبع منك! وانتبهت على صياح الزبائن من الداخل وعلى اثنين منهم يندفعان إلى عتبة الدكان ويجذبان الرجل وأحدهما يصرخ مهللا: شوفوا يا جماعة ... ابن السلطان!
ويصيح الرجل وهو يضربه على ظهره: والله سلامات، كنت تائها يا عم؟ ويجيب رجل آخر ترك طعامه ليشترك في استقبال الزائر الجديد: من كثرة ما لف في الأرض، قلبها من ظهرها لبطنها. ويضحك الجميع، ويقبلون على الضيف وهم يضحكون ويثرثرون ويأكلون. وكان أبي أكثرهم بشاشة في وجهه لأنه اعتبره ضيفه هو. وترك مكانه وأقبل عليه يربت على كتفه ويتحسس عظام ظهره: والله زمان! هكذا تنسى الأحباب والأصحاب؟ وحشتني، وتنسى مطعم الصدق والأمانة؟ وحشتني قوي.
ولبث الرجل جامدا كالتمثال، عيناه ذاهلتان تجولان في وجوه الحاضرين، كأنه يستعرض مخلوقات من فصيلة أخرى ربما كان يفضل في هذه الساعة أن يستلقي لينام كالميت. ونظر أبي إليه، وفحصه بعينيه فترة قبل أن يقول: ابن السلطان، ما لك؟ فأجاب كأنه لا يفهم: هه؟ فعاد أبي يقول وهو يخبط على ظهره: يعني لا تضحك ولا تتكلم؟ وتدخل رجل يمزج الحنان والشوق في صوته: ابن السلطان دائما مسافر، من أين جئت الآن؟
فقال الرجل بدون أن تطرف عيناه: من الشرق. فعاد يسأله: وكيف أحوال الرعية؟
ولكنه لم يجب، بل التفت إلى أبي قائلا: عم إبراهيم.
فقال أبي: أمرك يا سلطان.
فعاد يقول في صوت ود لو لم يسمعه أحد: ميت من الجوع. ويبدو أن هذه الكلمة قد لمست قلب أبي فأسرع إلى الأطباق يعدها. وفي لحظة كان الطعام أمام الزبون الجديد الذي أقبل عليه بنفس مفتوحة. ولما شبع الزبائن من النظر إليه، والحديث معه، بدءوا يتفرقون واحدا بعد الآخر إلى السوق أو البلد، أو القهوة المجاورة.
لم يتح لي في ذلك اليوم أن أتحدث معه. ولكنني اعتدت بعد ذلك أن أراه في دكان أبي؛ فقد كان من الزبائن المستديمين، وكان أبي يخصه بكثير من العطف، ومن الطعام الجيد - وقد يكون العطف في بعض الأحيان عملا تجاريا ناجحا - وكان وجوده يشيع في المكان جوا من الألفة والبهجة والمرح. ولكنه كان في كل يوم يبدو في زي جديد، مرة يلبس عمامة كبيرة، ويتدثر بعباءة فضفاضة كالمغاربة، وحينا نراه وعلى ظهره قربة كبيرة يمر بها على الناس في السوق، وقد أراه على فرس كما حدث في مولد صاحب المقام؛ إذ علمت أنه أصبح من السادة الرفاعية، وأنه قد حمل الراية، وتبعه المريدون، يسيرون في موكب طويل يشق طرقات البلد، ويملأ جوها بدقات الطبول، ورنين الصاجات، وعبير البخور.
وكان يمكن أن يظل «الشيخ سيد» مغمورا خامل الذكر. لولا أنه جر على نفسه المتاعب. من كان يصدق أن سيرته يمكن أن تتجاوز الفلاحين، وعمال الطرق، وجامعي الدودة، وأطفال المدرسة الأولية، إلى أسماع السلطات؟ لا شك أن الشيخ سيد هو الذي جنى هذا على نفسه؛ فلولا طيشه وسوء تدبيره لما وضع رجله في النقطة. لقد أتعب الرجال الثلاثة «الذين ندبتهم النقطة من المديرية رأسا» في تقصي أحواله ودوخهم بين الأسواق والغيطان والجوامع والشوارع.
فقد دأب على السير بين الفلاحين والتجار الوافدين على القرية في أيام السوق، والهتاف بصوت عال: «يحيا العدل». وبالطبع لم يكن أحد ينتبه إليه، أو يسأله عن معنى ما يقول؛ فقد اشتهر عنه أنه قد صار من أحباب الله. ولو أنه اقتصر على هذا الهتاف وحده ما كان في الأمر ما يدعو إلى القلق؛ فلقد ضبطوه في بعض الأحيان وهو يهتف: «يسقط الظلم».
ويوما علمت أنه قد مثل أمام ضابط النقطة. وكان كعادته حافي القدمين مهلهل الثياب، منفوش الشعر، طويل اللحية. قال له الضابط وهو يتفرس في وجهه: اسمك؟ - ابن السلطان. - ماذا؟
فمال أحد المخبرين على أذنه وهمس فيها شيئا، وعاد ضابط النقطة يسأله: وأبوك، أين هو؟
فأجاب «الشيخ سيد» دون تردد: في الشرق. - في الهند مثلا؟
فهتف «الشيخ سيد»: لا، في الصين!
ولم يستطع الضابط أن يكتم ضحكه، فأقبل عليه وقد زاد اهتمامه بأمره: عال، عال. وأين تقع الصين؟
فمد «الشيخ سيد» ذراعه وأشار ناحية الشرق: من هنا.
وسأل الضابط بعد أن نهض من مكتبه وأقبل نحوه يربت على كتفه كأنه يفحص حيوانا أليفا: وماذا يفعل هناك؟
فأجاب «الشيخ سيد» في حماس: يحارب الكفرة.
فرفع الضابط حاجبيه من الدهشة وعاد يسأل: ومن هم؟ الصينيين؟
فصاح «الشيخ سيد» وهو يعجب من جهله: لا، العساكر واليهود! - وهل هو هناك من زمان؟ - من ألف سنة!
وضع الضابط يده على فمه، ثم وضعها على بطنه، وقال بعد لحظة: يا سلام! لا بد أنه أفناهم عن آخرهم. ومتى يعود؟
فبرقت عينا «الشيخ سيد»: هل تشك في عودته؟ إنه سيعود حتما، سيعود ليمحق الكفرة، سيعود راكبا.
فقاطعه الضابط: حمارا؟!
فاستنكر «الشيخ سيد» ما يبديه محدثه من الامتهان لمقام السلطان، وصاح غاضبا: ما هذا! هل يعقل أن يركب السلطان حمارا؟ إنه يركب فرسا أبيض، ويلبس أبيض في أبيض، وعلى رأسه ...
ولم يشك الضابط في أنه قد بدأ يهذي. وأراد أن يسأله سؤالا أخيرا: وهل السلطان هو أبوك حقا؟
فهاج «الشيخ سيد»، وتهدج صوته وهو يصيح: إنه أبي، وأب جميع الناس، يحبهم ويحبونه، وحين يرونه قادما على ظهر فرسه الأبيض الأصيل يجرون نحوه من البيوت والحقول والأسواق، سيقبلون قدميه ويقولون له: شرفت بلدنا يا مولانا السلطان.
وانفجر «الشيخ سيد» باكيا. كان في بكائه شيء أعمق من الحسرة ومن اليأس، مثل طفل ضاع منه أبوه في الزحام فوقف على الطريق يسأل كل عابر سبيل: هل رأيت أبي؟ فلما لم يجد أحدا يعرفه بكى وصرخ، لا لأن أباه ضاع منه، بل لأنه وجد بين الناس من يجهله. •••
لم يبق في القرية من لم يسمع بحكاية «الشيخ سيد». وعرف الناس أن الإنسان يمكن أن يصبح مشهورا إذا ما سمعت به السلطات الرسمية. وهكذا بدءوا يهتمون بشأنه، وتوالت العطايا عليه، وعطف بعضهم عليه فأعطاه حذاء، وتصدق تاجر أقمشة فوهبه ثوبا من الدمور المعتبر قائلا له: خذ يا عم، ينفع جلبابا وكفنا! والحقيقة أنه لم يعرف كيف يفصله؛ فإن الترزي الوحيد في بلدنا كان رجلا عجوزا بخيلا، ولم يكن أحد يتصور أن يتصدق عليه بخيط؛ لذلك بقي الثوب قماشا يحمله على كتفه إلى أن جاء يوم لم يره أحد معه، ولم نعرف إن كان قد سرق منه وهو نائم أو خطفه اللصوص. وبمرور الأيام نفض الناس أيديهم منه، ولم يعد أحد يهتم بأمره أو يتصدق عليه بشيء، بل إن أبي الذي كان يدعوه إلى الطعام كلما رآه، قد خفف من عنايته به. إلى أن جاء يوم افتقدته فيه فلم أجده، وسمعت أنه يتجول بين العزب المجاورة، وأن حظه هناك لم يكن أفضل من حظه عندنا.
وذات يوم كنت أجلس في الدكان وحدي؛ فقد لزم أبي الفراش، واضطررت أن أتغيب عن المدرسة وأن أباشر حركة الدكان بنفسي. الحق أنني كنت أخشى أن يأتي يوم السوق علي وأنا وحدي؛ إذ كيف أدير حركة المحل؟ وكيف أتصرف مع كل هذا العدد من الزبائن؟ ولست أدري ما الذي ذكرني بالشيخ سيد؛ فقد شعرت في نفسي بحنين غامض إليه، وتمنيت أن أراه إلى جانبي.
لذلك لم أفرح كفرحتي حين رأيته ينحدر على السكة من بعيد، كأنه عمود من الدخان يطول ويقصر. كانت له مشية تميزه عمن سواه، ولكنني دهشت قليلا حين وجدته يربط إحدى ذراعيه برباط كبير، ويتوكأ على عصا، وهو الذي كان مثل الجن الأحمر.
أقبلت عليه مرحبا. ولو أطعت نفسي لعانقته: ما هذا؟ كفى الله الشر!
فأجاب وهو يجلس إلى إحدى الموائد: الحمد لله، جاءت سليمة.
فقلت محاولا أن أكتم فرحتي به: سمعت أن قطاع الطريق هجموا عليك.
فضحك من قلبه، وتلفت ينظر في الدكان: أبوك ليس هنا؟ ثم غمغم قائلا: هل تعرف مولد سيدك إبراهيم الدسوقي؟ - سمعت أنه في هذين اليومين. - حسن، حاولت أن أحضر الزفة، وأن أركب الفرس، ولكنهم لم يصدقوا أنني ابن السلطان. ألم أقل لك إنهم كفرة! جذبوني من على الفرس، ومن حسن حظي أن ذراعي هي التي كسرت، لا رقبتي!
وأردت أن أغتنم هذه المصادفة التي جمعتني به وحدنا، فاستدرجته قائلا: ألم تعرف ما حدث لي؟!
فأقبل علي في اهتمام، وفرحت بالقلق البادي في عينيه، ثم قلت أخيرا: رأيت أباك في المنام. فسألني غير مصدق: حقا؟
قلت وأنا أصطنع لهجة الكبار حين يتحدثون في أمر خطير: وهل عرفتني كذابا؟ لا، لا، زعلتني منك.
فعاد يسأل في شوق: طيب، وماذا كان يركب؟
فقلت بعد أن تركته معلقا في لحظة انتظار: كان يركب يا سيدي فرسا أبيض، ويلبس أبيض في أبيض.
فصاح: تمام! تمام! - وكم كان يشبهك! جل سبحانه! أنفك، عينيك، ملامح وجهك. ألم يظهر لك أيضا في المنام؟! - طبعا طبعا، في المنام وفي اليقظة. وتردد لحظة ثم قال: ألا يمكنك أولا أن تعطيني لقمة، لي ثلاثة أيام لم أذق طعم الأكل. الناس أصبحوا كفرة يا ابني، يغلقون الباب في وجهك، وإذا فتحوه فلكي يقولوا لك: اذهب! •••
وقمت من فوري أجهز له الطعام، وشعرت بيني وبين نفسي بالخجل لأنني لم أبدأه بالسؤال، وبذلت غاية جهدي في توفير طبق شهي من الفول وآخر من السلاطة والباذنجان المخلل، ووضعت أمامه ثلاثة أرغفة، ثم جلست أراقبه، وأحسست كأنني قد كبرت فجأة وكأنني أراقب ابني وهو يأكل، واستغرقت في سماعه وهو يقول: سوف يعود أبي يا «محمد»، أمي قالت لي ذلك، قالته وهي على فراش الموت، وحين يعود لن تجدني أجوع أو أتشرد في الشوارع، كل الناس سيكونون إخوتي، والسلطان هو أبونا جميعا. سوف يأتي من هنا (وأشار ناحية الشرق). طبعا أنت تعرف الشرق من الغرب. هات كوب ماء. إنه يتقدم الموكب، في يده سيف أبيض، طوله ألف ذراع، وخلفه جيش كبير من الفرسان. والغبار الذي تثيره أرجل الخيل يحجب وجه الشمس. سيهرع الناس إليه من كل مكان يبكون عند قدميه، ويقولون أين أنت يا مولانا السلطان؟ نحن في انتظارك من مائة سنة، من مائتين، من ألف سنة وأكثر. وستحني الأشجار رءوسها لتحيته، وتفزع الحيوانات إليه، وتتمرغ عند قدميه تمأمئ وتعوي وتخور وتصهل. حريم المملكة كلهم حريمه، لن تكون لي زوجة. هات كوبة ماء، وقفت لقمة في حلقي، الله يلعن النسوان وسيرتهم! لن تغلق أبواب البيوت بعد اليوم في وجهي، لن تكون هناك أبواب على الإطلاق. سيقول أبي لليتيم: لا تحزن، إنني أبوك، وللجائع والعاري والمريض. وسوف تقبل الرعية قدميه وتقول له: «شرفتنا يا مولانا السلطان. نحن هنا في انتظارك من زمان، من زمان.» أكلة عظيمة. الله يعمر بيتك. لو كان الواحد يأكل مرة واحدة في العمر وينتهي! الحمد لله. •••
كنت قد أخذت بكلامه، فبقيت أنظر إليه وأنا لا أدري هل أضحك أو أبكي. ومسح فمه بكمه، وتناول عصاه، وشكرني، ووعدني أن يدفع لي في القريب.
ووجدتني بعد لحظة أقف في الظل أمام الدكان، وأتجه ببصري ناحية المشرق، حيث يغيب شبحه.
ومع أنه قد انقضت على ذلك عشرة أعوام أو يزيد، ولم أعد أسمع شيئا عنه فلم أزل إلى اليوم، كلما رددت بصري في الفضاء، أنظر إلى هذه الجهة، ربما كنت أنتظر أن يظهر في الأفق فرس أبيض على ظهره فارس أبيض، في يده سيف طوله ألف ذراع، وأن أرى موكب السلطان وهو يتقدم من بعيد والغبار الذي يثيره يحجب وجه الشمس.
1955م
حادثة
يا أيها النوم الجميل! لم لا تزور أجفان أمي؟
يا أعدل الملوك والحكام! لم لا تعقد تاجك على رأس أمي؟
أنت سلطان كبير، فلم لا تجعلنا من رعيتك؟
تقلبت أمي في الفراش. وضعت يدها على قلبها وقالت: «آه». حاولت أن تنام على جنبها الأيمن، على جنبها الأيسر. وفتحت أنا أيضا عيني، فتحتهما على حلم مخيف. وحين وجدت المصباح الزيتي الصغير معلقا في مكانه على الحائط، يحارب الظلال التي تزدحم عليه، قلت في نفسي: النور ساهر لا ينام.
قالت أمي: لم لا تنام يا حبيبي؟
وتربعت على الفراش.
قلت: الوحوش والجمال تدوس على رأسي.
قالت: خير إن شاء الله. اقرأ الفاتحة ونم.
ووضعت يدها على قلبها وقالت: «آه».
وعادت الوحوش والجمال تدوس على رأسي. وحوش لها أجساد آدميين، ورءوس حمير. تبتلعني في الظلام وأبتلعها.
فتحت عيني، تثاءبت، النور ساهر لا ينام.
قالت أمي: عل المصباح.
ونهضت من الفراش وعليته. كان الكرسي لا يزال في موضعه، كما جلس عليه أبي منذ قليل. عليه طربوشه وعصاه وجريدته، وأمامه حذاؤه الأسود الملطخ بالوحل. تناولت الجريدة ودخلت تحت اللحاف.
قالت أمي: اقرأ «الجرنال» يا حبيبي. اقرأ وعل صوتك. يا ترى ماذا جرى في الدنيا؟
وأخذت أقلب الصفحات حتى وصلت إلى صفحة الحوادث. لا شك أنني سأجد شيئا يسليها: ياه! حادثة يا أمي. - اللهم اجعله خير. - حادثة فظيعة. - أين يا ابني؟ - في مصر. - يا ترى قامت حريقة؟ قل يا ابني وسمعني! - لا، لا. اسمعي: مصرع سيدة وطفلها. - مصرع؟ - يعني موت، موت. - ربنا يلطف بعبيده. ويحفظكم يا أولادي.
ولم أنتظر حتى تكمل دعاءها، فبدأت أقرأ: «بينما كانت إحدى السيدات تعبر شارع السيدة صباح اليوم وعلى ذراعها طفلها ؛ إذ تعثر ذيل فستانها في شريط الترام فوقعت على الأرض. وتصادف مرور الترام رقم 22 في هذه اللحظة. ويبدو أن السائق لم يتمكن من تجنب الحادث. هذا، وقد قامت على الفور قوة من بوليس قسم السيدة وعاينت الحادث. كما ألقي القبض على السائق رهن التحقيق.» - يا عيني، هي وابنها؟ - نعم يا أمي، هي وابنها. - اقرأ يا ابني في الجرنال، اقرأ مرة ثانية وقل لي.
وفتحت الجريدة مرة أخرى، وقرأت الخبر من جديد: نعم يا أمي، هي وابنها. الترام داس عليها. - لا إله إلا الله. يا ليته ما عاش. - من؟ - الولد يا ابني. لا عاش ولا تمتع بالدنيا. - حظه يا أمي. - لكن الولد؟ - ماذا؟ - كان يرضع؟ - أظن. - وساعتها كان عمره كم سنة؟ اقرأ في الجرنال. يا ترى فطمته؟ - لا أدري يا أمي. - يا ترى يا ابني مات شبعان؟ - شبعان أو جوعان. المهم أن الترام داس عليه هو وأمه. - على صدره يا ابني؟ - الجرنال لم يكتب هذا. لا بد أن الترام قطعه. - الطف يا رب. نجنا يا حبيبي، من الدنيا وما فيها.
واحمرت عينا أمي، فرت دمعتان على خدها. دفنت رأسها بين يديها وانخرطت في البكاء كأنها تذكرت أمواتها وأموات المسلمين: يا ترى يا ابني دفنوها؟ - لا بد أن الحكومة دفنتها. - الحكومة؟ وأهلها يا ابني؟ - في هذه الأحوال يا أمي إذا لم يظهر للميت أهل تدفنه الحكومة. - ميتة غريبة يا حبيبتي. من مات غريبا مات شهيدا. وبلدها يا ابني؟ - يظهر أنها من الفلاحين. - مكتوب في الجرنال؟ - لا لكن الجرنال يقول إنها تعثرت في ذيلها. والناس في مصر فساتينهم قصيرة. الفلاحون فقط يلبسون الهدوم الطويلة. ثم إنها كانت في زيارة السيدة. - شاء الله يا أم هاشم. لها الجنة يا ابني. يا بخت من جاور أهل البيت.
بدأ النوم يثقل جفوني فتثاءبت. وعادت الوحوش المظلمة تفتح أفواهها وتبتلعني. كتل سوداء تهاجمني وتدوس على جسدي. كلما أغمضت عيني وقفت على صدري. وسمعت صوت أمي كأنه يأتي من بعيد: يا ترى يا ابني أهلها استدلوا عليها ؟ - هه ؟ - أولادها وزوجها. يا ترى بلغتهم الحكومة؟ - لا أعلم يا أمي. - يا ترى عرفوا الخبر؟ أو راحوا ينتظرونها على المحطة؟ - هه؟ ماذا تقولين؟ - وأولادها ربنا عالم بحالهم. كان عندها كام ولد؟ - لا أدري يا أمي، لا أدري. - قم يا ابني اقرأ في الجرنال. اقرأ وسمعني. - كل ما في الجرنال قرأته عليك. دعيني أنام. - طيب يا ابني. نام انت. نام.
وتناولت الجريدة بين يديها. أخذت تقلبها في كل ناحية، وتقربها من عينيها، كأنها تنتظر من الحروف أن تفتح فمها وتتكلم. كان آخر ما سمعته منها آهة ضعيفة. قلت في نفسي: لا بد أنها تضع الآن يدها على قلبها. •••
حدث هذا يا أمي منذ زمن بعيد. بيننا وبينه هوة عميقة.
أما أنت يا حبيبتي فقد مت. صحت ذات مرة: «آه»، ووضعت يدك على قلبك. ثم دفنوك في قبر صغير. كتب عليه اسمك بخط رديء.
وأما أنا يا أمي فقد كبرت. عرفت أشياء كثيرة عن هذا العالم. ونمت خمس شعرات بيض في رأسي. أراها واضحة كلما نظرت في المرآة. وحدثت أشياء كثيرة قال عنها الناس إنها غيرت وجه التاريخ.
فقد اكتشف دواء لشلل الأطفال. وأوشك العلماء أن يعرفوا جرثومة السرطان. وانتشر وباء في آسيا وأفريقيا. وحدث زلزال في اليونان. وثار العبيد في أفريقيا. ودار قمر جديد فوق رءوسنا.
ومنذ أكثر من عشرة أعوام يا أمي، ذات صباح دافئ من شهر يوليو، قامت طائرة يقودها طيار ظل يشرب حتى سكر، متجهة إلى بلد اسمها اليابان - أنت لا تعرفين شيئا عن خريطة هذه الدنيا ولا كنت تصدقين أن لها خريطة - وحين وصل إلى مدينة اسمها هيروشيما ألقى عليها كرة صغيرة. قال عنها الناس في شوارع بلدتنا إنها في حجم البيضة. في هذا اليوم قتل ثمانون ألفا وجرح سبعون ألفا. احترقت المدينة كلها يا أمي. شوهت الأشعة اللافحة سبعة صيادين كانوا يجدفون في عرض المحيط. وما زال الناس من أهل هذه المدينة حتى اليوم يموتون.
ترى لو أنني حكيت لك هذا يا أمي فماذا كنت تقولين ؟
أتراك يا أمي كنت تصدقين؟!
1957م
واحد من أهل الكهف
كان ينحدر من شارع الموسكي في طريقه إلى ميدان العتبة. وكان اليوم من أيام يوليو القائظة؛ الحر يكتم الأنفاس، والجو ملبد بالغبار، ورائحة العرق واللهب والزحام تثقل الصدور، وضجيج العربات والناس والباعة تحث الأرجل على الفرار من هذا الجحيم. وكان يسرع إلى الرصيف بحثا عن الظل حين سمع صوتا ينادي: صابر. لم يلفت في أول الأمر؛ فلم يكن يدور في وهمه أن يعرف أحد اسمه في مثل هذه المنطقة المزدحمة من المدينة، وحتى لو عرفه أحد فلم يكن يتصور أن ينتبه إلى وجوده بينما الناس جميعا مشغولون بالفرار إلى بيوتهم ومسرعون كالوحوش الضالة إلى مكان يحتمون فيه من الغضب الجهنمي الذي أعلنته السماء على الأرض. ولكن الصوت عاد ينادي في إلحاح: صابر، صابر محمد مرزوق. ورأى عربة فخمة سوداء تميل إلى جانب الشارع حتى تحاذيه، وذراعا بضة تخرج من نافذتها وتشير إليه. توقف كالمأخوذ وفتح فمه يريد أن يعتذر عن هذا الخطأ غير المقصود، ولكن دهشته زادت حين رأى وجها نسائيا يفتح له الباب ويصيح به في نبرة قاطعة: اركب! ولم يتمالك نفسه من إطلاق صيحة جعلت بعض المارة يتوقفون ويلتفتون نحوه في اشمئزاز وحب استطلاع: بريسكا! وجذبته اليد البضة إلى داخل العربة قبل أن يتمكن من الإفاقة من دهشته فألقى بجسده على المقعد الأمامي والصوت الحاسم ذو البحة التي يعرفها يقول كأنه يصدر أمرا عسكريا: «أغلق الباب. ليس عندنا وقت. على الله لا نكون أخذنا مخالفة.» وأسرعت العربة تنهب الأرض التي بدت كأنها لوح من الفحم تمده الشمس في كل لحظة بمزيد من النار فيئن ويتلوى ويزفر ويدخن.
لم يكد ينتبه إلى نفسه وهو ما يزال بين مصدق ومكذب لوجوده في داخل العربة حتى تذكر أنه لم يسلم عليها، على بريسكا القديمة العزيزة التي تجلس الآن إلى جانبه ويداها على عجلة القيادة. أراح ظهره المتعب إلى المسند المريح، والتقط نفسا عميقا، ثم مد يده في خجل: نسيت أن أصافحك . فأحس بيد تفتش عن يده في سرعة ولا تكاد تلمسها حتى تفلت بسرعة إلى عجلة القيادة، وصوت رقيق يقول معاتبا في شبه سخرية: هل نسيت أن الكلام مع السائق ممنوع؟ ابتسم. رفع عينيه يتملى من الوجه الذي لم يكن قد وجد الفرصة حتى الآن ليشبع منه. كان هو نفس الوجه الأبيض المستدير الذي طالما تفرس في تقاطيعه السمحة المنسقة، وأنفه الدقيق الطويل كأنف نفرتيتي، وشفتيه الضيقتين المزمومتين اللتين طالما بذل من المحاولات ليستخرج منهما كنوزهما الشحيحة، والعينين الواسعتين الشديدتي السواد، المندهشتين دائما لسبب وبغير سبب، يظلهما حاجبان ثقيلان طالما قال عنهما إنهما حارسان عنيدان، كل واحد منهما عبد أسود ممدد فوقهما يذود المتطفلين العطاش عن البئر العميقة. وابتسم لذكرياته التي بدت له طائشة وطفلية وسخيفة. واختلس نظرة أخرى إلى الوجه المحبوب ليرى إن كان قد تغير فيه شيء. كان الشعر الفاحم قد صفف بطريقة لم يسترح إليها، جعلته يحن إلى الخصلة الطويلة التي كانت تتدلى منه ذات يوم وتهتز مع هزة الرأس في حرية وبراءة وطيش عرفها عنها. وكانت هناك صرامة لم يألفها تكاد تحفر تجعيدة على الجبهة العريضة المتكبرة وتكسو الوجه كله بمسحة من الجد والتسرع والعزيمة التي لم يألفها فيها. وضحك فالتفتت إليه التفاتة سريعة، لا عن اهتمام حقيقي، بل ربما لتثبت له أنها لم تنس وجوده إلى جوارها أو لتخفف قليلا من جو المقابلة الذي خلا حتى الآن من المجاملة. وضحك مرة أخرى وهو يقول في نفسه: وماذا يهمني؟ أليست هي بريسكا العزيزة نفسها؟ قبل أن يتجه نحوها بصوت يحاول ألا ينفض عنه ضباب الحلم: من كان يتصور أننا سنتلاقى؟
قالت بغير أن تبتسم أو تلتفت إليه: وفي هذا الحر!
فاستطرد كأنه يحاول أن ينتزع نفسه من الضباب فلا يستطيع: وبعد اثني عشر عاما.
فقالت في فتور لم يلاحظه: ألم تخطئ في العدد؟
فأجاب مؤكدا دون أن يفطن إلى الاشمئزاز الذي بدا في حركة شفتيها الممتعضتين: بالعكس، أستطيع أن أعدهم باليوم، بل بالساعة إذا أردت. إنهم اثنا عشر عاما وشهران و...
قالت مقاطعة وعيناها لا تزالان تتابعان الطريق الذي أصبح يسير الآن لدهشته محاذيا للنيل: تقصد أننا عجزنا إلى هذا الحد؟ فأجاب في خجل من اكتشف غلطته بعد فوات الأوان، وفي صوت متحمس يكاد يسترضيها: بالعكس، أنت صغرت عن سنك (أراد أن يطري جمالها الرائع ولكنه خاف أن يتحول إلى خطيب)، أما أنا فقد زدت عن سني الذي تعرفينه.
سألته كأنها تسامحه: أعرفه؟
فود لو يستطيع أن يهزها من كتفها ليذكرها وهو يقول في ضحكة أزعجه رنينها الأجوف: هل نسيت أن عمري ثلاثمائة عام؟! والآن زدت عليها اثني عشر!
ضحكت ضحكة خيل إليه أنها صادرة من أعماق قلبها، وأسعده أنه استطاع أن ينتزع منها هذه الضحكة الصافية بعد هذه السنين الطويلة وهو على حاله المتواضع الذي كاد في غمرة حماسه أن ينساه، وساعده على أن يعود إلى ذكرياته انهماكها في قيادة العربة. كان ذلك حين تعرف عليها لأول مرة في المدرسة الثانوية في طنطا. كان يجلس في الفناء كعادته بعد الظهيرة يذاكر دوره في مسرحية أهل الكهف، ويجرب الإلقاء بصوته الجهوري حين سمع صوت الأستاذ حامد ينادي عليه في لهفة وفرح: ميشلينيا، يا ولد يا ميشلينيا! وأسرع يجري نحو مصدر الصوت وهو يكاد يكذب عينيه. كان الأستاذ حامد يقف بقامته النحيلة، ونظارته السميكة تعكس أشعة الشمس الغاربة، وشعره المنفوش يكاد يغطي أذنيه، وذراعه الطويلة الضامرة العروق تشير إليه. وكانت هي تقف معه، صغيرة وعبيطة في سن التلاميذ، تلبس بلوزة حريرية بيضاء وجونلة رمادية مخططة وإلى جانبها رجل ضخم في ملابس عسكرية أدرك لأول نظرة أنه أبوها. قدمه الأستاذ حامد مدرس التاريخ والمشرف على فريق التمثيل إليهما وهو يربت على رأسه ويقول: حضرته الأستاذ ميشلينيا! ثم وهو يسلم عليهما في خجل وبغير أن يرفع عينيه إلى وجهها: خلاص العقدة انحلت يا سيدي، ووجدنا بريسكا. سعادة البيك الحكمدار من مشجعي فن التمثيل، كان يعارض في أول الأمر ولكنني استطعت أن أقنعه. إن شاء الله تكون حفلة ناجحة ونكسب الكأس ، لكن المهم كل واحد يحفظ دوره عن ظهر قلب. اللجلجة والتهتهة ممنوعة أمامي على المسرح! لم يستطع يومها أن يراها عن قرب؛ فقد تصبب عرقا وكاد يغرق في هدومه، واستأذن منصرفا وصوت الحكمدار يدوي في أذنيه: شدوا حيلكم، بس إياكم أن تأخذوا الحكاية جد!
وتتابعت المقابلات من ذلك اليوم. في كل يوم بعد الظهر يبدءون البروفة ولا ينتهون منها قبل غروب الشمس. هل يستطيع أن يذكر في حياته أسعد من تلك الأيام؟ ألم يكن يجري إلى المدرسة كالعصفور، بغير غذاء في معظم الأحيان وبسندوتش تدسه أمه في جيبه على الرغم عنه حتى لا يموت من الجوع، ليكون أول من يرى سامية وهي تنزل من العربة البوكس التي كانت توصلها إلى باب المدرسة؟ ألم يكن ينتظرها على الباب ويذهب إلى لقائها وكأنه رآها صدفة ويتحاشى عيني الشاويش مجاهد الغاضبتين وهو يصافحها ويصحبها إلى الردهة الواسعة التي أقاما فيها المسرح؟ ألم يكثر من أكل سكر النبات لكي يجلو صوته فيرن على المسرح كأنه يوسف وهبي أو جورج أبيض، ليقول في صوت يتعمد أن يكون مؤثرا ليصل إلى قلبها برغم أنف الشاويش مجاهد الذي يجلس في الصالة على كرسي يحضره له، ويكشر في وجهه كلما سمعه يمد رقبته ويلوح بذراعيه ويجري نحو سامية في لهفة لا تخفى على الأصم: ها أنت أخيرا يا بريسكا! وتقف هي - كما يقتضي الدور وتعليمات الأستاذ حامد الصارمة - مذعورة في بهو الأعمدة، تتلفت وراءها خائفة صامتة كالتمثال وهو يسألها هي دون غيرها: عجبا! أهذا استقبالك لي؟! ما كنت ولا ريب تتوقعين رؤيتي الساعة؟ بل ربما كنت لا تحبينها. ويزداد ذهولها وشحوب وجهها الحلو الصغير كما تزداد تكشيرتها ودهشتها من جرأته وهو ينطلق كالراديو: لا بأس. بالرغم من هذا لا أكتمك أن مرآك في هذه اللحظة قد صيرني سعيدا، سعيدا يا بريسكا إلى أقصى غاية.
وهل ينسى أنها كانت تتلجلج وتنسى دورها الطويل خلال الفصلين الطويلين، وأنه كان يحفظه بدلا منها ويلقنه لها كلمة كلمة لكي يحميها من تشنجات الأستاذ حامد العصبية ومن شد شعره وصراخه الذي لا ينقطع: يا ناس! احفظوا دوركم! حرام عليكم! الفن تعب، تضحية، استشهاد. هل تريدون أن يأكل الناس وجهي في المديرية كلها؟ هل ينسى أن عبد العزيز سيد أحمد ومحمود الحلواني كانا ينافسانه على دوره ولا يكتمان غيظهما منه؟ ألم يقل له عبد العزيز يوما بعد انتهاء البروفة: ولد يا صابر! والنبي تأخذ أنت يمليخا. يا شيخ أنا زهقت منه ومن بؤسه. رجل غلبان لا له في الحب ولا في الستات. يعني مهما يكن. راع لا طلع ولا نزل. بس شاطر يصرخ ويقطع قلبي: إلى الكهف! إلى الكهف! إنا أشقياء، أشقياء. هذا العالم ليس عالمنا. خذه أنت يا صابر. ومعه قطمير فوق البيعة! ألم يحسده محمود الحلواني أيضا وإن لم يصارحه بكلمة واحدة؟
لقد كان يتابعهما بعينيه الصامتتين في كآبة لا تخفى عليه وإن حاول أن يداريها بصمته وعدم اكتراثه. كان يقول له وهو يركز عينيه على وجهها الصغير وقدميها النحيلتين: حلال عليك يا عم بريسكا المفعوصة. الحمد لله أنا مرنوش. فإذا نظر إليه نظرته التي تقول: اطلع منهم! قال له في استخفاف: ومتزوج وعندي عيال، الواحد منهم عمره ثلاثمائة سنة. المهم ربك يختمها على خير! كانوا جميعا يغارون منه ويتمنون أن يقفوا وقفته أمامها، وأن يكلموها بكلام لم يقولوه هم ولكنه يصدر عن قلوبهم الوحيدة الخاوية، وأن يصرخ الواحد منهم فيها أمام المدرسة وأمام المتفرجين وأبيها الحكمدار والحكومة كلها: بريسكا! لا تتركيني! لا تتركيني وإلا سقطت في الجحيم! صحيح أنهم لم يروه ينفرد معها - فالشاويش مجاهد رابض في الصالة ووجهه أسود من الليل وعيناه تطلقان شرارا - ولم يشكوا لحظة في أنه يمكن أن يتجرأ ويلمس شعرة منها. كما أنهم كانوا يلاحظون كيف تعامله كما تعاملهم جميعا في أدب وبرود وتعال وكأنها فعلا الأميرة بنت الملك دقيانوس وهم مجرد مشعوذين مساكين معفرين بتراب الزمن والكهف والنسيان. ولكنها الغيرة التي كانت تأكل قلوبهم وتسعد قلبه وتجعله يبدو أمام نفسه منتصرا من غير أن يدخل في معركة !
ما كان أجمل هذه الأيام! إنه لا ينسى ذلك اليوم الذي تأخرت فيه عربة البوكس عن الظهور بعد البروفة. انصرف زملاؤه وتركوه يقف إلى جوارها عند سور المدرسة. ربما لم يخالجهم الشك في أن البوكس لا يلبث أن يحضر، وفيه مجاهد بوجهه الذي يقطع الخميرة ويجلب النحس. ثم إن عم حسان بواب المدرسة العجوز كان يقف معهما ويهز رأسه أسفا على شبان هذه الأيام وعلى التمثيل والكلام الفارغ الذي يضيعون وقتهم فيه. وعندما طال انتظارهما أحضر لهما كرسيين. ومضى الوقت وهما يترقبان العربة في كل لحظة. كان يتكلم طول الوقت أو مع عم حسان (وإن كان بالطبع يقصدها هي) ليضيع الوقت، عن صعوبة التمثيل، عن المجد الذي ينتظر الممثل في حياته والبؤس الذي ينتظره في موته، عن عائلاتهم التي تعيش كالمواشي لا تفهم شيئا في الفن ومع ذلك تجاهر باحتقاره. وعندما هتفت زائغة العينين مصفرة الوجه: يا خبر! الليل دخل! أخذته الشهامة وعرض عليها أن يوصلها. وعندما أبدت معارضتها في أول الأمر وتلفتت إلى عم حسان كأنها تستنجد به - وهو ولا هو هنا - قال لها في صوت تعلم من كثرة الإلقاء على المسرح كيف يحافظ على ثباته: المسافة قريبة. ثم إنني لن آكلك! كانت السماء صافية في ذلك المساء كما لم يرها من قبل؛ فلم يكن يهتم في يوم من الأيام بأن يلاحظ إن كانت صافية أو غير صافية. وكان القمر بدرا كاملا، يمشي معهما كأنه طاقة فتحت عليه من ليلة القدر، وديعا، طيبا، مبتسما كأنه أمير صغير يسبح في قارب فضي ويراقب رعيته من النجوم التي تحرسه من حوله. قال لها وصوته يرتجف: ماذا تنوين أن تفعلي في المستقبل يا بريسكا؟ قالت وهي تراعي المسافة التي تفصل بينهما: أبي يريد أن أدخل الجامعة. فقال وكأنه يخاطبها من فوق خشبة المسرح: هذه إرادة أبيك. وأنت؟ فقالت في تهور وقد شجعتها نبرته القوية: سأمثل.
فسأل في توسل: إذا قمت مرة بدور بريسكا، فهل ستتذكرين ميشلينيا؟ قالت في غباء خيب أمله: لم لا؟ وإن كنت لا أفكر في التمثيل على المسرح.
قال مفزوعا: لن تمثلي على المسرح. أين إذن؟
فقالت ضاحكة من سذاجته في استهتار روعه: في السينما طبعا.
قطب وجهه. وسار صامتا إلى جانبها لا يجد كلمة يقولها. كان يريد أن يستطرد في الحديث عن روعة التمثيل وعظمته، عن مجده وتعاسته، عن عذابه ولذته، فيجد طريقا للحديث عما يحسه نحوها. ولم لا يفعل ويزيح الحجر الثقيل عن قلبه ويقول لها إنه أحبها من أول يوم وقف فيه أمامها وقال لها في صوت جمع فيه كل لهفته وشوقه وسخطه وتحديه لزملائه وللأستاذ حامد ولأبيها وللمدينة بأسرها: بريسكا العزيزة! إني أترقبك منذ وقت طويل. ولكنه لم يفعل. وشعر بيأس يخنقه. أهذا هو آخر التعب والتفكير والحفظ والتمثيل؟ أهذه هي اللحظة التي كان ينتظرها ويعمل لها ويرتب الكلمات المحفوظة لاستقبالها؟ وتلاطمت الأفكار في رأسه كالأمواج العكرة الغاضبة. وتمخض الصراع في نفسه أخيرا عن حركة من يده، خيل إليه أنها ستغير تاريخه إلى الأبد. مد يده فلمس يدها. لم تبد معارضة. رفعها إلى فمه وقبلها فسحبتها كأنما لسعتها شظية، وقالت في استهتار أغاظه حتى تمنى لو يستطيع أن يصفعها: ألا تخشى أن يضعك أبي في التخشيبة؟! سحب يده إلى جانبه. ومضى صامتا مطرق الرأس مفجوعا. ولم يطل صمته فقد رأى نور كشاف يلمع من بعيد. وما هي إلا لحظات حتى كان البوكس يقف أمامهما وعم مجاهد - كما كانت سامية تسميه - يخرج منها كعزرائيل ويفتح لها الباب فتدخل وهو يقول لها: لا مؤاخذة يا ست هانم. البيه كان مع النيابة في جناية قتل. وتركاه واقفا في مكانه دون أن يقول أحدهما كلمة أو يلتفت إلى وجوده.
وقفت العربة فأيقظته من حلمه. وجاء صوت سامية الضاحك: وصلنا يا يمليخا! تفضل معي.
وأغضبه أن تناديه بيمليخا مع أنه لم يكن يكره شيئا كما كان يكره ذلك الدور، الذي كان يقوم به عبد العزيز. وأين يأس يمليخا وانهزامه وتحول صوته وجسمه من حيويته وحماسه، بل تهوره وعذابه ؟ قال وهو يحاول أن يفتح الباب فتسارع بمساعدته: تريدين ميشلينيا. هل نسيت أيضا أنني ميشلينيا؟ واندفعت تصعد السلم وهي تشير إليه ضاحكة: وهل عندي وقت لأتذكر كل شيء. أسرع، أسرع. أمامي نصف ساعة فقط أغير فيها هدومي وأذهب للاستديو.
انطلقت تجري على السلم الرخامي الجميل وهو في إثرها. أسخطته إجابتها التي كان يتمنى أن تكون أكثر احتشاما، كما أغضبه أنها لم تعطه الفرصة ليتفرج على العمارة الفخمة من الخارج. ود لو يسألها عن الحي الذي تسكن فيه، ولكنه أشفق على نفسه من سخريتها. وفتحت باب الشقة امرأة عجوز، صغيرة الوجه، وتعجب لضيق عينيها وتكشيرة حاجبيها التي بدا له أنها لا تتناسب مع الطرحة البيضاء الوقور التي كانت تضعها على رأسها. قالت سامية دون أن يحييها: اعملي شاي بسرعة يا أم محمد. عندي صداع. لا تنسي الأسبرين على المكتب. ثم التفتت بسرعة لصابر الذي وقف في الصالة مذهولا يتأمل قطع الأثاث الفخمة ويتعجب من تكويناتها الحديثة الجريئة ويحدق في اللوحات والمصابيح التي تطلع كأوراق الشجر المضيئة من كل الجدران، وقالت دون أن يبدو عليها الاهتمام أو الاستغراب لذهوله: واعملي للبيه شاي أيضا. أو تحب الكوكا كولا يا يمليخا؟! انتزع نفسه من تأملاته وقال غاضبا: قلت لك ميشلينيا! ثم في خجل من صياحه في بيت غريب عليه وهو ينظر في تودد إلى العجوز: أشرب شاي مع الهانم. قالت أم محمد وهي تنظر إليه نظرة ودودة دون أن يبدو عليها أنها اهتمت بالإصغاء إليه: «حسني بك منتظرك من ساعة. قاعد في الصالون.» جرت سامية كالفراشة وفتحت بابا وهي تهتف: صحيح؟ هالو! تعال يا حسني. ليس عندي وقت للسلام والكلام. عارفة كل شيء (وهنا ظهر على باب الصالون رجل يقترب من الأربعين أذهل صابرا بياض جلده الشديد وصغر وجه ودقة شاربه المرسوم بعناية فوق شفة غليظة داكنة لا تتناسب مع رشاقة الوجه واتساع العينين اتساعا شديدا).
نسيت أعرفكم ببعض. حضرته الأستاذ حسني، مخرج فيلمي الجديد: مصرع العشاق. أليس كذلك يا حسونة؟ أو نسميه اسما آخر لا فيه موت ولا دم؟ مصرع الأحباب مثلا؟ اسم شيك. أو أقول لك، نسأل الأستاذ ميشلينيا. حضرته الأستاذ صابر، صابر محمد مرزوق، زميلي في التمثيل، أيام زمان (ومدت في الميم إلى حد أخاف صابرا حتى خيل إليه أنها شدته من رأسه فخشي أن يصطدم بالسقف). أليس كذلك يا ميشو؟ (وهنا خيل لصابر أنها تنادي على كلب) عن إذنكم. أغير هدومي. لحظة واحدة، اقعدوا مع بعض.
وجلس صابر على كرسي أشار إليه الأستاذ حسني. لم يرفع وجهه إليه؛ فقد كان لا يزال مبهورا بالجو البلوري الذي وجد نفسه فيه فجأة كأنه في قصر مسحور، مأخوذا بالثراء والفخامة والإهمال البديع في كل شيء، وغارقا إلى أذنيه في كلمات سامية التي نزلت كالمطر فوق رأسه، فلم يدر هل هي تجامله أم تسخر منه. وقبل أن يفيق جاءه صوتها - صوت بريسكا المحبوبة الذي أصبح خليعا وجريئا وغير مبال - يقول: مثل والنبي يا ميشو، قل له يا حسونة حتة صغيرة من أهل الكهف. كان اسمها أهل الكهف، بتاعة الحكيم. أليس كذلك؟ علشان خاطري، أنا سامعة.
وقبل أن يفيق مرة أخرى جاءه صوت الأستاذ حسني الهادئ الناعم الذي خيل إليه أنه يشم له رائحة كرائحة العطر: «لو تكرمت يا أستاذ، ولو سطرين ثلاثة. تأكد أنني أقدر المواهب، وربما يكون لك نصيب تشتغل معنا. أنا أخرجت لسامية ثلاثة أفلام، وأمامنا الآن فيلم.»
لم يدر صابر بماذا يرد. تكوم على نفسه كأنه يدافع عنها ضد هجوم مدبر خسيس. ولما عاد الأستاذ حسني يلح عليه في صوت جاد لم يخطئ فيه نغمة صادقة تشجعه، ألقى بظهره على المسند الناعم وقال في هدوء: معذرة. بعد أن يحضر الشاي.
وصرخت سامية من وراء غرفة النوم الموارب تلعن أم محمد وتستعجلها وتهددها في نفس واحد. وجاءت صينية زجاجية تزينها خطوط ذهبية وفوقها أكواب الشاي. مد صابر يده فتناول كوبه وأحس بنشوة الدفء بعد الجرعة الأولى، نشوة يكاد يغرق فيها تعب اليوم كله. وأغمض عينيه، وتمنى لو يستطيع أن يتمدد ويستريح وينسى كل شيء . وقبل أن يغفو جاءه صوت سامية من وراء الباب: نسيت أسألك يا ميشو: أين كنت الآن؟ قال وهو يغالب النعاس: كنت أتسوق من الموسكي. سألت من جديد: هدوم مثلا؟ قال في صوت لا يخفي ضيقه: لا، بقالة للدكان. سمن وزيت وصابون وتوابل من كل الأصناف. أصلي أنا الآن أعمل مكان أبي. سألت للمجاملة: يعني تاجر؟ أجاب كأنه يؤكد حزنه على المصير الذي انتهى إليه: نعم، على قد الحال. والدي مات وأنا في التوجيهية. حضرتك كنت انتقلت من البلد مع البيك الحكمدار، ترك لي ثلاث بنات وولدين. كان لا بد من وجودي معهم لأباشر الأرض وأقعد في الدكان. سألت من جديد في استهتار تعجب كيف تقدر عليه: وعندك أولاد يا ميشو؟ فأجاب في حسرة ولكن في استسلام: خمسة، يبوسوا أيديك.
وفاجأته صيحة من الأستاذ حسني: اسكتي أنت! الرجل يريد أن يمثل. يالله يا أستاذ، قل لنا قطعة على الماشي.
قال صابر معتذرا وقد أعجبه اهتمام الأستاذ حسني به: ولكنني لا أذكر شيئا. ألح الأستاذ حسني: أي شيء؟ قال صابر في إخلاص كاد أن ينفجر له حسني ضاحكا لولا أنه تحكم في نفسه: الحقيقة أنني نسيت أغلب دوري مع الست هانم، كانت دنيا وراحت. سأل حسني في عطف وكأنه يتمنى لو يستطيع أن يبكي: كان دور ميشلينيا نفسه؟ فأحس صابر أن الإلحاح عليه زاد عن حده وأنه من الجحود وقلة الذوق أن يقابله بالصمت والجمود، فتحامل على نفسه وشد عضلاته ووقف في وسط الصالة. أطاح رأسه بهزة واحدة إلى الخلف وكشر ملامحه. عقد جبينه وزم شفتيه بكل قوته ومد ذراعيه إلى الأمام كالمستجدي وقال: «نهاية الفصل الثالث، بهو الأعمدة، الوقت ليل والمكان مضيء.» ثم انفجر في صوت فوجئ به حسني. وذعرت أم محمد فأسرعت تجري من المطبخ ووقفت خلفه تنظر إليه في ذهول: نعم، نعم، الوداع! يا ... يا ... لست أجسر! الآن أرى مصيبتي وأحس بعظم ما نزل بي. لا مرنوش ولا يمليخا رزئا بمثل هذا. إن بيني وبينك خطوة، بيني وبينك شبه ليلة، فإذا الخطوة بحار لا نهاية لها، وإذا الليلة أجيال، أجيال، وأمد يدي إليك وأنا أراك حية جميلة أمامي فيحول بيننا كائن هائل جبار: هو التاريخ!
ويبدو أنه لم يكن قد انتهى حين أطلت سامية فجأة من الباب، بقميص نوم وردي شفاف، ومدت ذراعها ضاحكة ضحكة رنت في أذنه كوقع وعاء نحاسي يرتطم فجأة بالبلاط: الوداع يا ميشلينيا!
لا يدري صابر حتى الآن ماذا حدث له في تلك اللحظة. تراخت عضلاته، تفكك جسده، انهار على الأريكة كأنه تمثال من القش. لم يستطع أن يثور، لم يستطع أن يبكي، لم يفكر أيضا لا في الثورة ولا في البكاء، بل ربما لم يفكر في أي شيء بالمرة. وأسرع حسني إلى غرفة النوم متأففا وهو يؤنب سامية بصوت يحاول أن يكون مرتفعا. ودق جرس الباب في هذه اللحظة فدخل رجل ضخم، شعره مجعد وطويل وفاحم، وعيناه شديدتا السواد مخيفتان إلى حد أن صابرا لم يستطع أن يثبت عينيه فيهما أكثر من لحظة واحدة. كان صوته أجش، وبدا لصابر كأنه ثور غبي وهو يقول: هل هذه مواعيد يا عالم؟ من الصبح أنتظركم، والناس تسأل عنكم، والبلاتوه جاهز، والمنتج الذي كان موعده معك يا سي حسني على البار، وكاتب السكربت يا ست سامية منتظر هناك على نار. إن لم تنزلوا حالا ضاعت علينا الفرصة. أعوذ بالله من هذا الحر، الدنيا نار. بسرعة يا ست سامية، اعملي لك قلب.
كان الرجل الضخم قد وقف أمام باب غرفة النوم فسده بهيكله الجبلي وصوته الأجش وكل شيء هائل فيه. لم يلاحظ وجود صابر، بل وقف في مكانه كأنه يكتم أنفاسه. ورن جرس التليفون، وسمع صابر صوت سامية تتكلم في نفس واحد، ووجد نفسه ينهض من على الكرسي وقد خيل إليه أنه استراح قليلا. ودون أن يحس به أحد مشى على أطراف أصابعه إلى الباب الخارجي ففتحه في هدوء. حتى العجوز الطيبة أم محمد، التي كانت تقف لحظتها في المطبخ وتعطي له ظهرها بحيث يرى طرحتها البيضاء فوق رأسها بوضوح، لم تحس به وهو يغلق الباب وراءه.
1964م
الصبر
اللوحة القديمة، المعلقة في حجرة الجلوس، فوق الكنبة الكبيرة، اللوحة المصنوعة من القماش، المغزولة حروفها بخيوط حريرية سوداء، الموضوعة في برواز خشبي بهت لونه من كثرة ما تراكم عليه من الغبار، فبدت الحروف الملتوية النحيلة في داخلها كأنها ثعابين سوداء، هذه اللوحة هي التي لم أكره شيئا في الوجود كما كرهتها. في كل البيوت يعلق الناس شيئا يبتهج له الضيوف أو يرحب بهم: أهلا وسهلا فعين الله ترعاك، ادخلوها بسلام آمنين. صورة رب البيت مع زوجته في ثوب الزفاف، أو في وسط العيال، صورة الابن مع تلاميذ المدرسة وأمامهم الناظر والمدرسون، أو حتى صورة ممثلة تبتسم للضيف وحده. أما نحن؟ ألم يجد أبي وأمي شيئا غير «الصبر» يعلقونه في حجرة الجلوس؟ ألم يجدوا حروفا أخرى غير الصاد الغليظة المنتفخة، والباء النحيلة التي لو هبت نسمة لأطارت النقطة من تحتها، والراء الطفيلية العديمة الشخصية التي تتشبث بالباء حتى لا تسقط مغشيا عليها؟! منذ أن فتحت عيني وأنا أراها وحدها في بيتنا. كئيبة وقديمة، وفي حداد لا ينقطع. حاولت أن أضع إلى جانبها صورة ممثلة ساحرة العينين كنت متيما بها، فزمجر أبي وقال: الصور من الشيطان. وحين دافعت عن الممثلة وقلت له إنها متزوجة وصاحبة عيال شخط وقال: هل تريد أن تقطع الملائكة عن الدار؟ ولما كنت بالطبع حريصا على أن تبقى الشياطين في الجحيم وتمرح الملائكة في بيتنا كما يحلو لها فقد أقلعت عن المحاولة، وفوضت أمري إلى الله.
هل قلت لكم إنني لم أكره شيئا في الوجود كما كرهت هذه اللوحة؟ إن كلمة الكره لا تكفي. وحتى كلمات الحقد والغيظ والسخط والمقت وكل ما ابتكرته اللغة لتنفس عن براكين الغضب المكبوت في الصدور لا يمكن أن تشفي غلي من هذه الحروف السوداء اللعينة التي كانت أحس بها تلتف حول رقبتي. هل تحبون أن تعرفوا السبب؟ اسمعوا إذن هذه الحكاية وحاولوا أن تعذروني.
كنت في تلك الأيام أحضر لامتحان الشهادة الابتدائية. وكان أبي لا يفتأ يردد: «الابتدائية حصن من حديد، لا يفتحه إلا كل صنديد.» ويقول لي بمناسبة وبغير مناسبة: اصبر يا ولدي، بالصبر تنول، واصبروا وصابروا. وكنت قد اكتشفت أن المذاكرة في حجرة الجلوس - المكان الوحيد البعيد عن ضجيج المطبخ وشخط أبي في أمي وشخط أمي في الخادمة - هي السبيل الوحيد للنجاح وبخاصة إذا جلست أمام لوحة الصبر التي كنت على الرغم من كرهي لها أو ربما بسبب هذا الكره نفسه، أستمد منها مع ذلك المزيد من الصبر على مكاره الحساب ومقالب الجغرافيا وفصول التاريخ. ولكنني سرعان ما اكتشفت أيضا - وكأنني ما كنت من سكان البيت ولا عرفت شيئا عن مخارجه ومداخله - أن نافذة حجرة الجلوس هي أنسب مكان أعاكس منه فوزية - وهي إن لم تكونوا قد علمتم حتى الآن ابنة جارنا عم علي موزع البريد - وأكلمها وتكلمني بوضوح لا مزيد عليه، بل أستطيع إن سمحت الظروف وواتتني الجرأة أن أمد يدي فألمس يدها بل أعضها أيضا إن شئت.
لا أريد أن أطيل عليكم فيما تعرفونه بأنفسكم ولا بد أنكم جربتموه أيضا عندما كنتم مثلي تستعدون للابتدائية؛ فالليالي الطويلة التي كانت أمي تدخر لي فيها ما لذ وطاب ليغذيني ويفتح عقلي ولا يزورها النوم قبل أن تناولني فنجان الشاي الثقيل وتدعو على الكتب والذين كتبوها، وترفع يديها للسماء لكي يوقف الله لي أولاد الحلال، لم أكن في الحقيقة أقضيها عند خط الاستواء، ولا في مراعي الاستبس، ولا مع جيش رمسيس الأكبر، بل ولا حتى في قلعة محمد علي القريبة منا، بل محنيا على الشباك وعيني على نافذة فوزية - والكتاب بين يدي بالطبع على سبيل الاحتياط - حتى تكاد تخرج من محجرها من كثرة التلطع ولهفة الانتظار، فإذا ظهرت وأشارت بيدها الصغيرة مثل كف القطة وعبثت بضفيرتها الطويلة الفاحمة السواد التي طالما كانت تهتز فوق ظهرها فتهز قلبي معها، استغرقنا في حديث هامس طويل لا يشترك فيه - وإن ظل صامتا - سوى القمر، ولا يقطعه سوى نحنحة أبي عندما يأتي إلى البيت، أو طرقات أمي الضعيفة على الباب تسألني إن كنت أريد شيئا أو تطلب مني أن أنام والصباح رباح.
أيام المذاكرة فاتت ولم تدخل كلمة في مخي. الامتحان اقترب ولم أستعد لشيء اللهم إلا للإنشاء العربي. وكيف لا والمنفلوطي كنت أحفظه عن ظهر قلب لينفع في خطاباتي الشفوية والتحريرية إذا لزم الأمر إلى فوزية؟! الامتحان على الأبواب وأنت لا تعرف الألف من كوز الذرة. رقم الجلوس في جيبك وأنت لا تميز أستراليا من أفريقيا، ولا تعرف الفرق بين خوفو والحاكم بأمر الله. الامتحان على الأبواب وأبوك يوصيك بالصبر وأمك ترقيك وتدعو لك طوب الأرض ولا تعرف أن وقعتك سوداء إن شاء الله.
القصد، كانت - بعيدا عنكم - ليلة سوداء، ليلة جاء أبي إلى البيت - لم ندر ما الذي أخره عن العشاء فلم يحضر كما قالت أمي إلا نصف الليل - لا بد أنه أقام الدنيا وأقعدها وزلزل البيت من أركانه قبل أن أفتح عيني فأجده قاعدا على سريري فوق رأسي تماما، عيناه تضجان شررا، وجبهته ملبدة، وتقاطيع وجهه تصرخ بالتقزز والامتعاض. قم يا أفندي شف نمرتك.
وأنا أفرك عيني: أية نمرة؟ ثم وأنا أكتم تثاؤبة كادت تفلت مني حين لمحت الجريدة مبسوطة على السرير: النتيجة ظهرت؟
وهو يضرب كفا بكف: طبعا. عوضنا على الله!
وأمي تهدئه: اعمل معروف يا محمود، الولد يا عيني فزع من النوم!
وهو ينفجر صائحا: نامت عليه حائط! بس شاطر يعاكس بنات الناس.
وهي تحاول أن تهدئه: بنات من يا محمود؟
الشرر يتطاير من عينيه، وصياحه يطير الجريدة: بنت الجيران يا ست هانم. ما بقى غير ساعي البوستة. أبوها اشتكى لي الليلة، لو كنت أعرف كنت قطعت رقبته!
وأنا أعتدل على السرير وأملأ صدري بالهواء: وما له أبوها؟ رجل مثل كل الناس. ثم إن حبي حب شريف!
ويده تصفع خدي. اخرس! أحبك عقرب!
في تلك الليلة أخذت أبحلق من خلال الدموع إلى اللوحة السوداء. الخطوط الغليظة تتلوى وتتشابك وتقفز من وراء الزجاج لتطبق على عنقي. إلى متى يذلونني ويدوسون على نفسي ؟ ثم هل الحب حرام؟ وما ذنبي إذا كانت البنت فوزية أكلت عقلي وهوستني ضفيرتها السوداء ووجهها المسمسم وكلامها الحلو كالملبس؟! ألست أنا أيضا بشرا؟ أم أنني لست بشرا؟!
كانت الصفعة لا تزال تطن كالنحلة على خدي، كحجر ثقيل ألقي في الماء. ماذا أفعل؟ هل أقف أمام أبي وأرد عليه الكلمة كلمتين؟ مستحيل. هل ألقي عليه خطبة مما أحفظ عن الكرامة والرجولة والشرف؟ أنا لست طويل اللسان. هل أدافع عن الحب وأستشهد بأحاديث للرسول وفيلسوف فرنسي كنت حفظت حكمة له عن ظهر قلب؟ ليس هذا وقته. إذن ماذا أفعل؟ لم يبق إلا هذه اللوحة الكريهة. أكسرها؟ أخشى أن يكسر أبي رقبتي. أنزعها من على الحائط وأخفيها؟ سوف يسأل عنها ويخرج عفاريته على البيت كله. لم يبق إذن - وهذا أضعف الإيمان - إلا أن أخفي حروفها الكئيبة بعيدا عن عيني. لم يبق إلا أن أقلبها على ظهرها فلا أراها؛ إذ كيف أستطيع أن أصبر عليها وأنا لا أطيق الصبر على هذه العيشة؟
يبدو أن المناقشة بين أبي وأمي لم تكن قد انقطعت بخروجهما من حجرة الجلوس التي كنت قد اتخذتها مكانا للنوم والمذاكرة منذ بدأت استعداداتي الفاشلة للامتحان. بل لقد زادت أصواتهما حدة حتى اخترقت الجدران إلي بينما كنت أتقلب على الكنبة، وأحاول أن أبرر سبب سقوطي بأسباب عاطفية كنت أعرف كيف أقنع بها نفسي. وعندما انفتح الباب فجأة وجدت أمي تناديني بصوت مختنق بالدموع: قم يا ابني، قم معي. قلت وأنا أقفز على الأرض وقلبي يتوجس خوفا عليها: حصل خير يا أمي! فصرخت وهي تلتف في ملاءتها: وهل يحصل خير طول ما أنت على ظهر الدنيا؟ قم البس. وضعت قدمي في الحذاء وتشاغلت بارتداء ملابسي لكي أتحاشى النظر إلى وجهها الذي أحسست أن الدموع تغرقه.
قالت أمي: أبوك لا يريد أن نبيت فيها!
قلت متلجلجا: يعني؟
قالت: على آخر العمر يطردني من بيته. طيب والله ما أنا قاعدة له.
رفعت عيني إليها وتمتمت في خوف: لكن؟
صاحت: لا لكن ولا حاجة. أنا عبدة واشتراني؟
قلت: وأين نذهب يا أمي؟
ارتجف صوتها: على بيت أهلي؟ أم أنا من غير أهل؟
قلت محاولا أن أهدئها: لكن الدنيا ليل. والناس زمانها ...
صاحت في حدة لم أتوقعها: قلت لك البس هدومك. وإلا والله أروح لوحدي.
قلت محاولا الابتسام: كله إلا هذا. وهل أنا مت.
قالت في غضب لم أعهده فيها: يا ليتك مت وأرحتني.
أردت أن أعاتبها فلم يطاوعني لساني، ورحت أضع ذراعي في جيوب الجاكتة.
قالت وهي تشدني من يدي: كله من تحت رأسك. ربنا يريحني منكم!
قلت: اصبري يا أمي. فصرخت والدموع تخنقها: أصبر عليه أو عليك؟ أصبر، أصبر، أصبر! يالله قدامي!
خرج أبي من حجرة النوم ووقف ينظر إلينا في تشف. قال في صوت سقط على رأسي كالثلج: يالله! خلوني أشم نفسي يومين. يومين يا عالم أستريح من وجوهكم.
قالت أمي وهي تفتح الباب وتنظر إليه في تحد: إن شاء الله لن ترى وجوهنا. أنا لي أهل يعرفون شغلهم معك.
وتعالت ضحكة أبي من وراء الباب الذي صفعته أمي وراءها فزلزل البيت.
أبدا لا أنسى مشيتي معها في الليل. يدي تتشبث بملاءتها. الدنيا عتمة والفوانيس القليلة مطفأة أو شاحبة. وما من حنطور على مرمى البصر أو السمع. حتى النجوم غطت وجوهها تحت أغطية السحب. والقمر؟ ألا يحلو له الغياب إلا في هذه الليلة؟ وجسد أمي يرتجف. ورأسي - من الخجل - كأن ألف جردل وقع عليه. ويدها تسحب المنديل من صدرها كل لحظة. وفمي ينفتح ولا يخرج منه كلام.
أبدا لا أنسى حين ذهبنا إلى بيت جدي. فتحت خالتي فاطمة بعد أن كلت يدي من الطرق على الباب: لم تجد الوقت لتتعجب - إن هي إلا ضربة يد على الصدر - ولم تجد أمي الوقت لتشرح وتفيض. الدموع يا أمي تخنقك. الصوت محبوس في الحلق. أين الذي يستطيع أن يخرجه؟!
وجدي هناك على سريره الذي لم يغادره منذ أصابه الشلل (هل كان ذلك قبل أن أولد؟ من يدري؟) وسعاله يقطع صدره بالسكاكين. وأمي تجيب على سؤاله الذي لم يقله. تبكي وتبكي لترد على تعجبه، لتنفخ الدفء في بروده. ثم صوته يخرج من بين السكاكين كالسيخ المحمي، لا بل كشلال ماء بارد: ليس عندي بنات تبيت بعيدا عن بيتها. - لكن يا أبي ... - ليس عندي بنات تبيت بعيدا عن بيتها.
والصوت يجاهد ليفلت من بين الدموع: لكن هو الذي ... - ولو قطعك بالسكاكين. - والعمل؟ - ترجعي لبيتك ولأولادك. - إذا كان طردني من بيته؟ - هو حر في بيته. - وشتم أهلي ولعن.
وهو يشعل سيجاره ويلتقط نفسا ويسعل: الرجال لها كلام مع بعض. - وبنتك؟ - بنتي لا تبيت بعيدا عن زوجها.
وهي تستنجد: طيب ليلة واحدة لغاية ما يعرف أن الله حق.
وهو يشير إلى الباب الخارجي: ولا ساعة واحدة!
ثم ونحن عائدون: الدنيا عتمة. النجوم خبأت وجوهها عنا. القمر لا يرى الدموع على خد أمي. يدي المتشبثة بطرف ملاءتها تحس برجفة صدرها. الكلام مات. حتى الأفكار ابتلعتها العفاريت. والدنيا ليس فيها راحة.
عندما فتح أبي الباب، لمحت عينيه الواسعتين كجناحي نسر تهبطان على رأس أمي المطرقة. «عدنا يا أبي فوفر علينا الكلام. يكفي أن تقول: رجعتم؟»
ويفتح أبي غرفة الجلوس ويقول: تفضل يا بيك! ويرفع عينيه إلى الحائط فيرى اللوحة مقلوبة على ظهرها فيصرخ: من قلب اللوحة! هه؟ من قلب اللوحة؟! فأخلع حذائي وأقف على الكنبة وأسويها وأنا أقول: لا أحد يا أبي. لا بد أنها الريح.
1964م
التابوت
أخيرا زرت المتحف يا عبد الموجود. زيارة كان نفسك فيها من زمان. آخ يا دماغي! لا بد أن عندك حمى. رأسك ساخن. مفاصلك ترتعش. والنبض أيضا سريع. من أربعين سنة وأنت تحلم بهذه الزيارة. هل تذكر يوم ذهبت لأول مرة في رحلة مع المدرسة؟ كنت أيامها بالبنطلون القصير يا عبد الموجود. والمدرس أيضا كان قصيرا. ومن الذي لا يبدو قصيرا أمام تمثال رمسيس؟! والأسماء الكثيرة ما زلت تذكرها. ولكن في أي دولة هي؟ دماغي سينفجر. أين الثلج الذي وضعته زوجتك إلى جانبك؟ على الكرسي أم على المكتب؟ آخ! بل هو على رأسك. ومع ذلك فأين ذهب؟ لا بد أنه الآن يغلي. يا لطيف! خوفو وخفرع وأحمس الشجاع وأخناتون النحيف المسلول. لكن الأيام تمر. والسنين تمر. والأتوبيس يمر كل يوم على المتحف. ولكنك لا تنزل منه. لا تنزل منه يا عبد الموجود. المتاحف خلقت للسواح. وزوجتك عندها شغل في المطبخ. والأولاد يلزم لهم ملابس للشتاء. والدوسيهات لا بد أن تراجعها بالليل. وعيشة الدنيا تعب. عيشة الدنيا تعب يا عبد الموجود.
اليوم هو الجمعة؛ لأنك خرجت من المتحف على الصلاة. القاعة كانت مزدحمة يا عبد الموجود. ودفعت فيها خمسة وعشرين قرشا. والسواح كانوا في كل مكان. حمر وبيض وعيونهم خضر وشعرهم أشقر وطويل. والصناديق الزجاجية كانت مرصوصة إلى جانب بعضها. عشرة عشرين ثلاثين. شبان وعجائز ونساء. وأحمس شعره ما زال هناك. الغريبة أن شعره أصفر، أصفر مثل شعر الإنجليز. والجلد ما زال على حاله، وحتى الأسنان. والشابة التي على اليمين فيها ملامح من زوجتك. وجهها عريض، عظم خديها بارز. بشرتها سمراء، الابتسامة لا تزال على شفتيها. لا بد أن دمها كان خفيفا. والصلاة وجبت يا عبد الموجود. والجامع كان على آخره. وفرشت الجرنال على الرصيف. آخ يا دماغي! الشمس كانت تلسع. الشمس هي السبب. وأحمس أسنانه لا زالت تلمع. والبنت السمراء لا زالت تبتسم. من ثلاثة آلاف سنة؟ أو أربعة آلاف؟ أو حتى خمسة؟ من يدري يا عبد الموجود؟ ويحنطونك في صندوق من زجاج. والسواح تتفرج عليك؟ ويعرفون أنك كنت موظفا في الأرشيف؟ أربعين سنة؟ أربعين سنة يا عبد الموجود؟
اليوم إجازة. أول إجازة بحق وحقيق. استرح لك يوما يا عبد الموجود. يوما من نفسك! أربعين سنة وأنت تعمل مثل الحمار. أربعين سنة وأنت تصحو من النوم، وتجري على الديوان، وتجلس على المكتب، وتفحص البوستة، وتسرك الجوابات، وتفرز الصادر من الوارد. أربعين سنة وأنت تشرب الشاي وتأكل الفول، وتقرأ الجرنال، وتقف زنهار أمام الرئيس والمدير. أربعين سنة وأصبحت على المعاش يا عبد الموجود؟ الشمس كانت نار. وقاعة المومياء ملآنة بالتوابيت والسواح شعرهم أشقر وعيونهم خضراء. شباب وصحة وملك صحيح. وأحمس راقد على ظهره. والبنت السمراء أم شعر أسمر تبتسم. وتحتمس وجهه متآكل. ومكانك معهم يا عبد الموجود، مكانك معهم في الصندوق أو في التابوت.
عندما تدخل في الصباح إلى الديوان سيكونون جميعا في استقبالك، السعاة واقفون على الجانبين. حللهم زرقاء. وجوههم المصفرة تبتسم. يقفون على الجانبين ليحيوك. أيديهم الخشنة تريد أن تمتد لتصافحك. وفي أعلى السلم ستلمح رئيس القلم ومدير الإدارة والمدير العام. نعم إنهم ينتظرونك. ابتسامتهم العريضة ستخجل تواضعك، ولكن حاول ألا تتعثر في الطريق! لماذا الخجل يا عبد الموجود؟ ألأنك تلبس حلتك السوداء؟ ولكنهم رأوها عليك من قبل. ألأنك تلبس قميصا جديدا، ياقته منشاة؟ ولكنه يبدو كذلك فحسب. أم لأنك تلبس حذاء شديد اللمعان؟
سيسلمون عليك. سيرحبون بك (حاذر فربما أخذوك بالأحضان!) سيقولون لك: كل شيء جاهز وعلى ما يرام. الأوراق منتهية. والمعاش ستقبضه بالكمال والتمام. ولكن قبل الإمضاء تعال لنحتفل بك. لا تحاول أن تعتذر؛ فكل شيء جاهز كما قالوا. والشمس لا تلسع رأسك. ومكانك محفوظ في قاعة المومياء.
الموكب سيتحرك يا عبد الموجود. أنت في الوسط. المدير في المقدمة. السعاة على الجانبين. وكل شيء على ما يرام. وعندما تدخل إلى حجرة المدير - يا لها من حجرة فخمة مزدانة بالستائر المخملية والسجاد وصور المديرين السابقين وأواني الزهور والريحان - ستجد أن مكانك أيضا هناك. افتح عينيك؛ فكل شيء معد من أجلك. افتح أذنيك؛ فالخطب التي ستتلى عليك طويلة وفصيحة. ابلع ريقك؛ فالمائدة مرصوصة بألوان الطعام. سوف يجلس الجميع، كل في مكانه، وسيقف السعاة، على أهبة الاستعداد. وعندما يقف المدير، سيسود الصمت، وعندها يتكلم فيقول:
المدير
أنا المدير العام
المسئول عن هذه المصلحة ومن فيها،
في كل يوم أراجع كشوف الغياب،
ألاحظ أن يكون كل شيء في مكانه،
أن يكون كل موظف على مكتبه،
أن تشرق الشمس في موعدها؛
لأنني أقدس النظام.
واليوم جئت بنفسي لأحتفل بك،
أنا الذي كنت موظفا مثلك،
ثم صعدت بهمتي ونشاطي
من الوحل حتى لمست النجوم
حتى أصبحت المدير العام.
ويصمت المدير ليلتقط أنفاسه، وعندها يتكلم الموظفون فيقولون:
المجد لك،
يا أيها المدير العام،
يا من تسمح لقلوبنا أن تدق بانتظام،
وتراجع كشوف غيابنا على مر الأيام،
وتأذن لنا، وما أكرمك،
بأن نقبض مرتباتنا في أول كل شهر.
ها نحن قد جئنا،
اثنان وسبعون موظفا،
اثنان وسبعون بالكمال والتمام.
يا زميلنا العزيز،
أتينا لنحتفل بك،
أتينا لنودعك إلى المعاش،
هل علمت ماذا أعددنا لك؟
هل سمعت عن المفاجأة؟
ويسكت الموظفون لأنهم لا يملكون أن يذيعوا السر الرهيب. وعندها يتحرك المدير إلى آخر القاعة التي تضيئها مصابيح النيون، ويمد يده ليرفع الستار عن الصندوق الجميل. إنه راقد هناك، كأنما وجد من الأزل، كأنه جسد امرأة بيضاء مصنوع من الفضة، غامض وساحر ومخيف. سيلمسه المدير العام بكفه، سيطوف حوله الموظفون، سيدعونك لكي تتفرج عليه. وسوف يتكلم المدير ويقول:
هذا الصندوق الفخم الجميل
لن يليق لغيرك،
لن يناسب إلا جسدك،
لن يملأه أحد - حين يتمدد فيه - سواك،
وحين تنزل فيه لتستريح - لا، ليس الآن. ليس الآن،
بل بعد أن تأكل وتتنفس وتحمد الله -
سنهرع إليك. سنغلق الصندوق،
لن ندقه من الخارج بالمسامير،
لا تخف. ولن نغلق عليك الغطاء.
لن نلقي به في النيل؛
لأنك كنت دائما في التابوت،
تحمله أينما ذهبت،
حين تلبس البذلة الكاملة،
وحين تسير بالقميص والبنطلون،
حين تجلس على القهوة وحين تتمشى على شاطئ النيل،
حين تقف أمام دكان البقال ودكان السجائر،
وحين تتزاحم في الشارع والترام والطابور،
حين تحلم بالسفر إلى بلاد بعيدة،
أو بحساب في البنك وثلاجة بدون تقسيط.
وعندما نلقي بك - لا في الماء كما أكدت لك،
وجدران التابوت تحيط بعظمك ولحمك من كل مكان -
إلى زحام الشارع المجنون،
لن تنزع إيزيس غدائرها، لن ترتدي ثياب الحداد.
وعندها يرد عليه رئيس القلم فيقول:
يا أيها الموظف المحال إلى المعاش،
إيزيس الرحيمة لن تبكي عليك،
لن تهيم في شوارع المدينة بحثا عنك،
لن تسأل الرجال ولا الملاحين والأطفال،
لن تلقي بك الأمواج على شاطئ بعيد ،
ولن تلتف حولك جذوع شجرة،
وعندما يكتشفونك
لن تبكي عليك عين،
ولن ترتمي أم على التابوت،
أو تلقى بنفسها على جثتك،
أو تضع محياها على محياك،
لا، ولن تقبلك ولن تجهش بالبكاء.
وحين يسكت يتقدم الموظفون فيلتفون حولك، يطوقونك بأجسادهم وأيديهم ورائحة العرق التي تفوح منهم، يودون لو يحملونك فوق رءوسهم كما يحملون خشبة النعش ويقولون:
جوقة الموظفين
إيزيس لن تكون هناك،
لن تفتح الصندوق العجيب،
ولن تضع محياها على محياك.
إيزيس لن تكون هناك،
لن تقبلك ولن تجهش بالبكاء؛
لأن أشلاءك الأربعة عشر
لم تجمعها يد إنسان،
لم تجمعها يد إنسان.
ويتقدم المدير العام، الذي كان يقف من البداية إلى جانبك ويضع يده على كتفك ليروي تاريخ حياتك فيقول:
ساعة ولدت دوى صوت يقول:
ها هو المسكين يخرج إلى النور.
لم تجد الولادة اللفافة المناسبة،
فدثرتك في الأكفان،
فدثرتك في الأكفان.
وعندما جلست على الكرسي أمام المكتب،
ورسموك بالعين والصولجان،
عندما جلست عليه، في عز الشباب
انخسف القمر ونسيك الله،
تعلمت كيف تضغط على الجرس، وتطلب الشاي،
وكيف تخفض رأسك
وتقول: الحمد لله.
غرقت في الملفات والدوسيهات،
تعثرت في اللوائح والقوانين.
كنت صاحب الجلالة أوزيريس العظيم،
تزرع الحب، تخصب الأرض،
تعلم، بغير سلاح،
تهذب، بغير تخويف،
تسحر، بغير غناء،
الآن ماذا جرى لك؟
فيجيب الموظفون كأنهم صوت واحد:
تعثرت في اللوائح والقوانين،
تعثرت في اللوائح والقوانين،
من البيت إلى المكتب،
ومن المكتب إلى البيت.
يا قطرة عرق في زحام الأوتوبيس،
يا حرفا مهملا في ملف كبير،
يا أيها الزوج الشهم، والأب الكريم، والحاكم العادل،
يا أول من علم الإنسان،
يا رسول الحب والسلام على الأرض،
من الذي يجمع رفاتك المبعثرة؟!
من الذي يحييك من جديد؟!
ويتقدم السعاة الذين يبدو أنهم خجلوا من صمتهم طوال هذا الوقت فيقولون:
عبد الموجود!
نحن السعاة المخلصون،
أيدينا الخشنة طالما حملت لك الشاي الثقيل
طالما أحضرت القهوة للضيوف والأحباب.
في كل يوم نقف عندما تمر أمامنا،
نسألك عن الصحة والمزاج
ننظف الملفات وننفض التراب ،
نسب الدنيا ونلعن الغلاء ،
نقول على الرغم من كل شيء: الحمد لله.
ونرضى بالبقشيش القليل،
نرضي بالبقشيش القليل.
وترد جوقة الموظفين:
إيزيس!
أيتها الزوجة المخلصة،
أيتها الأم الرءوم
لماذا نسيت زوجك؟
لماذا نسيت ابنك؟
المأدبة التي أقيمت لك تليق بالمعاش حقا. ها أنت ذا يا عبد الموجود تتصدرها. والسعاة يقدمون إليك طبقا بعد طبق. اللحوم النادرة والفواكه المنتقاة تملأ رائحتها أنفك وتنفذ إلى صدرك. أكواب الشاي الأسود وأطباق الشطائر والحلوى لا تفرغ أبدا. الحفل حفل وداع لكنه طيب وبهيج. وعندما تفرغ أكواب الشاي الأسود الثقيل سيهب «ست» واقفا ويصيح بأعلى صوته الخشن البغيض: فلتشربوا أيها الصحاب! وأنتم أيضا أيها السعاة! لا تنسوا أنفسكم! اشربوا نخب صاحب الجلالة أوزيريس العظيم، ملك مصر الخالدة. ثم يشرب ويشرب إلى أن يخبط على المائدة مرات وينبه الجميع إلى خطبته القادمة، ها هو ذا يقف منتصبا، قويا، فارع الطول. نظارته السميكة على عينيه، شعره ملأه الشيب، وجهه أقبح وجه شاهده حراس طيبة ذات الأبواب المائة طول حياتهم. رأسه الضخم مستقر على عنق قصيرة مكتنزة كعنق الثور، حاجباه كثيفان أسودان كزوج من الخنافس، وعندما يتكلم، ينفث الدخان من سيجاره الكالح الغليظ، ويتحسس كرشه الضخم عند كل كلمة:
قديما يا أيها الإخوان،
وقبل أن أصاب بالسكر والكبد وضغط الدم،
كنت أصيد ليلا في ضوء القمر،
عندما عثرت عليك يا عبد الموجود
تعرفت على جثتك - لم أكن قد لبست نظارة بعد -
مزقتها أربع عشرة قطعة،
بعثرتها في كل مكان.
إيزيس غرقت في دموعها،
إيزيس أصبحت عمياء ولن تبحث عنك،
وعندما يكبر حورس
لن يمتطي ظهر الحصان ولن يعد القوس،
لن يحاول الانتقام لأبيه؛
إذ كيف يستطيع وكل شيء ينتقم الآن منه؟!
بل سيجلس هو أيضا على مكتب،
ويصبح حرفا مهملا في ملف الخدمة،
وقطرة عرق في زحام الترام.
وعندما يكبر في السن ويلبس نظارة سميكة
سيحال إلى المعاش، سيحال إلى المعاش،
وحين يموت، لن يدفن في معبد ولا ضريح،
لن تحط الطير عليه، ولن يدنو السمك منه.
ويجيب الموظفون قائلين:
لن يحط الطير عليه،
ولن يدنو السمك منه،
ولن يسمع صوت إيزيس تنادي.
عد إلى بيتك! عد إلى بيتك، يا من تسكن الشمس.
عد إلى بيتك فقد طالت غيبتك.
تعال وزر حبيبتك، زر أختك التي تحبك.
عد إلى بيتك، يا أخي وحبيبي.
ألا تسمع إذن صوتي؟
لكنك لن تستطيع أن تعود يا عبد الموجود. لن تستطيع أن تعود؛ فقد أخذوك من يدك، من مئات السنين، وقادوك إلى المملكة السفلى، مملكة الموت والظلال، المملكة التي كتب على بابها: يا أيها الداخل من هذا الباب، ودع كل أمل. هل تقول إنهم يحتفلون بك؟ نعم، ولك الحق. يحتفلون بوضعك في التابوت. والتابوت غامض وساحر وجميل. مرصع بالأحجار النفيسة، براق من المعدن الخالص، رسمت عليه زهرة لوتس وحيدة وحشيت جوانبه بالملفات والدوسيهات والتقارير. ومن يدري؟ فبعد أن تدخل فيه وتتمدد وتتثاءب وتشرب شايك الأسود الأخير، وبعد أن يأخذوا إمضاءك على ورقة المعاش ربما تذكروا فرسموا وجهك الأسمر النحيل على غطائه، ولم ينسوا أن يضعوا على شفتيك ابتسامة راضية، وفوق عينيك نظارة سميكة، وعلى رأسك تاج الوجهين.
المدام
المدام التي أسكن عندها ضعيفة الذاكرة. لست أدري متى ولا كيف فقدت هذه الحاسة العجيبة التي تربط الإنسان بالزمان والمكان، وتذكره دائما أنه هو نفسه وليس أحدا سواه! ولكني سأروي لكم هذه الحادثة التي جرت لي مع «فراو إرنست» ليلة استأجرت غرفتي عندها بعد وصولي إلى هذا البلد من سفر بعيد. فلم أكد أوقع على عقد الإيجار، وأمسح عن وجهي غبار الطريق حتى انطلقت أكتشف هذه المدينة الصغيرة، وأغوص في بحر الثلج المتراكم على شوارعها وحاراتها الضيقة، وأتفرج على مقاهيها وحاناتها التي تفوح برائحة الدخان والبيرة والنبيذ والسجق. وانتهى بي المسير إلى قبو رطب كأنه كهف من الكهوف التي يأوي إليها اللصوص في آخر الليل، تنحدر إليه سلالم خشبية واهية، تؤدي إلى باب يبدو كأنه بوابة سجن مهجور. ولم أكن أدري وأنا أضع قدمي في هذا المكان العجيب أنني سأثير كل هذا الاهتمام؛ فقد خفتت الأصوات فجأة، وتوقفت الملاعق أمام الشفاه، والتفتت العيون الخضراء تتأمل القادم الغريب. على أنني قد اتجهت إلى المشجب متمهلا فوضعت عليه معطفي المبتل، وسرت مزهوا إلى إحدى الموائد كأنني اكتشفت فجأة في نفسي شيئا لم أكن أفطن إليه. وأسرعت الخادمة الجميلة نحوي: ماذا يطلب الهر؟ - قدح من البيرة. - فاتح أو داكن؟
ولم أكن أعلم أن البيرة ألوان، فأسرعت أقول: كما تريدين.
وتفرست الخادمة في عيني لحظة كأنها تسألهما: من أين؟
كانت الحركة قد دبت في جو الحانة منذ قليل، وعادت أصوات البشر والأكواب والملاعق يختلط بعضها ببعض من جديد. وأقبلت الخادمة بعد قليل تحمل صينية عليها زجاجة كبيرة ووجهها يتهلل بالسعادة. وملأت لي الكوب ثم رفعت عينيها إلي كأنها تستأذنني، ثم قالت: هل يسمح الهر؟
قلت: تفضلي. - الهر من أفريقيا؟
قلت: نعم. - من كينيا، أليس كذلك؟
فضحكت وقلت: وكيف عرفت؟ - الشعر الأسود، العيون السوداء.
قلت: لا، لم تخمني جيدا.
قالت: يا إلهي! إذن فأنت من الحبشة؟!
قلت: لا، من مصر.
فضربت صدرها بيدها وقالت: آه! إيجبتن! الأهرام وأبو الهول!
قلت: تماما.
وامتد بنا الحديث عن التماسيح التي تسبح في النيل، والجمال التي تركض في شوارع القاهرة، والحريم اللائي يعشن في قصر السلطان. ويبدو أن الحديث كان مسليا للغاية؛ فسرعان ما اجتذب رواد الحانة. تقدمت أولا سيدة عجوز فاستأذنت في مشاركتنا، ثم أقبل طالب قال إنه يدرس التاريخ القديم بالجامعة، وتبعه رجل مبتور الذراع قال إنه كان يحارب مع روميل في الصحراء، حتى أوشك رواد الحانة أن يلتفوا حولي وأنا أطلب كأسا وراء كأس، وأستعين بكل ما بقي في رأسي مما قاله معلم التاريخ. ومع السمر الطويل ينسى الإنسان الزمن. وقد نسيت نفسي والتفت فجأة إلى دقات الساعة وهي تعلن الواحدة. وانتزعت نفسي من الجمع المتحلق حولي وأنا أعدهم بأن أعود مرة أخرى. وسرت أستقبل هواء الليل البارد، وأهرع نحو كل عابر أجده صدفة في طريقي لأسأله عن البيت الذي سكنت فيه اليوم لأول مرة. ورحت أترنم بأغنية جاءت على بالي ، وأستعيد شعور الزهو الذي يجري مع الدم الحار في عروقي، وأقلب كلمات الأغنية وألحانها رأسا على عقب! ووجدتني أخيرا أقف أمام الباب، وأطابق الرقم على العنوان المكتوب في ورقة معي. ومددت يدي أدير مقبض الباب، غير أنه لم يفتح. إذن فهم يوصدون الأبواب هنا بالمفاتيح. ماذا أفعل يا ترى والريح باردة. والثلج قد يسقط بين لحظة وأخرى؟ ورحت أبحث بين الأسماء المكتوبة على الباب عن اسم الهر إرنست ووضعت يدي على الجرس. ورن الصوت في البيت كله كأنه إنذار رهيب. لكن أحدا لا يفتح. إذن فلأضغط عليه مرة أخرى. وانفتحت النافذة في الطابق العلوي، أطل منها رأس رأيت الشعر الأبيض الذي يجلله على ضوء مصباح الطريق: هالو. - هالو. - من؟ - أنا يا مدام. - فيلهلم؟! - فيلهلم من؟ - متى عدت يا حبيبي؟ الآن! - نعم. الآن فقط، آسف لأنني تأخرت. - فيلهلم، فيلهلم. فيلهلم عاد يا إرنست. ألم أقل لك؟
استعنت بالكلمات القليلة التي أعرفها من اللغة الألمانية، وقلت: أنا محمود يا مدام!
ولكنها كانت قد اختفت من النافذة، وهبت علي نسمة باردة فارتجفت مفاصلي. ورفعت رأسي إلى السماء فوجدت القمر يختنق بين أكوام السحب الداكنة. وعاد الرأس الذي تجلله الشعرات البيض يطل من النافذة: هالو.
قلت: هالو يا مدام!
ورن الصوت الخافت على أرض الشارع: بابا صحا من نومه، سينزل إليك حالا يا حبيبي.
وأحكمت ياقة المعطف حول رقبتي. وعاد الصوت يقول: فيلهلم. فيلهلم، هل عدت الآن يا حبيبي؟ في قطار الليل؟ لم لم ترسل برقية لننتظرك على المحطة؟
لم أكد أفهم شيئا مما تقول. وانطلق الصوت من جديد: كنت أعرف أنك ستعود. قلبي حدثني بهذا. لم ينسك. لن ينسك أبدا. كل يوم أنتظر أن تعود. كل ليلة إلى جانب النافذة. أنتظر لأسمع يدك وهي تعبث بالمفتاح. أنتظر أن تدخل علي وتقبلني وتقول لي: مساء الخير يا أمي. أنتظر بلا عشاء حتى تأتي في آخر الليل.
قلت في نفسي هي تهرف بشيء لا يعنيني. ربما فاضت بها الذكريات فانطلقت تتحدث عن شيء لا أفهمه . وتجمع تعب النهار وسهر الليل فأسندت رأسي إلى الحائط. وهبت علي نسمة باردة فارتعشت؛ وعاد الصوت يتدفق من جديد بكلام لا أدريه: الدنيا برد يا حبيبي؟ كيف كنت تعيش إذن في سيبريا؟ آه! سيبريا بعيدة. بعيدة في آخر الدنيا. هكذا قال لي أبوك. البرد والليل. الليل والوحدة. وأنت والجنود. وحدكم في الثلج. لم أرسلوك إلى سيبريا؟ ما شأننا نحن وسيبريا؟ اللعنة على البنادق والجنرالات. آه يا فيلهلم! زمن أسود. هذا ما كنت أقوله دائما. زمن أسود. وحرب سوداء. وناس قلوبهم سود. فيلهلم، يبدو أنني كنت قد استغرقت في حلم مخيف صحوت منه على هذا النداء. فضحكت وقلت: فيلهلم من يا مدام؟ - فيلهلم ولدي. - يا مدام أنا محمود! - ماذا تقول؟ ألست أنت فيلهلم؟ - لا أنا فيلهلم ولا أعرفه! - ألم تعد الآن من سيبريا؟ - سيبريا؟ أنا عائد من الحانة! - مستحيل؛ صوتك، وجهك، عودك، أنت فيلهلم، فيلهلم. - يا مدام أنا محمود، أقسم لك! - محمود؟! ما هذا؟!
وبدأ الثلج ينهال على رأسي. ونتف كأنها حبات من القطن تتعلق بمعطفي: يا مدام الدنيا برد! افتحي الباب!
وسمعتها تنشج وهي تقول: إذن فلست فيلهلم؟
قلت وأنا أهز رأسي: لا والله! اسمي محمود.
صاحت غاضبة: محمود! أنا لا أعرف أحدا بهذا الاسم.
قلت: يا مدام أنا الساكن الجديد. حضرت اليوم، واستأجرت الحجرة التي لديك، ودفعت لك خمسين ماركا.
قالت: أنا لا أذكر شيئا. ليس عندي سكان.
تصورت حالي إذ قدر لي أن أقضي الليلة أمام الباب في البرد والثلج والظلام فهتفت: يا مدام أنا حضرت اليوم بالنهار الساعة الثانية عشرة. معي حقيبتان، واحدة صغيرة والأخرى كبيرة. سألتني عن اسمي وبلدي وكتبته على ورقة صفراء، قطعت نصفها وكتبت لي عليه عنوان البيت، رقم 25 أليس كذلك؟! - أنا لا أذكر شيئا. ومن أي بلد تقول؟ - من إيجبتن. - آه إيجبتن! - تمام يا مدام! - في سيبريا، أليس كذلك؟ - سيبريا؟ لا يا مدام، سيبريا بعيدة جدا. - وأين إيجبتن إذن؟
ووقفت أصور لها خريطة الدنيا في الهواء، أشير بذراعي يمينا ويسارا إلى أعلى وإلى أسفل، وأحدد لها موقع النيل ينحدر من جبال الحبشة إلى البحر الأبيض، الصحراء على جانبيه من الشرق والغرب. كان البرد يلفح جلدي ويخترق عظامي، وأنا أشير كالبهلوان في كل اتجاه، أنحني وأقف وأمد ذراعي في الهواء والثلج يتساقط على رأسي، ويشتد شيئا فشيئا حتى يصير عاصفة رهيبة.
ها أنا ذا في هذا البلد الغريب، في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، أقف أمام باب لا يريد أن يفتح لي. وأشرح درسا في الجغرافيا لامرأة ضاعت منها الذاكرة!
قالت المدام بعد أن فرغت من شرحي: كل ما قلته يؤكد لي أن «إيجبتن» في سيبريا! - سيبريا؟! - نعم، نعم. ابني فيلهلم. فيلهلم ابني الوحيد. لا بد أنك رأيته. ألا تعرفه؟
قلت يائسا: لا!
قالت: لا بد أنك قابلته في الحرب. كل الشباب ذهب إلى الحرب، لا بد أنك رأيته هناك. هو يشبهك. صورته مثل صورتك، شعره أشقر طويل، طوله 178 سنتيمترا، وصدره تسعون. فيلهلم ابن طيب. في الصباح يقول لي صباح الخير يا ماما ويقبلني على جبيني، وفي المساء يقول لي مساء الخير يا ماما ويقبلني على جبيني. وحين لبس بذلة الجندية قال لي سأعود يا ماما، سأعود وأتزوج حبيبتي كلارا. ولكن كلارا تزوجت، مسكين يا فيلهلم! تزوجت من موظف بالبنك؛ لأن النساء تنسى سريعا. تنسى سريعا يا فيلهلم!
كنت قد أسلمت أمري لله، وجلست على الرصيف. لممت أطراف معطفي على جسدي، وأحكمت ياقة المعطف حول عنقي، وقلت أستسلم لمصيري وأقضي الليل هنا؛ فأنا لا أعرف هذا البلد، ولو رحت أبحث عن فندق يأويني فلن أجده قبل طلوع الصباح. وكنت قد تهيأت للنوم حين طرق سمعي صوت خشن: هالو! هالو!
والتفت لأجد رأسا أخرى تطل من النافذة. - سأنزل حالا.
وسمعت صرير المفتاح في باب الشقة، وتتابعت بعده ضربات قدمين تهبطان درجات السلم. وانفتح الباب وأطل منه وجه صارم. قلت لا شك أن صاحبه هو الهر إرنست - فلم يكن بالبيت حين أتيت إليه - وفي يده سلسلة طويلة تتدلى منها مفاتيح كبيرة كأنها مفاتيح سجان: مساء الخير .
قلت: مساء الخير يا سيدي. - لا تؤاخذنا يا هر. تفضل، تفضل.
وتقدمني على السلم وهو يقول: كنت نائما. آه! أنا في العادة نومي ثقيل، ثقيل جدا، لا تؤاخذنا يا هر. زوجتي قالت إنك سكنت اليوم عندنا، تفضل، تفضل.
دخلت غرفتي وفرحت بالدفء يستقبلني كأنه أم رحيمة: لا تؤاخذني يا هر. ولكن لا تنس المفتاح مرة أخرى، لا تنس المفتاح.
قلت: نعم يا سيدي. لا يصح أن أنساه مرة أخرى. لا يصح أبدا.
1958م
القط
هل كان في وسعنا أن نفعل غير ما فعلناه؟
أليس هو الذي جنى هذا على نفسه؟
من كان يصدق أن هذا المخلوق الصغير، المغمض العينين، المرتعش الأطراف، سينقلب بين يوم وليلة طاغية مخيفا؟ إن أحدا منا لم يكن يتنبأ له بهذا المصير!
كان لا يزال في علم الغيب حين وصينا عليه الجيران؛ فالقطة الرومي التي نحسدهم عليها قد اختفت منذ أسبوع، لم تعد تقفز من على الساتر الخشبي إلى سطح بيتنا، أو تجلس كالراهب الوقور على السلم لتتشمس. إن بطنها كبرت، ونحن نعرف هذا، ولا بد أنها تلد الآن. في كل يوم أفوت على الجيران بعد عودتي من المدرسة لأسألهم عنها، ويخرج لي صاحب البيت بنفسه فيجيبني قبل أن أسأله: لا يا ابني، لسه ما ولدتش، سلم على الجماعة ... وأمي قد وصت جارتنا بنفسها؛ فحين طلعت على السطوح لتنشر الغسيل أطلت عليها من خلف الساتر وبعد السلامات والطيبات قالت لها: «الولد ميت على القطة، والنبي يا أختي تحجزي له واحدة.» ولم تتأخر جارتنا الطيبة: «حاضر يا حبيبتي، من عيني الاثنين.» وانتظرته على شوق. قط رومي يصبح ملكي، ينام في حضني وأبوسه من عينيه، وينط ويلعب معي، ويأكل من طبقي، ويقفز على مكتبي، ويذاكر معي، ما أجمل هذا! يوم يصل إلى بيتنا سيكون يوم عيد.
وحين عدت من المدرسة - وكان يوم خميس - وجدته قد سبقني إلى البيت. الخادمة أعلنت لي الخبر وهي تفتح الباب، كانت تصرخ وتكاد تبكي من الفرح، فرميت حقيبة الكتب وجريت والخادمة قدامي وأنا أصيح: فين! فين؟
وفي غرفة الفرن وجدت أمي تلاعبه. قط رومي أصيل، رومي بحق وحقيق، شعره أسود من الليل، ذيله مكور ومنفوش، عيناه - وإن لم يفتحهما بعد - لا بد أن تكونا خضراوين. والتففنا حوله، نتأمله ونراقب حركاته. كان جسده ينتفض من البرد، وأطرافه ترتعش، وكان من ضعفه يقوم ويقع ولا يستطيع أن يخطو خطوة على بعضها. ومددت يدي فسلمت عليه، إنه ضيف البيت، أعز من كل الضيوف.
وجرت الخادمة فأحضرت طبقا فيه لبن، ولكن القط لم يفتح عينيه. ولم يبد عليه أنه رأى شيئا. لا شيء إلا ناو، ناو، تخرج منه خافتة متقطعة كالكتكوت الصغير.
وقالت أمي: يا عيني! عاوز يروح لأمه.
وتنهدت الخادمة: يا ستي ده ها يموت من الجوع.
فقالت أمي: ما تخافيش عليه، القطط بسبع أرواح.
وانقطع مواؤه بعد قليل، وخرج منه صوت آخر ممدود بطيء كالنوم فسألت: أمي، هو بيعمل كده ليه؟
فقالت: ده بيسبح! - وقالت الخادمة: القطط بتشوف الملايكة بالليل! - فهتفت: صحيح يا أبي؟
وكان أبي يتدفأ على نار الفرن فقال: القطط من الشيطان.
ولم يعجبني قوله؛ لقد كان منذ البداية غير راض عنه. وكان يتجنبه ويسخط عليه وينفر منه وكأن بينهما ثأرا قديما.
وأصبح القط موضع اهتمامنا. كنا نلتف حوله في ليالي الشتاء كأنه مركز الكون. صحيح أن أبي كان يكرهه منذ البداية، ولا يكاد يقترب منه أو يتمسح في قدميه حتى يقبض عليه ويقذفه بعيدا وهو يصيح: «ارموه في الخرابة، ده كله براغيث.» غير أنني كنت أضعه في حجري دائما وأضمه إلى صدري، وأفرح وأنا أراقب عينيه المذعورتين حين ينظر إلى الأرض من فوق كتفي وكأنه يقف فوق قمة جبل، حتى أمي التي كانت تقول لي في كل مرة تراه معي: «يا ابني هوه أنت مالكش شغلة ولا مشغلة إلا القط.» كانت كثيرا ما تطعمه بنفسها، وتتحسس ظهره بيديها، وترصد نموه يوما بعد يوم، وتحلم بمستقبله: «بكره ده اللي ينضف البيت من الفيران.»
أبدا لم يحظ قط بمثل الرعاية التي حظي بها مسرور - كان هذا هو الاسم الذي اخترناه له - كنت لا أدخل من الباب حتى أسأل عليه، وإذا عدت بالليل وجدته ينتظرني، فلا أكاد أفتح باب حجرتي حتى يموء، ويلف حولي، ويتمسح في قدمي ويتثاءب. ثم يسبقني إلى السرير، ويدخل من نفسه تحت اللحاف، ويظل يراقبني بعينيه الواسعتين حتى أخلع هدومي وآخذه في حضني وأنام.
إن المخلوقات الجميلة لا تنسى أبدا أنها جميلة، فالجمال هو وجودها. إنها تحيا عليه، ومن أجله. وكان مسرور كلما كبر ازداد جماله، وتكور ذيله، وربى فروة ناعمة. فإذا رآني أقف أمام المرآة يتسلل إلى جانبي. ويطيل النظر في خياله، ثم يرفع عينيه الخضراوين إلي وكأنه يقول: «ناو، ناو، شف من أجمل مني؟» الواقع أنه كان على حق في كبريائه. ألم يكن يتيه بنفسه على القطط الضالة التي تدخل بيتنا بحثا عن الطعام، فإذا رآها نظر إليها باستكبار وتطلعت إليه بانكسار، وكأنها من طينة غير طينته؟ لقد كان يختال في مشيته كأنه شبل مغرور.
وعدت يوما فلم أجد «مسرور». بحثت عنه في غرفتي، تحت السرير، فوق الدولاب، في الفرن، وعلى السطوح فلم أعثر له على أثر. ورأيت أمي تضع يدها على خدها. قالت: «أبوك رماه في الخرابة.» كنا بالليل، والدنيا كحل، وصرخت والدموع تخنقني: «القط لازم يبات هنا.» فقالت: «يا ابني الصباح رباح.» ولكنني لم أنتظر. أيقظت الخادمة من نومها، وأشعلت المصباح نمرة خمسة ونزلت والخادمة تتمطى وتتثاءب من خلفي، وأمي تلعن القطط وسيرتها وتنادي من على رأس السلم: «طيب خد عليك حاجة من البرد.» ونزلت أجوس في الخرابة، وأفتش بين أكوام القمامة والتراب المتراكم حتى سمعت مسرورا يموء، ورأيت شبحه الصغير يجري نحوي، فلما اقترب مني تمطى وقوس ظهره، ونفض التراب عن جسده. وانحنيت عليه وحملته بين يدي، كأنه كنزي.
قد يكون هذا هو السبب الخفي الذي جعلنا نحوطه بمزيد من الرعاية والحنان. أصبحنا كلما اجتمعنا حول الطعام نسأل: «فين مسرور؟» وإذا كان اليوم يوم السوق والحالة مفترجة هتفت بأعلى صوتي: «حوشوا كوم مسرور.» أما إذا تصادف وكانت الأكلة أكلة سمك فيا بختك يا مسرور، إننا نجمع العظام والرءوس كلها له، وقد أمد له يدي خلسة من تحت الطبلية بسمكة بحالها.
غير أن السمك الذي كان مصدر فرحه كان أيضا سبب غمه. اجتمعنا ذات ليلة على العشاء، وأبي كعادته يحكي لنا عن أيام زمان، التي كانت كلها خيرا ونغنغة، وكانت العائلة تتغدى وتتعشى بقرشين صاغ. وفتحت أمي غرفة الفرن لتأتي لنا بالعشاء، وسمعناها تخبط على صدرها وتقول: بسم الله الرحمن الرحيم! راحت فين يا أولاد؟
فنادى أبي عليها: خير يا أم إبراهيم؟ - الصحفة يا أبو إبراهيم. - صحفة إيه؟ - صحفة السمك.
فأجاب أبي كأنه يمسك بتلابيب الجاني الأثيم: مفيش غيره! الله يقطع خبره!
فوقفت أمي على باب الفرن: مين؟ القط؟
فأسرعت أقول: وهو ده معقول يا جماعة؟ ده حتى مسرور طيب خالص.
فعادت تقول كأنها تندب عزيزا عليها: والنبي ما في غيره، الصحفة سيباها بخيرها دلوقتي، وقارية آية الكرسي عليها.
فقلت وكأني أدافع عن متهم بريء: طيب دوري هنا ولا هنا.
فقالت: أبدا يا ابني، والنبي ما فاتته، آه يا ناري لو أشوفه كنت أكله بأسناني.
وكأنما جاء القط على السيرة؛ فقد سمعنا وقع أقدام خفيفة تهبط على الدرج، ورفعنا عيوننا فوجدنا مسرورا يندفع نحونا وهو يلعق شفتيه بلسانه، وكأن الدنيا ليست على باله. وصرخت أمي وجرت نحوه، وهجمت عليه بجريدة طويلة كانت قد أعدتها لمثل هذه المناسبة. ونظر إليها مسرور نظرة استغراب، وحاول أن يفهم حقيقة الأمر، فلما وجد أن المسألة جد وليس فيها هزار، هرب بجلده عائدا إلى السطوح، وهي تجري وراءه بالجريدة وتصيح: تعال يا خاين، يا قتال القتلة، منك لله!
وكان القط قد تمكن من القفز على الساتر الخشبي، وأصبح في مأمن من أن تناله يد أمي أو جريدتها التي لسعت ظهره لسعتين طيبتين. فلما أيقن من نجاته التفت وراءه كأنه يريد أن يتفاهم ويعرف سر هذه الثورة عليه. وراحت أمي تلاحقه بلعناتها: «روح ربنا ينتقم منك بحق دي الليلة. كده تبيت العيلة من غير عشا؟!»
ولقد بتنا حقا من غير عشاء. وصعبت علينا صحفة السمك. وازدادت شماتة أبي بمسرور، وأخذ يدلل على بعد نظره قائلا: «مش قلت لكم؟ دي القطط كلها من الشيطان.» وجلست أمي على الحصيرة ووضعت يدها على خدها، وجاءت الخادمة فجلست إلى جوارها كالكلب المجهد المريض، وهي تلهث من النط والجري وراء القط. وراح أبي يقول: ده عامل زي ناكر ونكير، أصل القطط كلها كده، تاكل وتنكر.
فقالت أمي في حزن: كنت فاكراه من جنس تاني، أمال رومي ليه؟
فعاد أبي يقول: شوفي يا أم إبراهيم، إن شالله يكون قط من الجنة، عارفة الجنة، ولا حتى من الهند، أهو قط والسلام.
قالت أمي: قسمتنا، واللي كان كان.
فقال أبي: يا شيخة ده حتى القطط ملعونين، من عهد سيدنا سليمان عليه السلام!
يومها داريت وجهي خجلا. وماذا أقول دفاعا عنه؟ وهل هذه عملة تعملها يا مسرور؟ القصد، أكلنا من الحاضر، والليلة فاتت والسلام.
وغاب مسرور، يوم، اثنين، ثلاثة، أسبوع ... ومسرور لا يظهر له أثر ولا نعثر له على دليل، يا ترى أين أراضيك يا مسرور؟ هل أنت حي أو ميت؟ هل دهسك قطار أو وقعت في بير؟ شغلنا عليه وبدأنا نستوحش طلعته، ونشتاق إلى جلسته في الشمس، وجريه على السلم، ونومه على حصيرة الصلاة، وناو، ناو، ناو ... كأنها بكاء طفل.
وبدأت أمي تحن إليه: «والله يا ابني كان مالي علينا الدار.» وتنظر إلى السلم وتتذكر صورته: «ما أحلى طلعته نازل كده يتهز زي سبع الليل!» وبدأت تستحضر في مخيلتها كل مآثره وأفضاله: «والنبي ده كان عاقل خالص، لما كنت أقعد أشرب القهوة يسحب جنبي بشويش ويبص لي قوي، سبحانك يا خالق يا عظيم، زي ما يكون واحد عجوز.»
فأقول لها: مش عارف إيه اللي غيره على الآخر!
ويدفعها حنانها الفطري فتقول: «ربنا اللي يعرف الظالم من المظلوم، يمكن يا ابني كان بريء واحنا اللي ظلمناه.»
فأضحك قائلا: «إحنا ليه؟ إنتي لوحدك اللي ظلمتيه.»
فتقول أمي: «أي والنبي يا ابني، ندر علي يا مسرور لو رجعت تاني لأعملك صحفة سمك لوحدك!»
وعاد مسرور أخيرا. إنه مثل كل القطط، يأتي على السيرة. وقف على الساتر الخشبي قليلا كأنه يتعرف على الجو. فلما رآنا نشخص إليه مذهولين وندعوه ونطمئنه على نفسه، هرول يجري نحونا، وهات يا ناو، ناو ...
ولكن «مسرورا» كان قد تغير. صارت كبرياؤه المحبوبة مع الزمن شيئا حزينا مجروحا، وبدأ يميل إلى العزلة. كنت أعود إلى البيت فأفتش عليه في كل مكان حتى أعثر عليه: فوق السطوح، أو في بير السلم، رأسه بين ذراعيه، ونظرته كسيرة، وجسده ممدد كأنه أبو الهول. فإذا رآني مقبلا عليه يرفع عينيه الحزينتين الواسعتين إلي قليلا ثم يعود إلى إطراقه وصمته. وإذا انحنيت عليه لأصالحه وأربت على ظهره، وأتحسس فروته الناعمة، طفق يموء مواء متقطعا مبحوحا كأنه يريد أن يقول: لم لا تتركونني وحدي؟ واعتدنا مع الأيام أن نراه راقدا على الساتر الخشبي كأنه تمثال فرعوني صامت. حتى الأصناف التي كانت تعجبه لم تعد تحرك فيه ساكنا؛ فلا السمك ولا اللحم يؤثر فيه. وازداد عطف أمي عليه وكأنها تعتذر عن ذنبها في حقه. ولكنه لم يكن يزداد إلا نفورا. حتى أصبح كما قالت أمي في ربع حاله، جلد على عظم.
وانقلب حزنه وصمته مع الزمن عصبية وتحفزا، إذا اقترب أحد منه ليدلله أو يداعبه كشر عن أسنانه، وإذا زاد فيها وقف شعره كالإبر وتقوس ظهره، وزمجر وزام، وربما خربشه وعض يده. ولم يسلم أحد من شره. ولم يعد أحد يتجاسر على الاقتراب منه. وصار كما قالت أمي مثل ضبع الليل.
إلى أن كان يوم ارتكب فيه جريمته التي لا تغتفر. كانت لأمي صومعة كبيرة في حجرة الفرن. وضعت فيها الأرنبة الكبيرة التي ولدت سبعة صغار كالكتاكيت، كلها لحم في لحم. كانت ترعاها بنفسها، وتدس لها الأكل في الصومعة، وتغلق عليهم باب الفرن في عناية وحذر. لا لم تكن العرسة هي السبب، إن القط، بقدرة قادر، هو الذي اقتحم الصومعة ذات ليلة، ليلة أسود من وجهه، وراحت أمي تفتش على الأرانب الصغيرة. وتدس لها حزمتين من البرسيم وإذا بها ترى «مسرور» خارجا كالنمر المفترس، وفي فمه أرنبان. وجرت وراءه ولكنه كان قد اندفع أمامها كالوحش وهرب بفريسته إلى السطوح «الحقوا يا أولاد، القط أكل الأرانب!» وجرينا وراءه ولكنه كان قد أفلت من أيدينا. فعدنا إلى الصومعة نفتش على بقية الأرانب. كان القط قد أتى عليها جميعا، ليلة في ليلة، ولا من شاف ولا من دري.
كانت كل محاولة للصلح مع مسرور قد تبددت.
أصبحنا أمام وحش حقيقي، ومن يدري؟ إذا تركناه في هذه المرة فهل يقف عند حد؟ لقد أصبح حبيبنا وأملنا ولعبتنا هو عدونا الأول.
ووضعنا الخطط للقبض عليه. وكان أبي أكثرنا حماسا، وراح يردد قوله: ده مش قط. أنا عمري شفت قط بالشكل ده؟!
وظهر مسرور أخيرا. نزل على السلالم يتهادى بخطواته المتزنة. وما كان لأحد منا أن يتأخر أو يهرب، وتأهبنا للانقضاض عليه، كل واحد من ناحية، وفي يد كل منا ما يتيسر: غابة طويلة، أو مقشة. هجمنا عليه. كنت أنا الذي قبضت عليه، وبيدي هاتين اللتين طالما طوقتاه في حنان وضعته في زكيبة وأغلقتها عليه. وصاحت أمي: خذوه على طول على الترعة.
وحملت الزكيبة على ظهري، ومسرور يتلوى في داخلها كأنه وحش مقيد بالسلاسل. وسارت الخادمة ورائي، تمد يدها لتضربه على رأسه فيهبط إلى قعر الزكيبة وهو يموء مواء متقطعا مبحوحا.
كانت مهمة قاسية، لقد كان علي أن أغرق مسرورا. وأرسلت الخادمة تبحث عن حجر كبير. فعادت تحمله بين ذراعيها فرحة متحمسة مقتنعة بأنها تقوم بعمل رائع وعظيم. وقذفت بالحجر في داخل الزكيبة. وارتطم برأس «مسرور» المحبوب فصرخ صرخة ضعيفة ضاعت في أعماق سجنه الصغير. ويظهر أنه أحس بمصيره، وعرف أن لا فائدة من مقاومته فلم يعد يتحرك أو يستجير. ورفعت الزكيبة وقذفت بها في الترعة فارتطمت بالماء ثم غاصت إلى قرار سحيق. ومع أني كنت مقتنعا بما فعلت، وما ندمت عليه يوما، إلا أن الحزن يعصر قلبي حين أذكر أن «مسرور» المسكين قد مات على يدي أنا دون غيري.
هذا المخلوق العزيز المغمض العينين ... من كان يصدق أنه سيصبح طاغية مخيفا؟!
ولكن هل جنى عليه أحد؟
وهل كان في وسعنا أن نفعل غير ما فعلناه؟!
1953م
مولانا السلطان
طردوني من المسرح. لم يكتفوا بطردي. شتموني ولعنوا جدودي. لم يكتفوا بهذا أيضا. صفعوني على وجهي وعيني وركلوني بالأقدام. قالوا لي: إياك أن تضع رجلك على عتبة المسرح. إياك وإلا قطعنا رأسك ورميناه للكلاب.
نكروا العيش والملح الذي أكلناه معا عشرين عاما. في عز الليل والناس نيام كسروا عظامي وأغلقوا ورائي الباب. لم يشفع لي الجري والتعب وسهر الليالي والبهدلة في بلاد الله. حتى الجمهور الذي أفنيت عمري في خدمته لم يشعر بحالي؛ فقد كنا كما قلت في عز الليل، بعد أن انصرف الناس وأغلقت الستار.
هل أحكي لكم الحكاية من أولها؟
كان ذلك منذ عشرين عاما أو يزيد حين انضممت إلى فرقة «الفنون العالمية». أقول انضممت، وأعترف بما في هذا القول من مبالغة؛ فلم أكن أعرف شيئا عن التمثيل ولا جربت الوقوف على المسرح. كنت أيامها أبحث عن عمل، أي عمل؛ فبعد أن سقطت في الابتدائية أربع مرات يئس مني أبي وقال يحرم عليك بيتي حتى تبحث لك عن عمل. جربت ألف صنعة وصنعة. تسكعت في الشوارع، نمت في الحدائق والجوامع، اشتغلت صبي نجار وسمكريا وشيالا في السكة الحديد وعتالا بالأجرة وملاحظ أنفار وفشلت فيها جميعا. عشت مع النشالين والبلطجية والقوادين ولم أفلح في أن أكون نشالا ولا بلطجيا ولا قوادا. حاولت أن أنتحر ثلاث مرات - محاولات غير جادة بالطبع - بالزرنيخ والأسبرين وصبغة اليود، ولكنهم كانوا ينقذونني في كل مرة. وحين رأيت الزفة تسير في مولد سيدي إبراهيم، معلنة بالطبل والمزمار والصياح عن فرقة الفنون العالمية قررت أن أكون ممثلا - مشيت معهم في الزفة، زعقت بأعلى صوتي وتشقلبت كالقرود وملأت وجهي بالدقيق كالبهلوانات فأحبوني. وذهبت معهم إلى مدير الفرقة وقلت له: أريد أن أمثل معكم. ابتسم حين رآني أمامه ثم مسح على وجهه وقال : الإرادة لا تهم. المهم أن تكون ممثلا. لم أفهم، فصحت من جديد: أريد أن أمثل معكم! قال بعد أن قطب جبينه: المهم هو الموهبة. ماذا تستطيع أن تمثل؟ قلت: أمثل دور رجل يموت (كنت قد رأيت الموت بعيني أكثر من مرة وجربت أثر السكاكين في بطني عندما كنت أحاول الانتحار). قال ضاحكا: طيب فرجنا على شطارتك. فارتميت على الأرض وبدأت أتأوه وأئن وأمد ذراعي إلى الأمام والخلف، وأرسم على وجهي كل ما أستطيع من علامات الألم. ويظهر أنني كنت ساذجا في التمثيل؛ إذ سمعت المدير يقول: هل تموت أم تتثاءب؟ قم رح لحالك! تشنجت وتأوهت في هذه المرة تأوها يقطع القلوب وقلت وأنا أبكي: في عرضك يا سعادة المدير، جربوني ولو ليلة واحدة. قال غاضبا: ليس في روايتنا أحد يموت، إلا إذا وافقت على أن تقطع رأسك كل ليلة. صرخت: تقطعوها أو لا تقطعوها. أي دور يا سعادة المدير.
ضحكوا علي وضربوني على قفاي. وحين جلسوا للعشاء عزموا علي واعتبروني واحدا منهم. ورفع المدير صوته وقال: سنعملك حاجبا على باب السلطان. كلما رأيته داخلا المسرح هتفت بأعلى صوتك: مولانا السلطان. فهتفت بصوتي الجهوري: حاضر يا مولانا السلطان! قال في غضب وسط ضحك الممثلين الذين غرغرت عيونهم بالدموع: لا، من غير حاضر. مولانا السلطان فقط. تقولها كل ليلة عشر مرات. وبالنهار تمشي مع زفة الإعلانات وتجذب الجمهور للرواية ولا مانع عندي أن تهتف بدورك ألف مرة - ليلتها اتفقنا وكان ما كان. عرفت أن الرواية اسمها «هارون الرشيد أو نكبة البرامكة» رواية من ثلاثة فصول يمكن على حسب الأحوال أن تصبح اثنين أو أربعة أو حتى خمسة. ومنظر واحد لا يتغير. قاعة العرض يمثلها كرسي فخم هو كل ما تملكه الفرقة ووراءه منظر بيوت وقباب المفروض أنه مدينة بغداد، وسجادة دابت ورقعت ألف مرة من كثرة ما مشى عليها الزمان، وسيف قديم لو دقق الجمهور النظر فيه لرأى الصدأ الذي يملؤه، يمسكه العبد «مسرور» ويخطر به على المسرح ويقطع رقبة جعفر ويقدمها لهارون الرشيد في آخر منظر على صينية من النحاس. وصندوق من الخشب رسم عليه سبع يمسك بيده سيفا يمتلئ بعباءات الممثلين وطراطيرهم وبلغهم ولحاهم المستعارة أيضا. ننقله معنا من بلد إلى بلد، ومن مولد إلى مولد. يجلس عليه الوزراء والعظماء بين يدي السلطان، وينام عليه السلطان نفسه بعد أن يغلق الستار!
عشرين سنة قضيتها معهم. بالطبع ليس من الواجب أن أتحدث عنهم بضمير الغائب؛ فقد عرفنا بعضنا وأكلنا العيش والملح مع بعض، ودخنا من الصعيد الجواني لوجه بحري على رجل واحدة، في عز الحر وفي عز البرد، في عربات السبنسة وعلى العربات الكارو، في الموالد وفي الأفراح، في الجوع وفي العطش، بالليل وبالنهار. علي السبع هو مدير الفرقة وصاحبها ومؤلف الرواية وموزع التذاكر ومؤدب الجمهور إذا لزم الأمر. كان جزارا في شبابه وهوى التمثيل، من كثرة ما شاف في السينما وسمع في الراديو وحفظ من عنترة وأبو زيد. الفن حكم عليه أن يرمي السكين ويمسك صولجان الخلافة، يترك رقاب العجول والخرفان ويأمر بقطع رقاب البرامكة. ومسرور السياف كان بوابا من النوبة وتاب. زهق من القعدة طول النهار لا شغلة ولا مشغلة. قامت في مخه يمثل ويقف على المسرح. لا يوسف وهبي ولا علي الكسار في زمانه. جاره أبو السباع قال له: تقعد في الشمس ولا تقطع الرقاب؟ قال له: أقطع الرقاب. قال له: طيب شف لك سيف وتعال معي. وجعفر الزبال - واسمه الحقيقي جعفر - حكم عليه الزمان أن ينضم للفرقة ويقدم رأسه في آخر كل ليلة لمسرور السياف. إنه يصرخ طول الرواية ويسترحم ويثبت بألف دليل ودليل أنه بريء ولكنه يقدم رأسه في آخر الليل. لا يقدمها بنفسه بالطبع؛ بل يقدمها «مسرور» السياف على صينية النحاس وهو ينحني أمام كرسي العرش ويقول: رأس الخائن جعفر يا مولانا السلطان!
أما أنا فأقف على المسرح طول الرواية. ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات، على حسب الأحوال كما قلت، وعلى حسب عدد الجمهور، ورواج الإيراد. يمكنكم أن تقولوا إنني في الحقيقة لم أكن أصنع شيئا سوى الوقوف على رجلي والصياح بملء صوتي الذي يعرفه الناس من أقصى الصعيد إلى أقصى وجه بحري: مولانا السلطان! صحت بها وأنا شاب في العشرين وصحتها وأنا في الأربعين، في المدينة وفي القرية، في الأفراح والموالد، عندما كنت صحيحا وعندما بدأ المرض يدب إلى جسدي. كانت تخرج قوية من حلقي، لا بل من صدري كله، تزلزل أرجاء المسرح الخشبي الصغير، وترج الصالة، وتهز القلوب. يظهر بعدها السلطان في أبهته وجلاله، فيجلس على كرسي العرش، ويستمع إلى الوزراء والعلماء، ويداعب زبيدة وقوت القلوب، ويفرح بغناء الجواري أو يغضب حين يسمع ما يرويه له الوزراء ورجال البلاط عن خيانة جعفر وفتنه - يظهر على المسرح فيستقبله صوتي الرنان: مولانا السلطان! كلمتان اثنتان، لم يكن لي أن أزيد عليهما كلمة واحدة، فما كان دوري - دور الحاجب - ليسمح بأكثر منهما. ومع أنني كنت أبذل كل ما أستطيع في القيام بدوري على خير وجه، فأتقنت مع الزمن تأدية الحركات التي تلازم هاتين الكلمتين، من مد الذراعين على آخرهما، وتطويح الرأس إلى الخلف، وحشر كل معاني الرهبة والإجلال في نبرات صوتي الجهوري؛ فلم يكن يزيد عن قولي: مولانا السلطان. ومع أنني كنت أساعد في تجهيز المسرح قبل بدء العرض، وأحمل الديكور الوحيد إلى مكانه في خلفية المسرح، وأضع كرسي العرض والصندوق الكبير في مكانهما في الواجهة وعلى اليمين، وأستعجل الممثلين بل أساعدهم في بعض الأحيان على ارتداء ملابسهم، وربما أيضا على حفظ أدوارهم، ومع أنني كنت أنظم زفة الموكب الذي يقوم بالإعلان للرواية في الشوارع، وأشارك فيها بالرقص والغناء والهياج والشقلبة إن اقتضى الأمر، وأبتكر في ذلك كله ابتكارا يشهد لي به العدو قبل الصديق، مع أنني كنت أفعل ذلك فلم يكن يسمح لي بأن أزيد على هاتين الكلمتين كلمة واحدة. وتستطيعون بالطبع أن تتصوروا مدى حزني وضيق صدري على مر الأيام. صحيح أنني كنت سعيدا بذلك الدور متمتعا بالوقوف على المسرح كل ليلة أطول مما يقف أي ممثل آخر، مغتبطا بلقب «ممثل» الذي يطلقه علي زملائي في العمل، بل أفراد الجمهور الذين كان يحدث أن ألتقي بهم في الشوارع أو على المقاهي ويتذكرونني، وصحيح أيضا أن عظمة الدور لا تقاس بعدد الكلمات التي يقولها الممثل على خشبة المسرح، كما أن أهميته لا تحسب بحساب الحركات التي يؤديها عليه. إلا أنني مع ذلك كنت قد بدأت أستشعر شيئا كالحزن أو خيبة الأمل يزحف على قلبي كل ليلة. بل أصارحكم بأنني كنت قد بدأت أسأل نفسي الأسئلة التي لا يجوز أن تخطر على بال ممثل حدد دوره من قبل: إلى متى أظل على هذه الحال؟ لماذا لا يتيح لي أبو السباع دورا أكبر؟ وإذا كان من المستحيل أن أقوم بدور جعفر أو مسرور أو أحد الوزراء أو العلماء - بالطبع لم يكن يدور بخاطري أن أقوم بدور السلطان نفسه؛ فذلك هو رابع المستحيلات! - فلماذا لا يسمح لي ببضع عبارات أضيفها إلى الكلمتين اللتين عهد إلي بهما؟ لماذا لا يضاف مثلا أحد المناظر، حتى ولو كانت ثانوية ولا تؤثر على مجرى الرواية أدنى تأثير - يتاح لي فيها أن أظهر براعتي وأثبت أنني أستطيع أن أضيف شيئا إلى دوري الذي لا شك في أهميته، ولكن لا شك أيضا في ضآلته؟
بمرور الأيام رحت أفكر في ذلك تفكيرا جديا. بدأت أعلن سخطي هنا وهناك، في صورة ملاحظات تافهة في أول الأمر، أخذت تتطور بعد ذلك إلى ما يشبه التمرد والعصيان. كنت أنتهز الفرص لأختلي بجعفر ومسرور، كل على حدة، بعد أن ينتهي التمثيل ونتهيأ للنوم أو نتجول في الشوارع أو نشرب الجوزة في أحد المقاهي. كنت أتوسط عندهما لكي يشفعا لي عند أبو السباع، وأزن عليهما بأن المسألة طالت أكثر مما ينبغي، وأن على السلطان أن يسمح لحاجبه ولو مرة واحدة في حياته، ولو في عرض صغير في قرية صغيرة منسية، بأن يظهر براعته في التمثيل، ويقول جملة أو جملتين من نفسه. وقد استطعت مع الزمن أن أجذبهما إلى صفي، وأضمن عطفهما على قضيتي، التي أصارحكم بأنها كانت في ذلك الحين أشبه بما يسمونه في هذه الأيام بقضية حياة أو موت. كانت المشكلة الوحيدة عندهما هي ماذا عسى أن أضيف إلى ندائي المشهور؛ فأنا لست مؤلفا ولا يمكن أن أدعي ذلك. ولا بد في مثل هذه المشكلة أن يتولاها مدير الفرقة وصاحب المسرح والمسئول الأول والأخير عن الرواية بنفسه؛ فمن غير الجائز بالنسبة لفرقة تحترم نفسها وتحترم جمهورها أن يقف أحد الممثلين ويرتجل كلاما أي كلام على خشبة المسرح. إذ ماذا يفعل أبو السباع يا ترى؟ وماذا يكون وقع هذه الكلمات عليه. وحتى إذا فرضنا أنه لم يغضبه ولم يثر ثوراته المألوفة فماذا يكون موقفنا أمام الجمهور؟ وإذا حدث وتلجلجت أو اختلط الأمر على السلطان ولم يعرف بماذا يرد فماذا تكون الحال يا ترى؟
مشاكل عويصة بالطبع، حاولت أن ألتمس لها الحلول من كل طريق. ويظهر أن الإنسان مخلوق لا ييأس بطبعه - فمجرد أنه يتنفس دليل على أنه لم ييأس بعد تماما! - وأنه في بعض الأحيان يصل به الطيش إلى حد أن يخاطر بكل شيء في سبيل نزوة طارئة يخيل إليه أنها الشعرة التي تفصل بين وجوده وعدمه. المهم أنني كنت قد يئست من أن أفاتح أبا السباع بنفسي في ذلك الأمر. كتمت في نفسي وقلت أنتهز فرصة مناسبة وألقي بقنبلتي على المسرح، فإما أحرقتني ومن معي وإما تطايرت معها في السماء وأصبحت أعظم ممثل في فرقة الفنون العالمية.
وقضيت السنوات الطويلة أفكر في مسألتي. كان لا بد أن أضيف شيئا إلى مولانا السلطان، جملة أو جملتين أو عدة سطور. كانت المسألة في نظري قد انتهت وتقرر الأمر. لا بد من أن أقول شيئا وليكن ما يكون! وجاءت مشكلة أخرى لم تكن في الانتظار. ماذا ستكون هذه العبارة؟ وهل تناسب الجو الذي ستقال فيه أم ستكون شاذة عليه؟ هل تحوز قبولا لدى السلطان هارون أم سينفر منها ويغضب وربما يهجم علي ويقبض على رقبتي؟ وإذا أغضبته فهل تحوز رضا الجمهور؟ إنها إن فعلت فلن يهمني بالطبع أن يسخط السلطان أو يرفض؛ فإسعاد الجمهور، كما يعلم كل ممثل على ظهر الأرض، هو هدفنا الأول والأخير. أم يا ترى سيتلجلج السلطان وينسى الدور الذي حفظه ويرتبك ويشعر الجميع بارتباكه؟ ورأيت بعد طول تفكير أنه لا بد من استبعاد هذا الاحتمال الأخير؛ فالملقن سيبادر بغير شك إلى مساعدته. ومن حسن الحظ أن الملقن دائما ما يكون هناك. إذن فلأتوكل على الله وليكن ما يكون.
وجاءت مشكلة أخرى: ماذا سأقول؟ لا يمكن بالطبع أن أرتب دورا طويلا يستلزم الأخذ والرد، كما يستلزم استعدادا سابقا ومرانا طويلا عليه، ثم إنني لا أستطيع أن أرتب هذا الدور من طرف واحد، وإلا للزم أن يخرج السلطان على الفور من المسرح ويتركني لأحدث نفسي. إذن فلا بد أن تكون عبارة أو عدة عبارات أضيفها إلى كلمتي القديمتين. ولكن أي عبارة؟ هل أقول مثلا: مولاي السلطان (لاحظ أنني قلت مولاي لا مولانا، واعتبرت المسألة بذلك شخصية إلى أبعد حد!) لماذا حكمت علي بهذا؟ - عبارة سخيفة بغير شك فهو أولا لم يحكم علي بشيء؛ لأنني أنا الذي سعيت إلى الالتحاق بالفرقة، وإن لم أكن بالطبع قد سعيت إلى هذا الدور بالذات. ثم بماذا يستطيع أن يرد علي؟ وهل من المعقول - وليكن معلوما أن كل جهودي ليس فيها أي اعتراض على هذا الدور - أن يتحدث الحاجب إلى سيده وسلطانه ويوجه إليه مثل هذا السؤال؟ أم أخاطبه - وسيفاجأ بالطبع بذلك في كل الأحوال - قائلا: مولاي السلطان. هل تسمحون لي بأن أقول لكم ... ولكن ماذا أقول له؟ هنا تأتي المشكلة. إن كل ما سمح لي بقوله هو: مولانا السلطان. أقولها بصوتي الجهوري. وأمد فيها وأجود كما أشاء. ولكنها تظل محايدة، بعيدة عن كل علاقة شخصية، ثابتة ورزينة كحكم يتلى في المحكمة. ثم ماذا عندي لأقوله له؟ ستقولون أشكو له حالي. ولكن لماذا أشكو الآن بعد هذا العمر الطويل؟ وهل يستطيع هو نفسه - وهو في نهاية الأمر ممثل يقف على خشبة المسرح كل ليلة كما أقف - أن يغير من الأمر شيئا؟
قضيت السنين كما قلت أفكر فيما سأقوله لأبي السباع ، لا بل فيما سأفاجئه به، في ليلة رهيبة كنت أعلم تماما أنها ربما كانت آخر ليلة على المسرح، وربما كانت بداية مجد جديد يكتب لي فيها الحظ من السماء. كنت قد بدأت أشعر بدبيب الشيخوخة في جسدي، بالشعرات البيض تلمع واحدة بعد الأخرى في رأسي، بالتعب يزحف على روحي. ويظهر أن هذا الشعور، إلى جانب النزوة الطائشة التي كانت قد تحكمت في والتي حكيت لكم عنها من قبل، هما اللذان أوعزا إلي أن أنتهي إلى عبارتي التي فكرت فيها طويلا، حتى كدت أنا نفسي أصبح حرفا أو نقطة فيها (ومن حسن الحظ أن مسرور السياف وجعفر، بل السلطان نفسه لم يلاحظوا في السنوات الأخيرة أنني كنت أكثر من الحديث مع نفسي، وأنني كنت أقف على المسرح شبه غائب عن الوعي، وأن صيحتي المألوفة كانت تأتي قبل موعدها أو بعده، بل إنني نسيت عدة مرات أن أهتف بها بالمرة). المهم أنني وقفت أخيرا على المسرح، وجاءت اللحظة التي أقول فيها كلمتي الخطيرة. كان ذلك ليلة الأمس كما قلت لكم. ولست في حاجة إلى أن أقول إنني على الرغم من تعبي ودقات قلبي المتلاحقة قد جمعت كل شجاعتي على طرف لساني وقذفت بها مرة واحدة في وجهه، بغير ضعف ولا صراخ ولا رغبة ظاهرة أو خفية في البكاء أو العفو والاستغفار. لم يكد السلطان يجلس على كرسي العرش في أول الرواية حتى تركت مكاني المعتاد على الباب الأيمن من المسرح ووقفت أمامه وقلت: مولاي السلطان! ورفع أبو السباع رأسه الضخم الأصلع إلي ولاحت على شفتيه الجافتين شبه ابتسامة، وفي عينيه الراضيتين شبه استغراب، فتقدمت أكثر وألقيت بنفسي على ركبتي وأنا أهتف: مولاي السلطان! هل تسمحون لي بأن أقبل قدميكم؟!
ونهض السلطان واقفا، في جلال يعرفه الجميع عنه انحنى ووضع يديه على كتفي (يظهر أنني كنت قد نسيت نفسي!) وقال: «قم يا بني. قم وخذ جزاءك من عبيدي.» وأشار بإصبعه الذي يلمع فيه خاتم ذهبي مرصع بفص من الفيروز إلى مسرور السياف، فأسرع وجذبني معه إلى الخارج. لا أدري إن كان الجمهور قد هاج وثار أم ضحك وزاط، أم لبث هادئا ولم يلاحظ شيئا (فمن حسن الحظ أن الجمهور في كل ليلة غالبا ما يكون غيره في الليلة السابقة). المهم أنني كنت أنتظر جزائي في الخارج. بعد أن قلت كلمتي نلت جزءا منه، والباقي بعد أن انتهت الرواية.
ألم أقل لكم إنهم تجمعوا حولي وصفعوني على وجهي وركلوني بالأقدام؟ ألم أقل لكم إنهم طردوني من المسرح؟
1964م
الزواج الأبدي
أنا لا أذكر مما حدث شيئا، كل ما أدريه أنني عدت إلى بيتي في قريتنا البعيدة. أكانت عودتي بعد عشر سنين أو بعد عشرين سنة؟ لست أدري؛ فكل ما أذكره أنني عدت إلى بيتي، بعد غربة طويلة. كانت زوجتي قد خانتني مع رجل آخر. وكنت مكدود النفس ممزق الفؤاد، فعدت إلى بيتي، لأرتاح على صدر أمي، لأمزج أنفاسي المشتعلة بالغضب بأنفاسها المعطرة بالمحبة. نعم! عدت إلى بيتي.
كان علي أن أدق الباب دقا عنيفا؛ فقد كنا في عمق الليل، والظلمة من حولي تلف النائمين، البيت، وأهلي والجيران، إلا نباح كلب بعيد، عند طرف القرية الغربي، ونقيق ضفادع تقفز قفز عشواء على شاطئ الترعة القبلية. - مين، مين؟
كان علي أن أكرر قولي «أنا» وأن أرفع من صوتي تماما حتى يعلو، لكأنما كان ينبعث من جوف بئر قديمة. عرفت صوت أمي وهي تكرر السؤال قبل أن تجد الشجاعة على فتح الباب؛ فقد كنا في عمق الليل، والظلمة تلف النوم والنائمين، وعرفت وقع قدميها - كان فيهما قبقاب قديم - وهي تهبط درجات السلم الخشبي، وتحدث من حولها ضجة تكاد أن تؤنس خوفها. وعرفتني أمي، وغيبتني بين أحضانها، وعصرت وجهي بقبلتها الطويلة. أنا أحب أمي، وهي تحبني، كانت تفصل بيننا هوة عميقة من بعد الزمن، فعبرناها. تعانقت روحانا في هذا القرب الجميل، بعد أن غبت عنها عشر سنين أو عشرين سنة. إني لا أذكر تماما.
قالت لي أمي وهي تعطفني إليها، وتتحسس عظام ظهري البارزة بيديها: بالسلامة يا ابني، بالسلامة عدت. - نعم يا أمي، جئت أنشد الراحة.
ومست شعري الأجعد، كأنني طفل صغير، وترقرق صوتها كالماء: لم تتغير كثيرا، لم تتغير.
وتلفت أبحث عن مرآة أرى فيها وجهي، فلم أجد. وهتفت بي: ولكن لم لم تقل لي متى وصلت قريتنا؟ - في قطار الليل يا أمي. - في قطار الليل؟ ولكن كيف، كيف؟ - جئت في قطار الليل الأخير، والساعة الآن هي التاسعة والنصف. انظري. - ألم تلتق بها في طريقك؟ - من؟ إني لم أر أحدا. - ولا على المحطة؟
فأطرقت بوجهي إلى الأرض وأنا أقول: «لم يكن أحد في انتظاري.» وجذبتها من يدها وأنا أتضاحك. لم ألتفت إليها وهي تهمس: ولكنها لم تعد، لم تعد. فقد كنت أدير عيني في وجهها، لم تتغير أمي كثيرا، شعرها ما يزال كما كان، إلا شعيرات بيض تتوجه، ثلوج بيضاء في غير أوانها، وعيناها تبرقان، كما رأيتها في آخر مرة، وإن أصبحتا كشمعتين ساهرتين على جسد ميت، في غرفة مظلمة. وصوتها ما يزال يلمع كالفضة، وإن سرت فيه بحة خافتة و... لكنها تمتمت قائلة: كيف لم تعد إلى الآن؟ كيف لم تعد؟
لم أكن أعرف عمن تتحدث. قلت لها وأنا أتحسس جدران بيتنا: هيا، هيا أريني البيت، حجرة حجرة، لن تغمض عيني قبل أن تراها. لا تغفلي منها شيئا.
وسرنا معا نطوف بالغرف، إلى اليمين غرفة مظلمة فيها ولدت في الساعة التي ينحسر فيها قناع الظلمة عن وجه الفجر، لم أملك أن أطأها بقدمي، اكتفيت بأن واريت الباب ونظرت من خلاله؛ كان هناك ثمة أثاث متروك، يرقد مثل حطام رجل عجوز مقعد. وعبرنا ممرا ضيقا، وطلعت على سلالم لا أذكر عددها، واستوثقت من مواضع قدمي. كنت أسير في بيتي - لا شك في ذلك - فها هي أمي تسير إلى جانبي، وفي يدها شمعة أهتدي بها وكأنني أضرب في قصر التيه، وأسأل عن كل شيء. كنت أهتدي مع كل خطوة إلى شعوري المفقود، وأعيد بناءه. وكانت ذاكرتي كهذه الغرف المظلمة؛ فأنا أدع شعاع النور ينفذ إليها. قالت لي أمي هامسة : «هس! أخفض صوتك.» ونظرت حوالي. كان ثمة باب مفتوح، ورجل عظيم ممدد على سرير نحاسي أصفر، يتصاعد شخيره العالي، وتحرس جسده شمعة. قالت لي أمي: إنه أبوك، انظر إليه. ونظرت، كان مثل بطل عظيم من أبطال أثينا. وفي الجانب البعيد من السطوح كانت غرفة صغيرة، قلت في نفسي: لا شك أن هذه هي غرفة الدجاج والبط، فهرعت إليها وأنا أغالب ضحكي، ولكن أمي لحقت بي كأنما فررت من يديها، ووجدتها تصرخ في أعماق الليل: لا تقترب ... بالله عليك لا تقترب منها!
جمدت حركتي أمام الباب الخشبي كتمثال من الشمع. إنه مغلق بقفل حديدي ضخم، والصمت يحرسه. ولم أكد أسأل أمي التي أبعدتني عن الباب حتى سمعنا الباب الخارجي يفتح، ووقع أقدام على السلالم الخشبية. من الطارق الجريء يا ترى؟ وأمي لا تجيب، إلا من بسمة غامضة فوق شفتيها الذابلتين. أنا إن كنت في وعيي، فأنا أعرف أهلي تماما؛ فالباب الخارجي مكتوب عليه اسم أبي، على لافتة نحاسية كبيرة، وأمي تقف إلى جانبي، ولا يمكن أن تكون امرأة أخرى تشبهها، فهكذا عرفتها من قديم، ودمي يحدثني بأنها أمي. نعم! لا يمكن أن يكون ما أراه وهما، وأنا أعرف أن لا أحد يسكن بيتنا غيرهما؛ فأنا ابنهما الوحيد. من الطارق الجريء يا ترى؟ أما أنا فجريت إلى السلم، واستندت على سوره الأعلى. كان شبح امرأة يتدحرج صاعدا على السلم، وحين وصلت إلى الدرجة التي أقف عليها مددت ذراعي نحوها، أردت أن أقول لها من أنت، أردت أن أتملى في وجهها لأعرف من الغريب، لكنها لم تحاول حتى أن ترفع وجهها لتراني؛ فقد مرت من أمامي صامتة كما دخلت. عبرت بأمي التي قالت لها: هل عاد زوجك؟ والمرأة تجيبها: لم يعد بعد، سوف يأتي في قطار الغد. ثم سارت إلى غرفتها، ففتحت قفلها، وأغلقت الباب من خلفها، وأضاءت المصباح.
أما أمي فتناولت يدي وهبطت بي درجات السلم، وحين جلسنا معا في الغرفة المواجهة لغرفة أبي قالت لي: أنت الذي فعلت كل هذا؟ - ولكني لا أعرفها، الذنب ذنبك.
وأطرقت لحظة رفعت رأسي بعدها وقلت: من هذه المرأة الغريبة؟
وكان أن عرفت منها كل شيء؛ تذكرت المرأة التي طرقت بابنا ذات يوم طرقا وحشيا، ففتح لها أبي، وسمعته يهدر في وجهها ويقول أن ليس لديه لها عمل، وجريت لأرى المشهد: امرأة تكاد أن تكون في سن الشيخوخة، راكعة على قدمي أبي، تطلب منه عملا، لها عينان زائغتان، ووجه بارز العظام، ويدها اليسرى مشلولة فهي تترنح على الدوام. أما أمي فكانت جالسة أمام الفرن تصنع لنا الخبز، واللهب في طاقاته يئز أزيزا، والعرق يتصبب من وجهها الأحمر. وأسرعت تهدئ من ثورة أبي. وكان أن دخلت هذه المرأة الغريبة بيتنا، خادما تساعد أمي التي كانت ما تزال وحيدة، لا تجد أحدا يعاونها.
وتذكرت هذه المرأة التي ما كادت تدلف من الباب، وتجلس قبالة أمي، تناولها العجين حتى انتابها شيء عجيب: جحظت عيناها فانبعث منهما بريق عجيب، وارتعشت أطرافها، وتقلص جسدها كله، حتى حسبنا أن الأرض زلزلت من تحتها، ثم ارتمت على الأرض باكية صارخة، وظلت تتقلب على جنبيها، وتتمرغ على الأرض، وتعفر وجهها بالتراب، وتحفر الأرض بأظافرها. كانت تتقلص وتتخلج، ويتصلب جسدها كأنه لوح من الخشب. وكان يخرج من فمها صوت مبهم كأنه عواء كلب. أما أمي فقد أصابها دوار، واتسعت عيناها، وأما أبي فحاول أن يلقي على المرأة الماء البارد عساها أن تفيق، وأما أنا فقد عرفت فيما بعد، حين تعلمت في الجامعة، أن المرأة كانت مصابة بالصرع، وأنه لم يكن لهذا المرض من شفاء. ورحمنا هذه المرأة حين أفاقت من غشيتها، واحترسنا منها حين كانت تعاودها النوبة القاسية مرة في الأسبوع أو في الشهر وتعودنا على هذا المشهد الغريب منها حين تضرب الأرض، وتأكل التراب، وتعض جسدها، ولم يعد لنا من هم إلا أن نبحث لها عن الشفاء.
أما العجائز من النسوة، اللاتي استشارتهن أمي فقد وصفوا لها أخلاطا عجيبة من الدواء، فلم تفلح. والعرافون الذين لجأنا إليهم نظروا في فناجينهم، وحضروا العفاريت، وأخذوا الأثر ، والنوبة لا تنفك تلح على المرأة العجوز، التي صرت أحبها كأمي.
وأما أنا فخطرت على بالي الفكرة الهائلة، وما لبثت أن نفذتها في الحال. لا أدري حتى اليوم كيف طرأت على ذهني، ولا أعرف حتى الآن في أي كتاب قرأتها، مع أنني لم أكن قد قرأت فرويد ولا سمعت باسمه. لم أكن غير صبي شقي، تخطر على ذهنه الفكرة فلا يستريح حتى ينفذها: ليس للمرأة إلا سبيل واحدة للشفاء، فلم أتردد.
تسللت ذات صباح إلى المرأة العجوز، وكانت تكنس الحجرات. اقتربت منها وقلت لها: أم الخير، لماذا لا تتزوجين؟
رفعت رأسها، وثبتت عينيها المفتوحتين في السماء، وارتعشت يدها المشلولة رعشة شديدة، فأعدت عليها السؤال، ولكنها لم تجب، بل لن أنسى قط - وأنا الآن رجل عجوز - أنها بكت أمامي؛ فقد عجبت كيف يمكن لمثل هذه المرأة أن تعرف البكاء.
أما أنا فتضاحكت. وربت على كتفها، وهمست في أذنها: لقد وجدت العريس!
فاختلج جسدها. لا بد أنها صدقتني؛ فقد بدأت تطمئن إلي وإلا لما راحت تسألني من يكون؟ وما لون شعره؟ وعينيه؟ وما شكل وجهه؟ وماذا يعمل؟ ومتى يأتي؟ أما أنا فتصنعت الجد. كنت أتحدث بصوت غليظ كصوت الرجال، وأعقد ما بين حاجبي وأتكلف لهجة السادة الأغنياء. قلت لها: سآتي به اليوم، وما عليك إلا أن تصنعي الحناء، وتصبغي يديك وقدميك، وتستعدي لليلة الزفاف.
ولم أخلف وعدي؛ فقد أصبحت حياة المرأة في يدي تجربة أريد أن أعرف نتيجتها. وماذا كان يمكن أن يحدث من صبي مثلي يحب المخاطرة ويريد أن يجرب كل شيء، حتى المصير؟!
وطرت إلى حقل أبي. هنالك كان عدد من الأجراء الذين يفدون على القرى في موسم القطن، ويجمعون الدودة. كنا نسميهم «البشالوة»، وكنا إذا رأينا جماعتهم تجوب شوارع قريتنا بحثا عن الطعام أو المأوى نجري وراءهم هاتفين: الخمسة بقرش! ولم يكن أيسر على الواحد منا أن ينفح «بشلاويا» بأجر يزيد على أجره اليومي حتى يمثل الدور الذي يطلبه منه خير تمثيل . كان اسمه سيد ووعدته بعشرة قروش؛ أعطيته نصفها على الفور وقلت له: ابسط يا عم، ستصبح عريسا! سألني وهو يفتح فمه ويحك رأسه الصلعاء بيديه: عريسا؟! قلت: نعم. لليلة واحدة!
وشددته من يديه وسرنا معا إلى بيتنا في القرية وأنا أقفز من الفرح كأنني كسبت كسبا كبيرا. وفتحت لي أمي الباب، وسألتني مدهوشة عن الشاب الغريب الذي جلبته معي. فقلت لها وأنا أبعدها بيدي: إنه عريس أحضرته معي! وضحكت أمي كثيرا كما لم تضحك في حياتها أبدا حين أخبرتها بقصة ذلك الزواج؛ وضربت كفا بكف وهي تعجب لشقاوتي التي لم يرزق بها أحد من خلق الله، ولكنها قالت - كما لو كانت ترى المستقبل بقلبها: ولكني أخشى على أم الخير من هذا الزواج؟!
وجذبت العريس من يده فسار ورائي وطلعنا إلى السطوح حيث تسكن أم الخير في حجرة كنا نحبس فيها الدجاج والبط. وناديت بأعلى صوتي فخرجت أم الخير، بعد أن أطلت علينا من وراء الباب ورفعت ستارة بيضاء لا أدري من أين أتت بها، ولا كيف ثبتتها على باب حجرتها المتداعية. قلت لها وأنا أرفع من صوتي وألوح بيدي في الهواء: ها هو العريس! هه! لا تنظري إليه هكذا!
وحاولت المرأة أن تحجب وجهها بطرف جلبابها، وأطرقت برأسها فاقتربت وجذبت «سيد» من كتفه وقلت لها: ولكني لن أترككما الآن وحدكما. سوف يحضر إليك في الليل، بعد أن ينام كل من في البيت. أليس كذلك يا سيد؟ قل لها أن تستعد لليلة الزفاف!
ثم تركناها والفرحة تكاد تطفر من عينيها. أما سيد «البشلاوي» فكان أسرع مني وهو يهبط على السلم، ويتلفت وراءه بين الحين والحين كأنه أفلت من فخ محكم. ولما خرجنا إلى الشارع قال لي: أين أجرتي يا عم؟ فأخرجت له من جيبي خمسة قروش كنت قد اقتصدتها مع الجهد.
وفي صبيحة اليوم التالي سمعت أمي تنادي أم الخير. وأيقظتني وقالت لي: انظر ما حدث لها اليوم. لم تصح مع الفجر كعادتها اصعد إليها ونادها.
وطلعت إليها وبي شوق إلى معرفة ما حل بها، لا شك أنها ستكون غاضبة إذ تبينت كذبي. وناديت عليها. رفعت من صوتي فلم يجبني أحد. ورحت أدق الباب بعنف حتى سمعتها تتحرك نحو الباب. قلت لها بعد أن أطلت من وراء الستارة المضحكة: هه؟ ألم تستيقظي بعد؟ ثم أردفت في لهجة ماكرة: ألم يصح زوجك؟
فأجابتني في جد: لقد استيقظ من نومه منذ قليل. - وإلى أين ذهب؟ - سافر إلى القرية المجاورة. - ومتى يعود؟ - سيعود في قطار الليل. - الليل؟ - نعم. في الساعة التاسعة.
وفتحت الباب. واستطعت أن أرى يدها المشلولة مخضبة بلون الحناء. وابتسمت وهي تغلق الباب من خلفها. قلت لها وأنا أضحك: هه ... ها أنت قد تزوجت. فأجابت في هدوء: الحمد لله. لقد تزوجت!
لا شك أن هذه المرأة مجنونة. الأمر كله مزاح فكيف تصدقه. ولكن ... أأكون أنا المخطئ؟ كيف لا أصدق عيني؟ قالت أمي: إنك قد تركت النار تأكل جسدها وروحها ... وسافرت. وها أنت تعود بعد غربة طويلة، ولا تدري عنها شيئا. نحن الذين تعذبنا من بعدك. قلت لها: ولكن كيف تعذبت؟
قالت أمي وصوتها المبحوح يختلج في حلقها: لقد خرجت في تلك الليلة إلى المحطة، كما قال لنا جيراننا الذين شاهدوها هناك. انتظرت حتى أتى قطار الليل، وأفرغ من فيه من المسافرين. كانت تسأل كل من تجده في طريقها: «ألم تر زوجي؟ ألم تر زوجي؟» ولما لم يكن أهل القرية يعرفون زوجها فقد كانوا ينظرون إليها طويلا. ويبتعدون عنها هاربين.
وحين عادت إلى البيت في تلك الليلة باكية تلقيتها بين ذراعي. كانت تبكي كما لا يمكن أن تبكي امرأة في الوجود. نعم يا ابني. أنا التي تحملت ذلك العذاب كله. وأنت تعرف مشاركة النساء لبعضهن. فبكيت معها. قلت لها لا تحزني. سوف يعود في الغد. اذهبي إليه وستجدينه في قطار الليل. وسوف يقفز من القطار إليك أو يعتذر إليك عن تأخيره. قلتها كلمة عابرة وليتني ما قلتها. فما كنت أحسب أنها ستصبح قاعدة سلوكها مدى عشر سنين أو عشرين سنة.
قلت وأنا أحبس أنفاسي: كيف حدث هذا يا أمي: فقالت مؤكدة: إني جادة كل الجد. - أكانت تخرج كل ليلة؟ - إلى المحطة ... تنتظر قطار الليل وتسأل المسافرين عن زوجها الذي لم يعد. - وريح الليل الباردة - في الشتاء - تأكل عظامها؟ - نعم ... نعم، هذا ما كان يحدث؛ لقد عرفها ناظر المحطة وعرفها من بعده ثلاثة نظار آخرون شغلوا هذه الوظيفة من بعده. وعرف جنود الحراسة مشيتها فما يسألونها إلى أين هي ذاهبة، كلهم عرفوا حكايتها. وأما أنا فقد كبرت هذه المرأة في عيني، عرفت عاطفتها، فاحترمتها وأكبرتها. لم أسئ إليها يوما، ولم أسخر بها. أنا التي تحملت ذلك العذاب كله.
قلت وأنا أضع رأسي في يدي: كل هذا وأنا لا أدري! قالت أمي وهي تدعوني إلى النوم شفقة علي من متاعب السفر: لقد رأيتها بنفسك. عادت بعدك بقليل، بعد أن فات القطار الذي جئت فيه. قلت وأنا أغمض عيني: نعم، نعم. قالت أمي وهي تتثاءب: أرأيت مثل هذا الزواج؟
فقلت وأنا أسحب الغطاء على وجهي: إنه زواج أبدي. •••
أنا ما زلت لا أعرف مما حدث شيئا. حين أنفرد بنفسي أقول ربما عاد سيد البشلاوي حقا إليها بعد أن نمنا. ولكن هذا التصور محال، وإلا فكيف أنكر عقلي؟ إن الأمر كله كان مزاحا، وكنت أقدر أن ينتهي في ساعة، فكيف به يستمر عشر سنين أو تزيد؟ إن سيد لم يكن يستطيع أن يهتدي إلى بيتنا بعد أن ينام أصحابه، ولغير سبب، أو أعزو ما حدث إلى «الإيحاء» الذي عرفت به حين كبرت؟ كيف تبلغ قسوة الإيحاء هذا المبلغ؟ لو كانت عقيدة من العقائد لتغيرت أو لا نمت من الوجود - الزمان الطويل قادر على أن يغيرها ويمحوها. أنا الآن أحاول أن أريح نفسي. أقول لها إن ذلك سر يربط نفوس البشر ويكبر عن التفسير، سر وراء العقل، من هذه الأسرار التي تملأ علينا فراغ المكان، وتهوم من حولنا، وتهبط على نفوسنا في لحظات نادرة. منا من يستسلم لها كأنه متصوف، ومنا من ينكرها. نعم ... نعم، أنا لا أحاول أن أفسر ما حدث، كفاني أني أحسست به.
احترمت جنونها، ورحمته، أكبرت عاطفتها للرجل الذي رأته مرة واحدة فارتبطت معه بهذا الزواج الأبدي. ولم أتبرأ من الذنب الصغير الذي ارتكبته ذات يوم.
1952م
في خطر
كتبت في ذكرى العدوان الثلاثي على الوطن
كنت قد تلقيت البرقية من أبي في المساء. أجهشت بالبكاء عندما فضضتها وقرأت فيها: «أمك في خطر. احضر حالا.» وعندما أسرعت السيدة التي أسكن عندها من المطبخ لتعرف ما الخبر أخفيت وجهي بعيدا ومسحت دموعي بسرعة. سألتني: خير! حصل شيء لا سمح الله؟ قلت وأنا أتجه إلى غرفتي: خير إن شاء الله، أنا مسافر. وعندما ألحت في السؤال قلت لها: تلغراف من البلد، يظهر أن أمي مريضة. ورحت أرتدي ملابسي على عجل، بينما أم محمد تدعو الله لي بالسلامة، وأن يعيدني مجبور الخاطر.
لم أكد أصل إلى المحطة حتى وجدت تاكسيا في الانتظار. أدخلت رأسي من النافذة وقلت في لهفة: المنصورة؟ قال السائق في صوت خشن: نفر واحد؟ قلت: نعم. مستعجل جدا. سأدفع الفرق. ولم يتركني أكمل عبارتي، فصاح في غلظة لم أعرف سببها: طيب ادخل. جلست إلى جانبه في الكرسي الأمامي. كنت مشغولا بنفسي عن كل شيء حولي. أتحسس جيبي كل لحظة وأخرج منه البرقية لأقرأها ثم أدخلها في جيبي لأعود فأخرجها وأقرأها، ثم أدخلها في جيبي لأعود فأخرجها وأقرأها من جديد، كأنني أتمنى لو تغيرت حروفها، لو قلت لي مثلا أمك بخير، لو خانتني عيناي فلم تقعا على كلمة الخطر الراقدة في جيبي كالغول. ونبهتني أصوات حديث في العربة إلى المقعد الخلفي. التفت فوجدت هناك امرأتين، تلبس إحداهما السواد وتلف حول رأسها طرحة سوداء، أما الأخرى - وقد رجحت أن تكون ابنتها - فقد كانت مائلة إلى السمنة، ذات وجه أبيض محمر الخدود واسع العينين تلمع فيهما السعادة، ولم أتبين من نظرتي السريعة إلا أنها كانت ترتدي بلوزة رمادية مفتوحة، يتدلى على صدرها عقد من الفل تفوح رائحته في أرجاء العربة. قالت السيدة الكبيرة: قلت لك نسافر من ساعتها. أنت السبب. قالت الصغيرة: أنا أو الخياطة ؟ قالت الأخرى: كنت قعدت على دماغها بدل الجري في المحلات. أجابت الصغيرة: يعني نخبط المشوار ونرجع من غير الفستان. قالت السيدة الكبيرة في عصبية: زمان المعازيم وصلوا من الصبح. تدخل السائق في الحديث بغير أن يحرك رأسه الكبير وقال بصوته الخشن: مستحيل يا ست هانم، السكك ملغمة. سألت السيدة الكبيرة: ملغمة؟! فقال السائق وهو يثبت عينيه القاسيتين على الطريق: «دبابات ومصفحات وطيارات. ألم تسمعوا الأخبار من الصبح؟» قالت السيدة في أسى: سمعنا يا ابني. ربنا يجازي أولاد الحرام. إنما الناس زمانها سبقتنا على الفرح. أصل عقبال عندك ... ولم يتركها السائق تكمل حديثها، فقال وهو يدير مفتاح الراديو: إن شاء الله نرميهم في البحر!
انطلقت الأصوات تهدر من الراديو. موسيقى عسكرية صاخبة. حناجر تنشق هاتفة: الله أكبر. تصرخ كأنها تنقض على مدينة نائمة فتوقظها أو تستنفر قطعانا خالية البال لتنتبه إلى الوحش الذي يوشك أن يفترسها. والتوتر والوجوم والسخط يكاد يخنق حتى وجه الشمس الغاربة. وأنا أطل من نافذة العربة لكيلا يرى أحد دموعي، وأتحسس جيبي ربما للمرة المائة لأتحقق من حروف البرقية. ترى هل هي في خطر حقا أم ماتت وانتهى الأمر؟ هل كذبوا علي أيضا في هذه المرة، أم خافوا علي من الصدمة؟ هل أجدها راقدة على الفراش، فأقبل وجهها العجوز وأشم رائحة جلدها المميزة بطعم الملح والعرق وأجلس إلى جوارها أراقب صدرها يعلو ويهبط، أم فات الأوان؟ ثم ماذا أفعل لو وجدتها أسلمت الروح ودفنوها وانتهى الأمر؟ لا يمكن أن يحدث هذا. لا يمكن أن يدفنوها قبل حضوري. لا يمكن أن يكونوا مجردين من الإحساس إلى هذا الحد. قال السائق: سمعت البلاغ الأخير؟ قلت: هل هناك جديد؟ قال وهو يلتفت إلي فأرى وجهه الضخم ورقبته الغليظة: قضينا على أول موجة. قلت: الحمد لله. ولكن الحالة خطرة. أطلق ضحكة خشنة وقال: عليهم هم. نحن في بلادنا ولا يمكن يمسوها.
انطلق صوت المذيع الشاب كالعاصفة. كان يدوي في أذني كإعصار من النار وهو يقول: اضرب يا أخي. اضرب أعداء الله ، أعداء الوطن، أعداء الإنسان. اضرب بكل قوتك. اقتلهم قبل أن يقتلوك. قالت السيدة الكبيرة. يا ساتر يا رب. الله يقطع الإنجليز وسنينهم. وتأوهت الصغيرة بصوت لم أتبينه. ومرت إحدى عربات الجيش فزعق السائق: الله ينصركم. وغابت الشمس في الأفق الغربي وبدأ الطريق يظلم. وانطلقت أصوات الموسيقى العسكرية تهدر من الراديو.
كنا قد وصلنا بنها عندما أضاء السائق المصابيح الأمامية. وكان الناس متجمعين على الطريق يتابعون الأخبار ويطالعون الصحف. ولم يكن من العسير أن نلاحظ الوجوم على كل وجه، والعصبية في كل خطوة، والقلق في كل العيون. سيكون الليل قد جاء عندما أدخل القرية. وسيكون علي أن أعبر السكة الحديدية وأنحدر على الطريق الزراعي قبل أن يطالعني أول بيت فيها. هل أنسى آخر مرة تركت القرية؟ كانت أمي تقف على الباب، تطل برأسها على الطريق في انتظار العربة التي تقلني إلى المدينة. وعندما قبلتها لآخر مرة نظرت من النافذة ورأيت عينيها الحزينتين تشيعاني إلى آخر لحظة. ظلت واقفة في مكانها حتى اختفت العربة وانعطفت على الطريق الزراعي. كنت قد أفهمتها أنني سأدخل الجامعة وقلت لها إنني سأدرس تاريخ بلادنا هناك. وعندما قالت لي شد حيلك واغرورقت عيناها بالدموع لم أملك أنا أيضا أن أمنع نفسي من البكاء. لم تكن مريضة عندما تركتها، فمن أين جاءها المرض؟ صحيح أن وجهها كان ذابلا ونفسها متقطعا، ولكن هكذا كل الوجوه في قريتنا. عجيب ألا نفطن إلى أقرب الناس إلينا أو نهتم بمرضهم ونسألهم عن حالهم. كل هذا ولم تنقض بضعة أيام على سفري. لو أنها كاشفتني بمرضها فهل كنت أبقى إلى جانبها؟ أم إن الطموح يعمينا دائما عن أحب أحبابنا؟
صوت المذيع ما زال يهدر. الغضب الهائل يلهب الكلمات فترتعد وتنفجر: اضربهم يا أخي. اضربهم قبل أن يدنسوا أرضك. اقتلهم قبل أن يهتكوا عرضك. اقتلهم باسم أمك وأبيك وإخوتك وأولادك. اقتلهم باسم وطنك وتاريخك ومستقبلك. اقتلهم باسم الملايين المحرومين ... والشهداء والمظلومين.
نعم يا أمي سنقتلهم. سنرد المعتدين عن بابك. وهل يكونون أقوى من بختنصر والإسكندر؟ هل يكونون أعتى من بطليموس ولويس التاسع؟ نعم أنا معهم قادم إليك. سنقف حراسا على حائط العجوز. سنجذب أجراس النحاس المعلقة عليه. وسيأتي الناس يا حبيبتي من أسوان إلى العريش ليحموك ويردوا المعتدي عنك. الشيخ والطفل والمرأة سيأتون. المتعب من الحياة لن يتعب والعازف الأعمى على القيثارة لن ينعى الحياة. وستجمع إيزيس الجميلة أشلاء روحنا من تحت أقدام الغاضبين. صحيح أن النقاب على وجهها ملطخ الآن بالوحل. صحيح أن ثقوب الرصاص تملؤه والتراب الذي تثيره أرجل المشاة يعفره. لكن إيزيس لن تهدأ حتى تعثر عليه وتضم أشلاءه. إيزيس يا حبيبتي لن تهدأ حتى تبعثي من جديد. وعندما نطارد «معات» الظلم من سطح الأرض، سيعود الحق والعدل مرة ثانية. وستنهضين من على فراشك وتعانقي ابنك.
قال السائق في صوت حزين: الحالة خطر.
تحسست البرقية في جيبي وقلت: نعم. الحالة خطر.
قاطعتنا السيدة الكبيرة في المقعد الخلفي وقالت: صلوا على النبي. إن شاء الله ربنا يخزيهم وينصرنا عليهم.
صاح السائق: ربنا ينصرك يا حاجة.
قالت السيدة الكبيرة: البنت يا عيني فرحها الليلة.
اعترضت السيدة الصغيرة قائلة يا ماما. فهتف السائق: ربنا يتمم بخير ونشرب الشربات.
أظلم الطريق تماما فلم نعد نرى إلا ما يسلط عليه ضوء المصباح. الأشجار وأعمدة التليفون تفر بجانبنا مذعورة، ولفحات البرد تهب على وجوهنا فننكمش في ثيابنا. هل تحسين يا أمي الآن بالبرد أم تراك جسدا باردا ملقى على فراش بارد. ما أشد خجلي من هذه الأفكار! لكن أبي هو المسئول عن كل ذلك. لو أنه قال الكلمة الواضحة لأراحني. ثم ماذا أفعل لو وجدت السرادق أمامي؟ هل أملك أن أدخله وأواجه الناس وأصافحهم؟ هل ستسعفني عيني بالبكاء أم سأتجمد كما حدث لي عندما مات عمي ومت من الخجل أمام الأغراب الذين امتلأ بهم البيت؟ وماذا يفعل أبي حين يراني؟ هل تراه الآن إلى جانب أمي؟ أم في السرادق يتلقى العزاء ويشرف على توزيع القهوة وترتيب مكان يبيت فيه الضيوف؟ هل سيعانقني ويبكي أم سأسبقه أنا إلى البكاء وأرتمي على صدره؟ وكيف يا ترى يبدو الآن منظره منذ أن رأيته آخر مرة منذ شهور؟
آه يا أمي! لا بد أن أبي ما يزال كما هو من ثلاثة آلاف سنة، من أربعة، من خمسة وستة آلاف، يخرج كل صباح إلى الحقل ويعود إلى الكوخ، يتزوج ويخلف الأولاد، ينام هو وهم والجاموس والدواجن تحت سقف واحد. العمدة وشيخ البلد، صاحب الأرض وكاهن المعبد، ممثل السلطة وجناب اللورد، أفندينا في القصر العالي والملك الإله في القصر الكبير، الشقاء يا أمي كما هو، والصبر عليه كما هو. آه لو وجدتك حية، لو وجدت فيك النفس، إذن لحكيت لك كما كنت تحكين لي في ليالي الشتاء، لحكيت لك كل ما أعرف، كل ما نسيت. وسيجلس أبي على الحصيرة ويسبح بحمد الله ويستمع إلي. سقط فرعون وسدنة المعبد، اندحر بطليموس والإمبراطور، ذهب الخليفة والمملوك، زال الباشا والبك، انهزم راعي الهكسوس ونفقت خيول الفرس، امتص التراب دم فارس الصليب وغمر الطمي أطباق الجثث البيضاء والسمراء والسود. وبقيت يا أمي كما كنت، وبقي أبي كما هو؛ الهدمة الزرقاء على جسده، كسرة الخبز في يده، طعم المش على لسانه، الرمد في عينيه والنكتة على شفتيه، يضحك على حكامه المتوحشين، ينتصر على ظلمته ولو بعد حين؛ لأنه يا حبيبتي لا يستحق الظلم من الخالق ولا من المخلوق.
قال السائق: الحمد لله.
سألت: وصلنا؟
قال: كله بأمر الله. المهم أن العروسة وصلت هي وأمها.
والتفت ورائي فلاحظت أن السيدتين اللتين كانتا تشغلان المقعد الخلفي قد اختفتا. ولم أدر كيف فات علي أن ألاحظهما وهما يغادران العربة ولا كيف فاتني أن أودعهما بتحية مناسبة. قلت أداري خجلي: يظهر أنني رحت في نومة. ضحك السائق ضحكته الخشنة وقال: النائم مصيره يصحى. المهم حمدا لله على السلامة.
كنا قد وصلنا حقا. نزلت على الطريق الزراعي وعبرت خط السكة الحديدية وأنا أجري. كل شيء كان يضطرب في كياني. والدموع التي حبستها طوال الطريق كأنها أحجار انحدرت في جوفي. وعندما وصلت إلى البيت فتح أبي الباب. وأخذني بالحضن وقال وهو يبتسم: حمدا لله على السلامة. قلت: أمي. أين أمي؟ قال وهو يضحك: بخير. اطمئن (ثم وهو يتحسس ذراعي القوية) ادخل عندها. الدكتور هناك. أمك محتاجة لنقل دم.
1959م
القضية
كل من يمر على ميدان السيدة كان يراها. في عز الحر والشمس تلهب الوجوه وتخنق الأنفاس، وفي عز البرد والناس تهرب من المطر تحت مظلة الترام، يرونها متربعة على الرصيف، كأنها جذع شجرة قديمة مغروسة في الأرض، بملابسها السوداء المعفرة بالتراب، ورأسها الأبيض المنفوش الشعر، ووجهها المنتفخ الأسمر المحترق بشواظ الشمس، وصوتها الذي يجلجل ويدوي كأنما ينبعث من أسطوانة قديمة تردد عبارة واحدة لا تتغير: الولد أخذوه من أمه وأبوه. السياسية والجاسوسية والإنجليز واليهود. وبتوع السيما والتمثيل والسكة الحديد. قطعوا راسه وحلقوا شعره وأخذوا الولد من أمه وأبوه. والقضية يوم تسعة شهر تسعة سنة تسعة وتسعين. وعمه وخاله وأخوه راحوا المحكمة وقابلوا القاضي لأجل يشوف الطالع ويعد النجوم. السياسية والجاسوسية وبتوع التمثيل أخذوا الولد من أمه وأبوه. والقضية يوم تسعة شهر تسعة ...
كانت الكلمات تخرج من فمها سريعة كالطلقات، بينما ترتفع ذقنها وتميل رأسها إلى الوراء وتجول عيناها المتعبتان التائهتان في يأس بين الوجوه التي يتصادف أن تتحلق حولها أو تطل عليها من نوافذ الأوتوبيسات العابرة، تنفرج شفتاها الجافتان عما يشبه ابتسامة ليس فيها سخرية ولا فرح، كأنها تعرف سلفا أنه لن يلتفت إليها أحد مهما ارتفع صوتها وطغى على أصوات الترام والمركبات وصياح الباعة والأطفال، أو كأنها تعرف أنها حتى ولو اهتم بها الناس أو جاءوا يسألونها عن حكايتها فلن تهتم هي بأحد.
كانت تلقي عباراتها كأنها تسمع درسا تحفظه عن ظهر قلب، في لهفة وغلظة واندفاع من يخشى أن يفاجئه الموت قبل أن يتم كلماته المعدودة. وكان في عينيها اللذين بديا كدمعتين كبيرتين جافتين استسلام مفجع لواجبها القاسي، وشماتة رهيبة بمن يسوقهم الحظ إلى سماعها، وضراعة من يستغيث مع أنه يعرف أنه ألقي به في الجب ولن ينقذه أحد. وكان من عادة الناس أن يسمعوها كل يوم. تنبح وتهاتي كالكلب العجوز الذي فقد سيده، حتى أصبحت ظاهرة حية في الميدان، مثل الساعة البيضاء المعلقة في وسطه، والمخبأ المهجور الذي صار ملجأ للمتشردين واللصوص والشحاذين والذين لا يجدون دورة مياه قريبة، ومحطة الترام التي لا يغادرها الحلاقون الجالسون على الرصيف تحت مظلاتهم الصغيرة، وناظر المحطة الذي تلعلع صفارته في كل لحظة لتدير الحركة، وطوابير المنتظرين أمام محال السندوتش وشباك الترسو في السينما المواجهة لها. ولم يكن يخلو الأمر من مداعبة أحد السائقين أو الكمسارية لها، إرضاء لحب استطلاع الناس لا عطفا على تلك التي يعرف بخبرته أنها لم تعد تفهم شيئا عن العطف. كان يتقدم منها في حذر ويقف أمامها وجها لوجه وكأنه يحاول أن يثبت عينيه في عينيها التائهتين على الدوام. وكان يختلس لحظة الصمت التي تستريح فيها لتأخذ نفسها قبل أن تدور الدورة من جديد فيسألها في خبث الأطفال: الولد لقوه يا حاجة؟
فتجيب دون أن تنظر إليه: الولد أخذوه من أمه وأبوه.
ويسأل: من هم؟
فتقول وهي تدير عينيها الجامدتين في الوجوه المشفقة المتطلعة: السياسة والجاسوسية وبتوع التمثيل.
فيسأل في خبث: ومن غيرهم يا حاجة؟
فتندفع قائلة في نفس واحد كأنه ليس هناك أحد يقاطعها: والإنجليز واليهود والملائكة وبتوع ...
فيضع الكمساري ذراعه على فمه ويسأل: والملائكة يا حاجة؟
فينطلق صوتها كالصاروخ: والملائكة والإنجليز واليهود ...
فيقول الكمساري مبتهجا بلذة الذهول البادية في عيون الأطفال: طيب الإنجليز واليهود وعرفناهم، لكن الملائكة؟
فتقف عيناها على وجهه لحظة وتنفرج شفتاها عن ابتسامة متجمدة يائسة: أخذوا الولد من أمه وأبوه ...
فيقول الرجل وهو يضرب كفا بكف: يا حاجة خلي الملائكة في حالهم. هم مالهم ومال الولد!
فتقول كأنها تعجب لجهله: قطعوا راسه وحلقوا شعره وأخذوه من أمه وأبوه.
ويسأل الكمساري وهو يتهيأ للانصراف: والقضية يوم تسعة؟
فتكمل قائلة كأنها تتلقف الخيط من يده وتجذبه بشدة: يوم تسعة شهر تسعة سنة تسعة وتسعين ...
ويضحك الكمساري وهو يربت على كتفها: يعني النهاردة يا حاجة. حتى اسألي الناس كلها !
فترفع ذقنها وتميل برأسها إلى اليمين ويعود صوتها يرن كالنحلة: وأمه وأبوه قدام المحكمة منتظرين. راحوا للقاضي لأجل يشوف الطالع ويعد النجوم. يوم تسعة شهر تسعة سنة ...
فيضحك الكمسارية وهم يجيبون على ناظر المحطة الذي ينادي عليهم: حاضر يا ريس ... والله يا شيخة يوم تسعة بتاعك عمره ما هو جاي.
وليس بالطبع موقف بقية الناس من الحاجة - الله وحده يعلم متى وأين حجت - مثل موقف هذا الكمساري منها، بل إننا نستطيع أن نقول إن موقف كل واحد من هؤلاء الكمسارية يختلف بغير شك عن موقف زميله منها. صحيح أنهم تعودوا عليها كل يوم، أصبحوا وأمسوا عليها، وسمعوا قضيتها ألف مرة ومرة، ونادوا عليها وداعبوها وضحكوا معها وأشفقوا عليها ونسوها ويئسوا منها في وقت واحد. ولكنها على كل حال كانت شيئا ثابتا في حياة الذين يعملون منهم على نفس الخط، كالأشجار والعمارات والتماثيل والميادين التي يمرون عليها كل يوم، ظاهرة يبتسمون لها وقد يرثون من أجلها أو يضحكون عليها، ولكنهم مع الزمن ينسون ابتسامتهم وضحكهم ورثاءهم ولا يلتفتون إليها إلا بقدر ما يلتفتون إلى العمارات والتماثيل والميادين والحدائق والوجوه العجوزة التي رأوها ألف مرة ومرة. وطبيعي أن هذا يختلف عن موقف الأطفال - خصوصا الأطفال - من الحاجة؛ فهم في الصباح عندما يكونون في طريقهم إلى المدارس لا ينسون أن يلتفتوا إليها باستغراب حتى ولو كان الواحد منهم قد سمع صوتها قبل ذلك، وعندما ينزلون في الميدان في طريقهم إلى بيوتهم أو في انتظار ترام آخر يتحلقون حولها ويندهشون ويتطلعون في فمها المفتوح المتحرك على الدوام كأنهم ينتظرون أن يروا صوتها، ويستمعوا إلى حكايتها التي ربما يكونون قد سمعوها عشرات المرات. وبالطبع ينتظر الإنسان أيضا أن يكون موقف الفلاحين القادمين من الأرياف أيام المولد لزيارة الست الطاهرة مختلفا عن موقف الأطفال منها؛ فهم يسمعون صوتها من بعيد، ويطوفون حولها في دهشة لا تلبث أن تتحول إلى عطف فرثاء فاشمئزاز فدعاء للست الطاهرة ولأولياء الله الصالحين أن يشفي الله عقلها ويشفي مرضانا نحن وجميع المسلمين. ومن المنتظر أيضا أن يضع الواحد منهم يده في جيبه ويلقي في حجرها بما قسم، وأن يحس بشيء من خيبة الأمل لأنها لا تأبه له، ولا ترفع صوتها بالدعاء ولا تضم يدها على عطيته بل تواصل الصياح الأزلي كثور لاهث معصوب العينين يدور في الساقية فلا هو يمل من الدوران ولا الساقية تمتلئ: الولد أخذوه من أمه وأبوه. السياسية والجاسوسية والإنجليز واليهود، قطعوا راسه وحلقوا شعره وأخذوا الولد من أمه وأبوه. الملائكة وبتوع السيما والتمثيل والسكة الحديد. أخذوا الولد من أمه وأبوه ...
وبالطبع أيضا يسأل بعض الناس أنفسهم عن أصلها وفصلها، عن البيت الذي تسكن فيه والعيشة التي تعيشها، وإن كان هناك في الدنيا من يسأل عنها ويأخذ باله من فرشتها ولقمتها وهدمتها التي أصبحت مثل الهباب والطين. لكن الجميع، وهم معذورون، سيظلون في حيرة من هذا التمثال الحي الذي يظهر فجأة في أيام غير معلومة، فيتربع على الرصيف، وينطلق لسانه تحت تأثير زمبرك خفي تملؤه أيد خفية، ويظل ينبح في حسه وينادي الحاضرين والغائبين دون أن ينتظر أو يكترث بأن يرد عليه أحد، ويخاطب العيون والوجوه بغير أن يهتم بأن تنظر إليه عين أو يستجيب له وجه، ويردد في صوت يدور كأنه يخرج عن أسطوانة قديمة ومشروخة ومن سنين لم ينفض عنها التراب: الولد أخذوه من أمه وأبوه. السياسية والجاسوسية والإنجليز واليهود. قطعوا راسه وحلقوا شعره وأخذوه من أمه وأبوه. والملائكة والشياطين وبتوع السيما والتمثيل والسكة الحديد. وأخوه وأبوه راحوا للقاضي وقال لهم القضية يوم تسعة شهر تسعة سنة تسعة وتسعين.
1964م
اليتيم
في ليلة من ليالي وحدتي الطويلة هبطت إلى «مصنعي». ومصنعي هذا منطقة قائمة في نفسي، مجهولة لا يلم بها سواي. هي فلك صغير في ذاته، لا يكف عن الحركة والدوران. تأتي عليه ليال يتلألأ فيها بالنجوم، فأنتشي بفرحة عامرة مسكرة، ثم لا يلبث أن يلفه الضباب، ويصير كالسديم المتدثر بالغيوم. ومع أنني لا أملك شيئا من عبقرية «بيراندللو» ولا من فن «توفيق الحكيم» فقد قلت في نفسي: لأقض الليلة مع «مخلوقاتي» التي تعذبني منذ أمد طويل. ومخلوقاتي هذه هي شخصيات قصصي المقبلة. وهي على تواضعها وشدة حيائها لا تنفك تؤرق نومي، وتعذب يقظتي، وتطالبني بالحياة.
نفضت التراب المتراكم على كتبي، وأدرت آلة «الجراموفون» ببضع مقطوعات من الموسيقى التي تحبها نفسي، ثم استويت جالسا أمام مكتبي. كان رأسي يدور، وقلبي يكاد ينشق من شدة الخفقان. والحق أنني كلما التقيت بهذه الوجوه النحيلة الشاحبة تتملكني رعدة قاسية، ويختلج كياني كله كالمحموم. وشخصياتي دائما ما تكون ثائرة ساخطة، وأنا لذلك ألقاها بوجه باسم، وأستمع إلى شكواها بصدر رحب، وأتقبل همومها بقلب رحيم. ولا تخلو صحبتنا التي تزدحم فيها الوجوه، وتتعالى الصيحات، ويشتد اللغط، من واحد أو اثنين يستولي عليهما الملل، فيشقان طريقهما وسط الجمع الثائر، ويمضيان في سبيلهما حانقين فلا أعود أراهما بعد ذلك أبدا. أنا دائما سجين هؤلاء الضيوف الأعزاء، تنهال علي اتهاماتهم من كل جانب، وتدوي صرخاتهم في أذني! ما أكثر ما انفجرت بالبكاء وأنا أحاول أن أبعدهم عني، وأسترحمهم، وأقسم لهم الأيمان بأني رجل طيب القلب لا أضمر لهم شرا، فما يخلصني منهم إلا النوم يعقد أجفاني، ويريحني منهم إلى حين.
في هذه الليلة التي هبطت فيها إلى نفسي كنت أعاني من مرض طويل، وكانت أعضائي ترتجف من الحمى. درت بعيني في المكان، ورأيت الوجوه الحزينة المكتئبة تحدق في وجهي، والأذرع الطويلة تشير إلي متوعدة، كانت من بينها وجوه واضحة القسمات، متميزة المعالم، أكاد إن مددت إليها يدي أن ألمسها، وأحسب أبعادها. وكانت من بينها وجوه أخرى آثرت أن تنزوي في مكان بعيد عن الضوضاء، لم تكد تحاول أن تلفتني إليها. كان بعضها قد مل الانتظار فجلس على الأرض القرفصاء، وانكب على قراءة كتاب قديم. وبعضها الآخر قنع بالتفرج على الجميع بعد أن يئس من أن يتقدم الصفوف، ويصل إلي ليبسط شكواه. من بين هذه الوجوه عرفت أناسا طالت صحبتي لهم، وعمقت تجربتي معهم، حتى لقد كانوا يشاركونني في طعامي، ويلازمونني في نومي ويقظتي، ولا يتركونني ولو ذهبت ألتمس نسمة من هواء على شاطئ النيل. وكنت لطول خبرتي بهم أعرف حياتهم بماضيها وحاضرها ومستقبلها، بل إنني كنت أعلم تماما ما تهجس به خواطرهم. فإذا أضفت إلى هذا أنني أنا الذي اخترت لهم ملابسهم، ووضعتها بيدي على أجسادهم، لما أنكرت منهم ابتسامتهم الراضية التي يحيونني بها. ولكن من أصدقائي من يبدو العتب في أعينهم. الحق أنني لا أستطيع أن أدافع عن نفسي أمامهم؛ فهم قد صحبوني زمنا طويلا، واجتزنا معا طرقات المدينة، وتقاسمنا الجوع والشبع ثم ... فجأة وعلى غير انتظار، تخلوا عني وأخذوا يتسكعون في الحارات والأزقة الضيقة. ها أنا ذا أسمع واحدا منهم يصيح: كيف تقتلنا أيها السفاح؟! فإذا ما حاولت أن أجيبه طرق أذني همس خافت لشيخ عجوز غرقت لحيته في دموعه: أيرضيك أن تتركني في منتصف الطريق؟ وأهم بالكلام فيقاطعني: كيف تصنع لي ماضيا جميلا وتعجز عن أن تجد لي مستقبلا؟! فإذا حاولت أن أعتذر له بالنسيان، وبأنني بشر على كل حال، وأن حياتي لا تسير متصلة كالخط المستقيم، بل تمزقها لحظات المرض، واليأس، وأكاد أقول: الحب، حتى ينبري لي شاب كنت أعرف طيشه وتهوره ليقول: إنني أخجل منك. لماذا لا تتركني وشأني؟ ألا يكفيك أنك حرمتني من كل سعادة، وقتلت حبيبتي قبل يوم الزفاف بساعات معدودة؟!
طالما هممت بأن أتحدث، وأن أدافع عن نفسي مخلصا، وأن أبين طيبة قلبي، وسماح نفسي، وأنني لا أملك من أقدارهم شيئا، وأنهم جميعا قد ولدوا كما يولد أبناء آدم وفي يد كل منهم لوح مكتوب، وأني لو كنت أستطيع لأبعدت الموت عن طريقهم، ومحوت الألم من حياتهم.
لم أكد أحاول الدفاع عن نفسي حتى سمعت صيحة مبحوحة تحاول أن تجد لنفسها طريقا بين الضجيج فلا تستطيع. ودققت النظر فوجدت صبيا صغيرا يشب على قدميه، ويحشر جسده النحيل المتهالك بين الصفوف المتراصة أمامه، فنهضت من على كرسي ومددت إليه ذراعي وأنا أصيح من فرط تأثري: تعال أيها الصديق ، تعال، إني في انتظارك، كنت قد نسيتك.
وإذا بي أمام صبي ضئيل، نحيل الجسد، مصفر الوجه، عليه بقايا ثوب رخيص مرقع. وعرفته في الحال. كان هو بعينه اليتيم الذي قضيت معه ليالي الأخيرة، وأنا أحاول أن أجد له مكانا بين الأحياء. صاح في وجهي من الغيظ: «هكذا نسيتني!»
قلت في إخلاص: لم أنسك يا صديقي، لم أنسك! وأشرت إلى بقية أصدقائي الذين يتطلعون إلينا في دهشة. - إذن فكيف تركتني أهيم وحدي في الطرقات؟
فقلت وصدري يسعل سعالا شديدا: لا لم أنسك. والله شاهد على ما أقول!
فصاح غاضبا وصوته يترقرق بالدموع: «بل تنكرت لي.» ثم التفت وراءه وتفحص الوجوه لحظة ثم قال: عفوا! إني لست مثل هؤلاء؛ فما أنا إلا طفل يتيم، وضعت حياتي أمانة بين يديك فهربت من وجهي.
فقلت وأنا أنظر إليه بعينين مفعمتين بالحنان: أقسم لك أن ليس فيهم من هو أعز علي منك. ولكنني ...
فقال وهو يطرق برأسه: ألست أولى من هؤلاء برعايتك؟ هذا الأمير الفرعوني الذي يتباهى بأناقته، ويضع يده على مقبض سيفه في خيلاء ...
فقلت مستنكرا: رويدك! ولا تسئ إلى هذا الضيف العزيز. إني أعلم مبلغ تهوره وطيشه، وقد طالما حاولت أن أكفكف من غلوائه فلم أفلح. تصور يا صديقي الصغير أنه - ويا للعجب - يحاول أن يهدم الهرم الأكبر! لا تندهش، لا تندهش؛ فهذا هو ما حدث. لقد تسلل ذات ليلة هو وجماعة من عبيده وحاشيته الغاضبين على خوفو الملك وصعدوا إلى قمة الهرم وألقوا بعشرة أحجار كبيرة من فوق قمته. يجب عليك أن تجد لهم العذر؛ فقد كان من رأيهم أن هذا البناء الجميل ليس إلا رمزا لذل أهل مصر، وعبودية ...
فصاح الصبي اليتيم: ولكن ما لي أنا ولهؤلاء!
فأجبته: أليس من حقه أن يعيش أيضا؟
فقال: إن بيننا هوة عميقة من الزمن ... خمسة آلاف عام. أنا أولى منه بالحياة. ألست أحيا معك في عصر واحد؟ ولكنك تهرب إلى الماضي السحيق تفتش فيه، شأن الكتاب الخياليين المعتزلين.
أردت أن أشرح له كيف أن مشكلات الروائيين الخالدة، وأنها لو جرت على ألسنة الأقدمين فهي تعبر عن مشاكلنا، ولكنه كان قد التفت إلى جاره المضحك وأخذ يشير إليه متهكما: وهذا الأبله؟! ماذا يعجبك فيه؟ فقلت: لا، لا، إنك الآن تعتدي على ضيوفي في بيتي. قال متعجبا: هذا «البلياتشو»؟!
قلت: نعم، البلياتشو! ألا تعرفه؟ لقد انتهيت من شأنه، وعرفت مصيره، ولم يبق إلا أن يظهر على صفحات المجلة (لو تلطف صاحبها!) لا تسخر به؛ فإن كنت ترى هذه المساحيق على وجهه، والطرطور الأحمر الطويل على رأسه، وبذلته المرقعة الملونة، فلا يمكن أن يخفى عليك أن في عينيه دموعا، ولولا أنه شديد الحياء لبكى الآن!
فقال الصبي اليتيم: هل تنكر أنه مخلوق يتسلى به الناس؟ فقلت محاولا أن أسترضي صديقنا «البلياتشو» الذي هم بأن يلطم الصبي على وجهه: أنت تعلم يا صديقي أنني ما قصدت به أن يضحك الناس، ولا حتى أن يضحك عليهم. انظر! ها هو مدير المسرح يختفي وراءه. لقد جعلته يهدده بالفصل إذا هو لم يضحك الجمهور كما كان يفعل كل ليلة، ولكن صاحبنا البلياتشو لم يفد فيه الإقناع ولا الرجاء؛ فقد أصر على أن يبكي المتفرجين. أليس هذا عجيبا؟ وإذا به يقف أمام جمهور متواضع من الفلاحين والفقراء ويعرض عليهم مأساة حياته. ولكنه كان كالدمية العاجزة فأخذوا يضحكون، أترى؟ ثم إنه أراد أن يستعطفهم فعرض عليهم زوجته - ليعرفوا مبلغ نكده - ولكن موجات الضحك كانت تهدر في المسرح، ولم ينجح في أن يبكيهم حتى حين نادى إليه أطفاله الصغار - سبعة أطفال جياع - وعرضهم عليهم. كانوا يحسبون أن كل عنصر من عناصر مأساته لم يخلق إلا ليزيد من غرابة المشهد؛ فلم ينقطع ضحكهم حتى هرول إليه مدير المسرح وضمه إلى صدره فرحا ليقول له قبل أن يسدل الستار: ألم أقل لك يا صاحبي؟ ألم أقل لك ...
فتقدم مني الصبي اليتيم وصوته يتهدج: ولكنني أنا أولى منه بالحياة، أنا أولى منه، أتسمع: أنا أضيع منه شأنا.
فقلت أهدئه: «ولكنك لم ترو لي شيئا، ماذا حدث لك ؟» - إن هذه «المخلوقات» جميعا تنعم بحياة محدودة، لها طرفان نابتان . أما أنا فشيء هائم في شوارع القاهرة، لا اسم له، ولا عنوان، ولا ماض، و...
فقلت وأنا أرفع حاجبي من الدهشة: «كيف حدث هذا؟ كيف؟» - هكذا وجدتني بين يديك. قلت لي كن يتيما ... شريدا، أتذكر يوم لقيتني في ميدان «العتبة» المزدحم بالناس والعربات. لقد جريت وراءك باكيا، وتشبثت بطرف ردائك وأنا أتوسل إليك أن تختم حياتي (أو تبدأها). ابتهلت إليك أن ترحمني، أن تلقي بي تحت عجلات الترام، أو تقذف بي تحت إحدى العربات الأمريكية الفاخرة، أو حتى إحدى العربات «الكارو»، ولكنك أشحت بوجهك عني، وقلت في استكبار: إن ضرورة الفن لا يمكن أن تسمح بهذا، فجريت وراءك أستعطفك باكيا، حتى لقد التفت إلينا جمع كبير من الناس كانوا ينتظرون «الأوتوبيس» ووصفوك بالذهول، ولكنك انتهزت فرصة الزحام وركبت العربة وتركتني فاغرا فمي من الدهشة.
قلت في لهفة: حسن، حسن. أكمل، أكمل ...
فتنهد الصبي وقال: آه لو تركتني لأقع بين يدي البوليس! لكان ذلك أرحم بي، وأكثر إنسانية. أتذكر يوم كانت عربة البوليس التي تجمع الشحاذين والمتشردين وذوي العاهات من الشوارع واقفة عند سور «الأزبكية»، ونزل منها رجلان أمسكا بتلابيب امرأة عجوز كانت ملقاة على أرض الرصيف تستجدي عابري السبيل؟ قذفوا بها إلى العربة وهي تصرخ بين أيديهم: أولادي! أولادي! فقلت مقاطعا: حقا؟ لقد نسيت كل هذا!
فاستطرد قائلا: هنالك تضرعت إليك أن تتركني لأذهب معهم إلى السجن، أو إلى الملجأ، أو إلى أي مكان، ولكنك ناديتني قائلا: لا تذهب، هكذا كتب عليك أن تحيا. ليتني ما أطعتك!
فقلت للصبي: ولكن هذا المسلك من جانبي هو خير ما يمكن اللجوء إليه. أليس أوقع في النفس أن أزيد من شقائك؟ لا تنس أنك بهذا ستنال عطف الكثيرين. - لا أريد هذا العطف. - وربما سمع بك أحد الحكام من الوزراء أو ... - وهل يقرأ الحكام قصصك؟! - أعترف لك يا صديقي أنني أشك في ذلك! - إذن فلم لا تتركني؟ - لأنك سجين (وهنا أشرت إلى بقية الوجوه التي يزداد شغفها بحديثنا قائلا: كهؤلاء؟) - إذن فأطلق سراحي، إني أريد الحرية، الحرية، الحرية ... - ولكني لا أملك لك شيئا. - كيف؟ - تستطيع أن تذهب بنفسك إلى وزارة الشئون الاجتماعية، أو إلى أحد الملاجئ، أو ...
فأشار إلى ملابسه، وإلى قدميه العاريتين وقال في انكسار: أبهذه الهيئة؟! - صدقني يا عزيزي، لو استطعت لبدلت حياتك كلها، ولاشتريت لك بذلة جديدة، ووضعت في قدميك العاريتين حذاء لامعا ...
فتهلل وجهه بالأمل وهتف: وما الذي يمنعك؟ - هكذا وجدتك أمامي.
في هذه اللحظة كان سعالي قد اشتد، وكانت الحمى التي أعاني نوباتها منذ أسبوع قد ألحت علي. فدارت رأسي وغامت عيناي، وماجت الأصوات من حولي، فاختلطت الصيحات العالية، بالبكاء المكتوم والهمس الخافت، وانطمست وجوه شخصياتي أمام عيني. عندئذ تمالكت نفسي وصحت بأعلى صوتي: «يا سيد! (وكان هذا هو اسم خادمي الأبله) هات الدواء.»
وبعد أن شربت منه جرعتين، قمت إلى فراشي، وأغمضت عيني، واستولى علي نوم عميق.
حدث هذا منذ أسبوع. وأنا منذ ذلك اليوم أتذكر الصبي اليتيم.
وما زلت أبحث له عن مصير.
1953م
أيها الحبيب
في المهرجان وجدتك يا أيها الحبيب، وفي المهرجان فقدتك.
وعندما جاء موعده في هذا العام، رحت أبحث عنك.
أمي قالت لي: أنت تغش نفسك. أبي قال: أنت مجنون. النجوم شمتت في. أصحابي قالوا: الله يعوضنا فيك. وعندما أقبل الغروب، كنت أسير على الطريق، وغايتي طرف المدينة. الزحام شديد يا أيها الحبيب، الزحام لا يدفئ يا حبيب. عيني تفتش عنك.
عندما وصلت إلى هناك، تجرفني أمواج البشر والعربات والصيحات والأنوار، كان كل شيء كما كان. الخيام منصوبة على البعد، الطواحين والمراجيح ترف في الهواء، الصواريخ تنفجر في السماء، ترسم قططا وسفنا وأشجارا وعيونا ملتهبة، نداءات الباعة وصرخات الأطفال، وطبول السيرك وصدام العربات وغناء الأراجوز تتقاذف سكاكين من الصيحات والأضواء. يا أيها الأمل اليائس المسكين، هل تظن أنك ستجدها هناك؟ وأنت أيها الرأس المتعب، هل تستريح على صدرها، والذراع المقرورة، هل تتدفأ في ذراعها؟ والعين التائهة، هل تجد الأمان في عينيها؟
على اليمين ، وراء السلك الشائك، كشك صغير. أتقدم منه وأقطع تذكرة الدخول. الحارس يفتح الباب الصغير ويغمز بعينه ويقول: هذا مهرجان الشباب. أبتسم وقلبي يقول: ليتك تعرف شيخوخة الشباب. نفس الخيمة وتلوح من بعيد. على بابها، فوق صندوق كبير، يقف رجل أسمر طويل، على كتفيه عباءة حمراء، فوق رأسه عمامة حمراء، يتدلى من وسطه سيف طويل. صيحاته هي نفس الصيحات: تعال تعال. شف الساحر العجيب. العرض يبدأ في الحال. تعال يا محترم. تفرج على البنت العجيبة. تفرج على لعبة السكاكين. السكاكين تنغرز في قلبها ولا تقول آه. السكاكين تخرق جسمها ولا تقول آه. شف الساحر العجيب. يالله يا محترم. تعال يا سيدنا. العرض يبدأ في الحال.
قطعت التذكرة ودخلت. في الداخل عتمة، المقاعد قذرة، الزوار قليلون، على خشبة المسرح صندوقان، ومنشار، وطبلة كبيرة. رجلان متعبا الوجوه يحاولان أن يصلحا الستار، ينظران في غضب إلى الجمهور، يحضران لوحا خشبيا عليه صورة ممددة مغروز في قلبها سكين، فوق رأسها جمجمة، يجثم عليها شبح شيطان كريه. الجمهور يضحك، الرجلان يعتدلان ويضعان أيديهما في خصورهما، وينظرون إليه في قلق. لو سقط المطر فسوف ينزل علينا من ثقوب السقف. الخيمة القديمة لن تحمينا يا حبيبي، لن تحمينا.
وقفت في مكاني خلف المقاعد الخشبية، نفس المكان. شبكت ذراعي على صدري وانتظرت أن يبدأ العرض، نفس العرض. كانت وقفتي خلف ظهرك، ولم أكن أراك. قلبي كان يعد اللحظات ليرى فتاة الرعب، والساحر الشرير، والسكاكين التي تنطلق من يديه كالطيور السوداء. وعندما بدأ العرض يا حبيبتي، كان الساحر الشرير يقف على المسرح، يزعق بصوته المخيف، يقذف السكاكين في الهواء ويلتقطها. والفتاة المسكينة، هل رأيت الفتاة المسكينة، تقف أمامه كالتمثال، تستند على عمود خشبي، وراء ظهرها لوحة كبيرة، رسم فوقها عين وقلب، وجهها أصفر، على فمها ابتسامة. بدأ الساحر يصوب السكاكين نحوها. كلامه كثير. أفعاله تخيب الأمل. وعندما انطلقت أول سكينة من يده لتنغرز في الجبهة المرسومة خلف الفتاة هلل الناس. قال الساحر: «وحدوه.» دق غلام مريض على الطبلة. زعق الناس : الله أكبر. لم ترمش عيون الفتاة. وعندما صوب الساحر سكينته الثانية لتنغرز كالسهم الطائر بجوار الصدغ، لاحظت أنك أدرت له ظهرك. يداك تغطيان وجهك. وجهك أصفر. جسدك يرتعش. تشجعت وهمست: يظهر أنك دخت. رفعت يديك عن وجهك، مددت ذراعك تبحثين عن شيء تستندين عليه. مددت يدي فأمسكت بها. إنك تترنحين. قلت: المنظر مخيف، تعالي نخرج إلى الهواء. قلت: لا أحتمل. تعال. وعندما خرجنا من الخيمة، لاحظت أنك ما زلت تستندين علي. سحبت ذراعك وهمست: معذرة. قلت: لا داعي للاعتذار. هززت رأسك وقلت: أردت أن أقول شكرا. لولاك لسقطت على الأرض. قلت: نسيت أن كله تمثيل؟ تطلعت إلي للمرة الأولى وهمست: يجب أن يشنقوا هذا الساحر. السكين كانت ستنغرز في عين البنت. ضحكت وقلت: لو كنت مكانها فماذا كنت تفعلين؟ ضربت الأرض بقدميك وصحت حتى التفت الناس: أنا؟ أقف أمام هذا الملعون؟! نظرت إلى عينيك، لاحظت سوادهما العميق، تركت قاربي ينساب على سطحهما، مددت يدي بالمنديل وجففت قطرات العرق على جبهتك. قلت: حتى ولو كنت أنا هذا الساحر؟ تطلعت إلي متسائلة: لم تر خبثا في عيني؟ لم أر اندهاشا في عينيك. همست: وهل كنت ترشقني بالسكاكين؟ قلت ضاحكا: بل كنت أقف في مكان الفتاة وأكتفي بالسهام التي تطلقينها من عينيك. ضحكت حتى ابتلت عيناك. سحبت ذراعك من ذراعي وقلت: أكرر شكري لك. الآن لا بد أن أذهب. تجرأت وقلت: لا يمكنك أن تذهبي الآن. لا يمكنني أن أتركك على هذه الحال. قالت: أنا أصبحت طبيعية. صحت في صوت جاد: بل جسمك لا يزال يرتعش. والعرق يبلل جبهتك. تعالي نشرب فنجان قهوة. لا تقولي لا. ها هو المقصف. خطوتين ونكون هناك.
ذهبنا إلى المقصف. طلبت لك فنجالا من القهوة ولي عصير ليمون. النادل نظر إلينا وابتسم. قلت: الرجل يبتسم لك. لا بد أنه يعرفك. قلت: لا أحد يعرفني هنا. ضحكت وقلت: ولا أنا. عبثت بأصابع يدك وقلت: ماذا تريدين أن تعرفي عني. سحبت يدك وقلت: اسمك. عملك. ماذا جاء بك إلى هنا . قلت ضاحكا: القدر. سألت: القدر؟ قلت وأنا أمسك بيدك؟ أرسلني لأنقذك . تركت يدك في يدي. تطلعت في عيني لحظة وسألت: وما اسم الفارس؟ قلت: ماذا تهم الأسماء؟ ألا يكفي أن يكون جالسا إلى جانبك. ضحكت حتى مالت رأسك إلى الوراء وقلت: ولكننا لن نجلس هنا إلى الأبد! قلت هيا بنا. أشرت للنادل ودفعت الحساب. قلت إلى أين؟ قلت وأنا أشبك يدي في يدك: وهل نعرف من أين حتى نسأل إلى أين؟ إلى المهرجان طبعا. قلت ضاحكة: منذ اللحظة أنت فارسي. لن أسألك إلى أين.
الزحام شديد يا أيها الحبيب. ونحن نشق الطريق بجسمينا الصغيرين. ما أجمل أن يسير الإنسان وسط الزحام! الأنفاس تدفئ وجهه. العرق يفوح من حوله. الصياح يدوي في أذنيه. الريح لا تجد طريقها إليه. النجوم تغفل عيونها عنه. مررنا ببائعة البخت. قلت: جرب بختك. قلت وأنا أنظر في عينيك: بختي أعرفه. جرب أنت. نادت المرأة لتغلب ترددنا: شوفوا البخت والطالع. كل شيء تقول عنه النجوم. الصحة والعمر (ثم وهي تشجعنا بنظراتها الضاحكة) والزواج والأولاد. يا بختك يا أبو البخوت. وقفنا عند الصندوق الصغير. نتفرس في الخيوط الطويلة. ينتهي كل واحد منها بمظروف صغير. المرأة تقول: كل شيء بقرش واحد. قرش واحد يا محترم. يبين الصحة والعمر وسكة السفر والنصيب والمكتوب. وضعت يدي في جيبي وأعطيت للمرأة قرشا. سحبت خيطا في نهايته مظروف. المرأة مدت يدها إلي بالمظروف وقالت: بختك حلو إن شاء الله. قلت لك: هل تجربين. مددت يدك فسحبت المظروف من يدي وقلت: يكفيني بختك. شددت على يدك يا حبيبتي، باليد الأخرى مزقت المظروف. صحت: ألا تقرأ ما فيه؟ قلت وأنا أشدد قبضتي على يدك، يكفيني أن يدي في يدك. سألت: من أي كوكب أنت؟ قلت: الزهرة. وأنت؟ قلت: الأسد. ضحكت وقلت: وماذا يصنع الأسد بالزهرة؟ قلت وأنا أطوقك بذراعي: يعانقها. يقبلها. يأكلها! ضحكت وقلت: بشوكها أيضا؟ قلت: متى كان الأسد يخاف من الشوك؟
مضينا يا حبيبتي متعانقين. ذراعي حول خصرك. ذراعك على كتفي. الناس ينظرون إلينا ويبتسمون. نحن ننظر إلى الناس ونبتسم. مررنا على بائع فول سوداني واشترينا قرطاسين، واحدا لك وواحدا لي. جعنا فأكلنا سندوتشين. ما كدت أعطيه لك حتى غاب في فمك. ما كان أجمل جوعك! ما كان أبدع شراهتك. سألت البائع: هل عندك غير الفول؟ سألتني كالمذعورة: أسد ولا يأكل الفول! خجلت ومددت يدي إلى البائع المبتسم وحشرت السندوتش كله في فمي. قلت هل رأيت الآن أستطيع أن أبتلعك أنت أيضا!
كان صياح الباعة يضحكنا، كأنهم يلقون نكتا لذيذة. وصراخ الأطفال يجعلنا نبتسم، كأنه فراشات تداعب آذاننا. وأنوار الصواريخ تفرح عيوننا، تتناثر في السماء كالزهرات المضيئة فنمد أيدينا لنلتقطها، وتسقط فوقنا كالثمرات الذهبية فنقف ونفتح أفواهنا نريد أن نتلقفها. توقفت فجأة وقلت: ما رأيك؟ ورأيتك تشيرين من بعيد فسألت: في ماذا؟ سألت مندهشة: ألا تراها تدور؟ ألا تراها تدور؟ قلت وأنا ألمح الأراجيح تلف في الهواء: ما أبدع منظرها. صحت: بل قل ما أبدع ركوبها! اعترضت في حذر: سيضحكون عليك! قلت وأنت تسحبينني إلى هناك: بل أنت تخاف أن يضحكوا عليك! استسلمت وذهبت إلى الرجل العجوز الذي يقطع التذاكر. أعطانا تذكرتين وقال: خمس لفات بقرش. أمسكوا نفسكم! توقفت الأرجوحة ونزل الأطفال. بعضهم يصرخ ويبكي وبعضهم يضحك ويطلب المزيد. ركبت في صندوق وأنت في صندوق. حذرتك وأنا أقطب وجهي: شدي الحزام جيدا حول وسطك! قلت عابثة: أنت فارس على الأرض فقط! قلت مدعيا السخط: بل في السماء أيضا! وأردت أن أتملص من الحزام لأتأكد من أنك ربطت نفسك جيدا. لكن الأرجوحة الهائلة كانت قد تحركت. كشجرة سحرية كل فروعها تدور حولها. كنا ندور دائما دائرة واحدة. وجهي في ظهرك أحاول اللحاق بك وأنت تهربين. صحت: امسكي نفسك! التفت ضاحكة: خليك في نفسك أنت! زعقت: أنا مسئول عنك! ضحكت ضحكة طائشة وقلت: هل صدقت أنك فارس؟ زمجرت غاضبا: كيف تجرؤين على الشك؟! ضحكت وقلت في عناد: أنا لا أعرفك. صحت بأعلى صوتي: أنت تعرفين أنني أحبك، التفت إلي وقلت: ماذا تقول؟! رفعت صوتي غاضبا : أقول إنني أحبك. ارتفعت ضحكتك الطائشة وقلت: أنا لا أسمعك. أشرت إليك مهددا: بل تسمعين جيدا. قلت وقد أمعنت في طيشك: هل قلت شيئا؟ أبطأت دورة الأراجيح فصحت: انتظري حتى ننزل على الأرض!
هدأت الأرجوحة ثم توقفت. كانت رأسي لا تزال تدور وتدور وتدور. تذكرت أنني وأنا طفل أصابني الدوار وكدت أقع. تذكرت أنني أغمى علي وتقايأت على جلبابي الأحمر الجديد. تذكرت أن أمي ضربتني على وجهي وأن أصحابي ضحكوا علي وأن أبي توعدني قائلا: إن عدت إلى المراجيح قطعت رأسك.
غامت عيناي يا حبيبتي. حاولت أن أنزل بنفسي من الأرجوحة فلم أستطع. خيل إلي أنني أرى شبحك يتقدم مني، يفك الرباط عني، يساعد الرجل العجوز في الأخذ بيدي. حاولت أن أتماسك وقلت: أنت ملاكي الشيطاني. أمسكت برأسي وقلت: يجب أن تتقايأ. سندتني بذراعك وسرت بي إلى مكان بعيد. قلت: أحس أن العالم ينهار على رأسي. همست في أذني: أهذا كلام أسود؟ أحسست بشلال عفن يندفع إلى فمي. بعد أن أفرغت ما في جوفي نظرت إليك وقلت: لا تشمتي بأسد يتقايأ. قلت وذراعك تلتف حولي ويدك تجفف العرق من على جبهتي: المهم ألا يتقايأ الزهرة! كان العالم كله يدور حولي. دوامة من الأراجيح والصيحات والأفواه الضاحكة والسكاكين والأسود والأزهار والسحرة تدور بي. شددت قبضتي على يدك. قلت ضارعا: لا تتركيني. همست قائلة أنت مريض. رأسك دافئ. قلت وأنا أحس بأحشائي تضطرب وتفور، ودماغي يلف ويدور: أنا لست خجلا من مرضي. وانطلقت حنجرتي تغني. هل ما زلت تذكرين يا حبيبتي؟ هل ما زلت تصدقين؟ أي شيطان كان يعبث بي ويجري هذه الكلمات العجيبة على فمي:
أريد أن أرقد على الفراش،
أن أتظاهر بأني مريض.
عند ذلك يأتي الجيران،
ومن ورائهم حبيبي.
ظهر وجه حبيبي،
فما حاجتي لطبيب؟
إن حبيبي
هو الذي يعرف دائي.
قلت: هل أنت شاعر؟ قلت: تمنيت أن أكون. سألت: وهذه القصيدة؟ قلت: لشاعر قديم. قلت: وما اسمها؟ قلت: مريض بالحب. قلت هازئة: مثلك؟ قلت: نعم ولكن مرضي اسمه الكآبة. ضحكت وقلت: ولكنك تضحكني. قلت: هذا دليل على أنني حزين ! قلت: لم تقل لي اسم الشاعر. قلت: هو شاعر مجهول. ضحكت وقلت: مثلك؟ قرصت خدك وقلت: ألم تعرفيني بعد؟ سألت: وأنت هل عرفتني؟ تأملت عينيك. لمست بهما شعرك الأسود المنسدل على وجهك. قبلت بهما وجهك الطفلي المستدير. قلت في نفسي: من يدريني أن هذا كله ليس حلما؟!
لكنك كنت هناك يا حبيبتي. وكنت أنا أيضا هناك. والأراجيح التي تدور في الهواء، وصياح الساحر العجيب، والقيء في المكان البعيد البعيد وراء السلك الشائك، ورأسي الدافئ المحموم وأحشائي التي تمزقها السكاكين، والبنت التي تستند على اللوحة وتخطئها السكاكين، والزحام الذي نغوص فيه ونتشبث ببعضنا ونضل ونلتقي ونتوه. واسمك الذي لا أعرفه، واسمي الذي لا تعرفينه، وحكايتك عن المشغل الذي تعملين فيه بعد الظهر، والأرشيف الذي قلت لك إنني أعمل فيه. وسؤالك ضاحكة ما معنى الأرشيف، ومحاولتي أن أشرح لك الملفات والمحفوظات والمكاتبات والأذونات، والترام الذي لا نجد فيه مكانا في الصباح، والمتعة التي لم نتمتعها في المساء، وقولي لك إنني مريض وأن العالم ينهار، وقولك إنك بجانبي والعالم لن ينهار. وأحلامك الصغيرة عن عش نسكن فيه، وقولي يجب أولا أن نوفر ثمن الخلو. والزحام مشتد والناس يتصايحون. واسمك تكتمينه عني يا حبيبتي، واسمي أكتمه عنك. أقول لك: ما قيمة الأسماء؟ ما قيمة الأسماء؟ وتقولين: يكفي أننا عرفنا بعضنا. ونمضي متشابكين يا حبيبتي، ونمضي متساندين. يدك الدافئة على رأسي المحموم. ذراعك في ذراعي. القبلة التي اشتهيتها لم تنطبع على فمك. الكلمة التي صرخت بها لم تسمعيها. والزحام يشتد يا حبيبتي والناس يتصايحون. دعينا منهم. ما شأننا بهم. نريد أن نكون وحدنا. لكننا لا نستطيع يا حبيبتي، لا نستطيع؛ فالزحام يشتد. والناس يتدافعون. ماذا حدث يا ترى؟ ماذا حدث؟ هل شبت نار؟ هل أفلت القاتل؟ هل توقفت الطاحونة؟ هل سقط الإنسان؟ ماذا حدث يا حبيبتي؟ ماذا يمكن أن يحدث؟ الأمواج تتدافع، نحن نحاول أن نتماسك. أجراس الإسعاف من بعيد. صفارات العساكر تدوي. هل طلعت الشمس في منتصف الليل؟ هل بصق القمر على الناس في عز النهار؟ الأمواج تتدافع. أيدينا تفترق. الأمواج تغرقنا، تدوس علينا. أيدينا تتشابك، ثم تفترق، ثم نبحث عن بعضها. الصراخ والصياح سكاكين تخرق آذاننا. نحن ننادي ولكن من الذي يسمعنا؟ من يصدقنا؟ لو كنت أعرف اسمك؟ لو كنت تعرفين؟ لكني سقطت يا حبيب. تحت سنابك الخيل سقطت. التتار مزقوا لحمي. كسروا عظامي. باعوها للكلاب. وعندما تذهب الحمى تكون أنت أيضا قد ذهبت. وعندما تنطفئ الصواريخ يكون المهرجان قد انفض، والخيام خربت، والساحر الشرير ارتبك، والبنت الشاحبة الوجه قد خرقت عينيها السكاكين.
وعندما يجيء كل عام، أروح أبحث عنك في المهرجان؛ لأنني في المهرجان وجدتك، وفي المهرجان فقدتك.
يا أيها الحبيب.
1964م
ناپیژندل شوی مخ