Being
تمييزا من مطلق الوجود
Existence
فيسبق إلى خاطر المأخوذ بهذه المصطلحات لأول وهلة أنها بدعة من بدع أوروبا الحديثة، ما هي في الواقع إلا تكرير لمصطلحات قديمة وضعت في غير موضعها، وهذا مثال لما جاء منها في كتاب التهافت لابن رشد حيث يقول: ... إن لفظ الوجود يقال على معنيين: أحدهما ما يدل عليه الصادق، مثل قولنا هل الشيء موجود أم ليس بموجود؟ ... والثاني ما يتنزل من الموجودات منزلة الجنس ... ... وأما هذا الرجل - أي الغزالي - فإنما بنى القول على مذهب ابن سينا، وهو مذهب خطأ؛ وذلك أنه يعتقد أن الآنية - أي كون الشيء موجودا - شيء زائد على الماهية خارج النفس، وكأنه عرض فيها. ... وإن اسم الموجود يقال على معنيين: أحدهما على الصادق، والآخر على الذي يقابله العدم، وهذا هو الذي ينقسم إلى الأجناس العشرة، وهو كالجنس لها ... والموجود الذي بمعنى الصادق هو معنى في الأذهان، وهو كون الشيء خارج النفس على ما هو عليه في النفس، وهذا العلم يتقدم العلم بماهية الشيء - أعني أنه ليس يطلب معرفة ماهية الشيء حتى يعلم أنه موجود - وأما الماهية التي تتقدم علم الموجود في أذهاننا فليست في الحقيقة ماهية، وإنما هي شرح معنى اسم من الأسماء، فإذا علم أن ذلك المعنى موجود خارج النفس علم أنها ماهية وحد، وبهذا المعنى قيل في كتاب المقولات: إن كليات الأشياء المعقولة إنما صارت موجودة بأشخاصها، وأشخاصها معقولة بكلياتها. وقيل في كتاب النفس: إن القوة التي بها يدرك أن الشيء مشار إليه وموجود غير القوة التي بها ماهية الشيء المشار إليه، وبهذا المعنى قيل: إن الأشخاص موجودة في الأعيان والكليات في الأذهان، فلا فرق في معنى الصادق في الموجودات الهيولانية والمفارقة ...
وهذه المصطلحات تحتلف في مدلولها كاختلاف معنى «الصادق» من زيادة «المفهوم» في الكليات إلى معنى الصادق كما يريدونه حديثا، ويطلقونه على الموجود الذي يدرك الماهيات والكليات، ولكن القول في الوجود والماهية، وأن معرفة الموجود لا تتوقف على العلم بماهيته قول من أقدم ما كتب في معاني هذه المصطلحات.
ولا نعني أن هذه الآراء جميعا وليدة الاططلاع على شروح ابن رشد بنصوصها أو ترجماتها، ولكننا نعني أن الفيلسوف الجدير باسم الفيلسوف في العصر الحديث لا يخلو أن يكون قد اطلع على مذاهب القرون الوسطى، أو على التعقيبات التي أوحتها إلى الخالفين وابتعثتها في عقول المفكرين، وليس في العصر الحاضر من اشتغل بالفلسفة ولم يطلع على أطوار المذاهب الفلسفية وسوابق الآراء حول أصول المسائل الكبرى فيما وراء الطبيعة، ويكفي أن يكون قد اطلع على خلاصة هذه الأطوار لتنعقد الرابطة بينه وبين السلف الذي لا فكاك منه، ولا سيما السلف الذي وضع الأساس ثم تعاقبت بعده أدوار البناء.
وذلك هو المقصود ببعد الأثر الذي أحدثته شروح ابن رشد في زمانها وبعد زمانها، ولا نخال فيلسوفا أو شارحا كان لكلامه من الشيوع والتأثير ما كان لهذا الشارح العظيم.
إنها لعبرة ليس لها مكان أحق من مكان الكلام على تاريخ فيلسوف حكيم.
لو كان الاعتبار بالحوادث من عادات الإنسان، بل من عادات المشتغلين بالحكمة من الناس، لما صودر بعد ابن رشد كتاب واحد، ولا آمن أحد بجدوى المصادرة في تفنيد الآراء.
فقد رزق ابن رشد أنصارا ومعجبين من أصحاب الأديان الثلاثة لم يرزق مثلهم فيلسوف قبله ولا بعده، وهو هو الذي كان له مصادرون ومضطهدون من أتباع كل دين وخدام كل سلطان، ولو أن المصادرين عملوا قصدا وعمدا على نشر آرائه وشروحه لفاتهم بعض النجاح وأخطأهم بعض التدبير. (4) قوة الأثر
ناپیژندل شوی مخ