1 - عصر ابن رشد
2 - ابن رشد في عصره
3 - جوانب ابن رشد
4 - منتخبات من آثار ابن رشد
المراجع
1 - عصر ابن رشد
2 - ابن رشد في عصره
3 - جوانب ابن رشد
4 - منتخبات من آثار ابن رشد
المراجع
ابن رشد
ابن رشد
تأليف
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
عصر ابن رشد
(1) الحركة العلمية
ولد ابن رشد في سنة 520 هجرية بمدينة قرطبة وهي لا تزال في عصرها الذهبي الذي جعلها من عواصم الثقافة في التاريخ، فلا تذكر أثينا وروما والإسكندرية وبغداد إلا ذكرت معهن قرطبة في هذا الطراز.
وقد كان مولده بعد وفاة الحكم الثاني المستنصر بالله بنحو مائة وخمسين سنة (366ه)، وهو الخليفة الأموي الذي شغلته الثقافة قبل كل شاغل، وجعل همه الأول أن ينافس بعاصمته عاصمة المشرق - بغداد - في عهد الخليفة المأمون، فجمع فيها من الكتب والكتاب ما لم يجمع قبل ذلك في مدينة واحدة، وكان هو أسبقهم إلى قراءة ما يجمعه من الأسفار النادرة من أقطار المشرق والمغرب.
قال ابن خلدون ما خلاصته: «... كان يبعث في شراء الكتب إلى الأقطار رجالا من التجار ويرسل إليهم الأموال لشرائها، حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه، وبعث في كتاب الأغاني إلى مصنفه أبي الفرج الأصفهاني - وكان نسبه في بني أمية - وأرسل إليه فيه ألف دينار من الذهب العين، فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه إلى العراق، وكذلك فعل مع القاضي الأبهري المالكي في شرحه لمختصر ابن عبد الحكم وأمثال ذلك، وجمع بداره الحذاق في صناعة النسخ والمهرة
1
في الضبط والإجادة في التجليد، فأوعى
2
من ذلك كله. واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده، إلا ما يذكر عن الناصر العباسي ابن المستضيء، ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها في حصار البربر ...»
3
وكان أعيان السراة
4
والتجار يقتدون بالخلفاء في هذا الإقبال على اقتناء الكتب، سواء منهم من يقرأ ومن لا يقرأ. قال الحضرمي: «أقمت مرة بقرطبة ولازمت سوق كتبها مدة أترقب فيه وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء، إلى أن وقع وهو بخط فصيح وتفسير مليح، ففرحت به أشد الفرح، فجعلت أزيد في ثمنه فيرجع إلي المنادي بالزيادة علي، إلى أن بلغ فوق حده، فقلت له: يا هذا! أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى بلغه إلى ما لا يساوي. قال: فأراني شخصا عليه لباس رئاسة، فدنوت منه وقلت له: أعز الله سيدنا الفقيه، إن كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك، فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حده ... فقال لي: لست بفقيه ولا أدري ما فيه، ولكني أقمت خزانة كتب واحتفلت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد، وبقي فيها موضع يسع هذا الكتاب، فلما رأيته حسن الخط جيد التجليد استحسنته ولم أبال بما أزيد فيه، والحمد لله على ما أنعم به من الرزق فهو كثير ...»
5
وكان ابن رشد فخورا بهذه الخصلة في موطنه، فقال لزميله الفيلسوف ابن زهر يوما وهما بحضرة المنصور بن عبد المؤمن من خلفاء دولة الموحدين: «ما أدري ما تقول، غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى إشبيلية ...»
6
على أن هذين الفيلسوفين قد كانا في نفسيهما وفي آليهما، آية الآيات على مبلغ ذلك العصر من ازدهار الثقافة، فكان العلم وراثة في أسرة كل منهما يتعاقبه منها جيل بعد جيل، وكان الذاكرون إذا ذكروهم ميزوا بينهم باسم الجد والابن والحفيد، فيقولون: ابن رشد الجد، وابن رشد الابن، وابن رشد الحفيد، ويزيدون في أسرة ابن زهر فيقولون: ابن زهر الأصغر؛ تمييزا له من ابن زهر الحفيد.
وأعجوبة الأعاجيب في نشأة ابن رشد أنه نشأ في دولة الموحدين، وأنه تلقى التشجيع من أحد خلفائهم على الاشتغال بشرح أرسطو وتفسير موضوعات الفلسفة على العموم، وكان موضع العجب أن يأتي هذا التشجيع من أناس اشتهروا بالتزمت والمحافظة الشديدة على العلوم السلفية، ومنهم من نسب إليه أنه أحرق كتب الفلسفة والبحث في مذاهب المتكلمين.
روى صاحب كتاب «المعجب في تلخيص أخبار المغرب» عن بعض الفقهاء، قال: «سمعت الحكيم أبا الوليد يقول غير مرة: لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبو بكر بن طفيل ليس معهما غيرهما، فأخذ أبو بكر يثني علي ويذكر بيتي وسلفي، ويضم بفضله إلى ذلك أشياء لا يبلغها قدري، فكان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي ونسبي أن قال لي: ما رأيهم في السماء؟ - يعني الفلاسفة - أقديمة هي أم حادثة؟ ... فأدركني الحياء والخوف، فأخذت أتعلل وأنكر اشتغالي بعلم الفلسفة، ولم أكن أدري ما قرر معه ابن طفيل، ففهم أمير المؤمنين مني الروع والحياء، فالتفت إلى ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها، ويذكر ما قاله أرسطوطاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة، ويورد مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم، فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنها في أحد من المشتغلين بهذا الشأن المتفرغين له، ولم يزل يبسطني حتى تكلمت، فعرف ما عندي من ذلك، فلما انصرفت أمر لي بمال وخلعة سنية ومركب.»
واستطرد صاحب المعجب قائلا: «أخبرني تلميذه المتقدم الذكر عنه، قال: استدعاني أبو بكر بن طفيل يوما فقال لي: سمعت أمير المؤمنين يتشكي من قلق عبارة أرسطوطاليس أو عبارة المترجمين عنه، ويذكر غموض أغراضه، ويقول: لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهما جيدا لقرب مأخذها على الناس، فإن كان فيك فضل قوة لذلك فافعل، وإني لأرجو أن تفي به، لما أعلمه من جودة ذهنك وصفاء قريحتك، وقوة نزوعك إلى الصناعة، وما يمنعني من ذلك إلا ما تعلمه من كبرة سني، واشتغالي بالخدمة، وصرف عنايتي إلى ما هو أهم عندي منه. قال أبو الوليد: فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم أرسطوطاليس.»
7
ويزيد العجب عند مؤرخي هذا العصر - والمستشرقين منهم على الخصوص - أن هذا الخليفة ينتمي إلى أسرة تدين بمذهب الظاهرية، وهو المذهب الذي يلتزم أصحابه ظاهر النصوص ويتحرجون من التأويل، وقد توفي إمام هذا المذهب في المغرب - ابن حزم - بعد منتصف القرن الخامس للهجرة ومذهبه شائع، وخلفاء الموحدين يرجحونه على سائر المذاهب، ويعتبره المؤرخون المحدثون قطب المذاهب الرجعية مع إحاطته بمذاهب الفلاسفة، كما يعلم من كتابه عن «الفصل في الملل والنحل».
كان ابن حزم هذا آية أخرى من آيات العراقة في البيوتات العلمية، ولكنها الآية التي تمثل الثقافة من جانبها الآخر: جانب المحافظة - السلفية - وكراهة التوسع في البدع الحديثة.
8
وكان ابن حزم هذا هو ابن حزم الابن «علي بن أحمد»، وأبوه أحمد بن سعيد، وابنه الفضل أبو رافع، وكلهم من مشاهير العلماء الثقات في المعارف السلفية، وإقبالهم على العلم إقبال الصادق في طلبه المستغني عن التكسب به، المجترئ بالرأي على من يخالفه؛ لأنه لا يخشى من الجرأة على رزقه. جرت بين ابن حزم - الابن - وبين أبي الوليد الباجي مناظرة، فقال الباجي: أنا أعظم منك همة في طلب العلم؛ لأنك طلبته وأنت معان عليه تسهر بمشكاة الذهب، وطلبته وأنا أسهر بقنديل بائت السوق. قال ابن حزم: هذا الكلام عليك لا لك؛ لأنك إنما طلبت العلم وأنت في تلك الحال رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبته في حين ما تعلم وما ذكرت؛ فلم أرج به إلا علو القدر العلمي في الدنيا والآخرة.
وقد جنت عليه ملاحاته
9
للعلماء والرؤساء، وقلة مبالاته بغضب الغاضبين؛ فأحرقوا كتبه في إشبيلية، وقال في ذلك:
فإن تحرقوا القرطاس لم تحرقوا الذي
تضمنه القرطاس بل هو في صدري
وقد كان تلميذه عبد المؤمن - رأس أسرة الموحدين - على مثل هذه الصرامة في الخلق، وهذا اللدد
10
في الخصومة العلمية، وهذه الشدة في المحافظة على السنن السلفية، فموضع العجب أن تكون هذه الأسرة هي حامية الفلسفة والبدع العلمية، وهي التي تشجع رجلا كابن رشد على شرح أرسطوطاليس. (2) الحركة السياسية وتأثيرها في الثقافة
ذلك في الحق عجيب، ولكنه العجب الذي مصدره الزيغ
11
عن السبب، وهو قريب بل جد قريب.
فقد أحصى المؤرخون - ولا سيما المستشرقين - علل الحركات الثقافية في المغرب عامة غير علتها الحقيقية، وهي - بالإيجاز - ظهور الدعوة الفاطمية في إفريقية الشمالية .
فظهور هذه الدعوة في المغرب قد غير فيه كثيرا من وجهات الثقافة والسياسة، وقد كان له الأثر المباشر فيما شغل الأوروبيين بعد ذلك خلال القرون الوسطى من موضوعات الفلسفة الدينية، وأهمها موضوعات النفس وخلودها، وموضوعات العقل وعلاقته بالخلق والخالق.
ولا يخفى أن الدعوة الفاطمية هي الدعوة الإسماعيلية بعينها؛ فإن الفاطميين ينسبون إلى فاطمة الزهراء، أو ينسبون إلى إسماعيل بن جعفر الصادق؛ تمييزا لهم من سائر العلويين.
وقد كان الإسماعيليون يشتغلون بالفلسفة ويرجحون مذهب الأفلاطونية الحديثة، وهو مذهب الفيلسوف أفلوطين
(205-270م) الذي ولد بإقليم أسيوط، وألقى دروسه في الإسكندرية ثم في روما، ومن أتباع الإسماعيليين الذين نشروا هذا المذهب إخوان الصفاء - أصحاب الرسائل المنسوبة إليهم - ومنهم مسلم بن محمد الأندلسي الذي نقل مذهبهم إلى البلاد الأندلسية.
وقد شاع مذهب الإسماعيلية شرقا وغربا في العالم الإسلامي، من جبال الأطلس إلى تخوم الهند وآسيا الوسطى، وكان ابن سينا يقول: «كان أبي ممن أجاب داعي المصريين، ويعد من الإسماعيلية، وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم وكذلك أخي، وكانا ربما تذاكرا بينهما وأنا أسمع منهما وأدرك ما يقولانه، وابتدأا يدعواني أيضا إليه، ويجريان على لسانهما ذكر الفلسفة والهندسة.»
12
لا جرم يتذاكر المستطلعون أحاديث هذا المذهب في إفريقية الشمالية كما تذاكروها في بخارى وعلى التخوم الهندية، فقد جاء هذا المذهب إلى المغرب بقوة الدولة فوق قوة الدعوة، وأصبح من شاغل أصحاب الدول أن يتعرفوه ويستطلعوا كنهه ويتبطنوا ما وراءه، وبخاصة من كان كخلفاء الموحدين مهددا بسلطان الدولة الفاطمية، معنيا بما يعلنونه ويسرونه من مذاهب السياسة أو الحكمة.
ولقد كان من آثار هذه الدعوة في المغرب عامة أن الخليفة الأموي بالأندلس عبد الرحمن الناصر (300-350 هجرية/912-961 ميلادية) تلقب بأمير المؤمنين بعد أن أطلق هذا اللقب على خلفاء الفاطميين، وجاء خلفه الحكم الثاني الملقب بالمستنصر بالله، فنافس خلفاء الفاطميين أشد المنافسة في الاشتغال بالفلسفة والعلوم وتقريب الحكماء والأدباء، وأنفذ إلى إفريقية جيشا قويا لتوطيد سلطانه في مراكش وإعلان الدعوة باسمه على المنابر.
أما دولة الموحدين فقد كان الخطر عليهم من الدعوة الفاطمية - أو الدعوة الإسماعيلية بعبارة أخرى - أشد وأقرب، فقابلوا دعوتهم بمثلها واجتهدوا في تعرف مذاهبهم الباطنية، وكان رئيسهم «محمد بن تومرت» من قبيلة «مصمودة» البربرية، ولكنه كان يتلقب بالمهدي وينتمي إلى آل البيت. ويقول ابن خلكان - وهو ممن ينكرون نسب الفاطميين - إن ابن تومرت هو: «محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن هود بن خالد بن تمام بن عدنان بن صفوان بن سفيان بن جابر بن يحيى بن عطاء بن رباح بن يسار بن العباس بن محمد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.»
13
فقد برز الموحدون إذن للفاطميين أو الإسماعيليين حتى في النسب والدعوة المهدية، ولما اشتهر الإمام الغزالي في المشرق بإنكار الباطنية والرد عليها، قصد إليه ابن تومرت وحضر عليه. وحكي كما جاء في كتاب «المعجب في أخبار المغرب»: «أنه ذكر للغزالي ما فعل علي بن يوسف بن تاشفين من ملوك المرابطين بكتبه التي وصلت إلى المغرب من إحراقها وإفسادها، وابن تومرت حاضر ذلك المجلس، فقال الغزالي حين بلغه ذلك: ليذهبن عن قليل ملكه وليقتلن ولده، وما أحسب المتولي لذلك إلا حاضرا مجلسنا.»
وقد تم لابن تومرت ما أنبأه به أستاذه الغزالي، فأقام دولة الموحدين وندب لها صاحبه عبد المؤمن بن علي الكومي (524-558ه/1129-1162 ميلادية)، ثم خلفه ابنه يوسف، ثم خلفه ابنه يعقوب وتلقب بالمنصور بالله (580-595 هجرية/1184-1198 ميلادية)، وهو الذي اقترح على ابن رشد تفسير كتب أرسطوطاليس وشرح مذاهب الفلسفة على الإجمال.
ويظهر التحدي والمناجزة بين الموحدين والإسماعيليين في مقابلة كل دعوى إسماعيلية بمثلها من دعاوى ابن تومرت وخلفائه.
فقد انتسب إلى آل البيت كما ينتسبون، وتلقب بالمهدي كما يتلقبون، وقال عنه مريدوه: إنه لم يكن أحد أعلم منه بأسرار النجوم وعلوم الجفر
14
والتنجيم، وهي العلوم التي اشتهر بها الإسماعيليون.
قال ابن خلكان: «إن محمد بن تومرت كان قد اطلع على كتاب يسمى الجفر من علوم أهل البيت، وإنه رأى فيه صفة رجل يظهر بالمغرب الأقصى بمكان يسمى السوس، وهو من ذرية رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، يدعو إلى الله ويكون مقامه ومدفنه بموضع من الغرب، هجاء اسمه ت ي م ل ل، ورأى فيه أيضا أن استقامة ذلك الأمر واستيلاءه وتمكنه على يد رجل من أصحابه، هجاء اسمه ع ب د م و م ن، ويجاوز وقته المائة الخامسة للهجرة، فأوقع الله - سبحانه وتعالى - في نفسه أنه القائم بأول الأمر، وأن أوانه قد أزف، فما كان ابن تومرت يمر بموضع إلا ويسأل عنه، ولا يرى أحدا إلا أخذ اسمه وتفقد حليته، وكانت حلية عبد المؤمن معه، فبينما هو في الطريق رأى شابا قد بلغ أشده على الصفة التي معه، فقال له وقد تجاوزه: ما اسمك يا شاب؟ فقال: عبد المؤمن. فرجع إليه وقال له: الله أكبر! أنت بغيتي، ونظر في حليته فوافقت ما عنده.»
15
هذه القصة نترك ما فيها كله ويبقى منها ما لا سبيل إلى تركه، وهو استعداد الموحدين للفاطميين بسلاحهم ومقابلتهم بمثل دعواهم، واستبطانهم لأسرار دعوتهم؛ لينهضوا لها بما يجري في مجراها عن اعتقاد منهم، أو عن سياسة وتدبير، وكل شيء يجري تفسيره بعد ذلك على أهون سبيل.
فالعلوم التي كانت مقبولة عند دولة الموحدين قد تتناقض وتتنافر، ولكنها تلتقي في مقصد واحد وهو لزومها في تلك المناجزة وتلك المناظرة.
وبين الغزالي وابن حزم بون بعيد في التفكير ومذاهب النظر والمعرفة، ولكنهما يلتقيان في كراهة الباطنية، فالغزالي يرد عليها ويفند أقوالها في الإمامة، وابن حزم يدين بظاهر النصوص ويحرم التأويل مع وجود النص، والتأويل - كما هو معلوم - أصل من أصول الإسماعيلية، يجيزونه بل يوجبونه ويرجعون به إلى علم الإمام بأسرار الغيب وبواطن الآيات، ويضيف ابن حزم إلى ذلك أنه كان شديد التعصب للأمويين، ولم يكن يظهر هذا التعصب لغير الأخصاء، ولكنه كان يظهر النقمة على الفاطميين الإسماعيليين ويؤلف كتابه عن جمهرة أنساب العرب
16
فينكر انتسابهم إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، ومن ثم إلى فاطمة الزهراء.
ولا يبعد أن يكون الخلفاء الموحدون مؤمنين بأسرار النجوم، يبحثون عن الأفلاك والعقول التي تديرها لينفذوا منها إلى خفايا تلك الأسرار، ويلفت النظر إلى هذا أول سؤال وجهه الخليفة المنصور إلى ابن رشد، وهو: ماذا يقولون عن السماء؟ •••
كانت دولة الموحدين أول دولة إفريقية تقف أمام الفاطميين موقف المناظرة في السياسة والثقافة، أما قبل ذلك فالدولة الصنهاجية في تونس كانت تتولى الأمر بإذن الفاطميين من القاهرة، ودولة الملثمين أو المرابطين التي نازعتها السلطان في المغرب الأقصى لم تكن تدرس حين نشأتها شيئا من الثقافة أو من الدين، ومضى عليها زمن وهي مشغولة بحرب القبائل البربرية والسودانية التي بقيت على الجاهلية، ولم يكد يستقر بها القرار على عهد يوسف بن تاشفين حتى شغلت بالجزيرة الأندلسية واستقدمها ملوك الطوائف إلى الأندلس لنجدتهم في حربهم مع ألفونس السادس ملك أراجون، وانصرفت جهودهم إلى هذه الناحية، وظلوا كذلك على عهد علي بن يوسف بن تاشفين حتى زالت دولتهم ولما ينقض على وفاة هذا الأمير أكثر من سنتين، وكان منهجهم في شئون الثقافة منهج البداوة في استنكار كل ما يحسبونه من البدع، ومنه علم الكلام وبحوث الفقهاء في الحكمة الدينية؛ ولهذا أحرقوا كتب الغزالي وهي من أفضل ما كتبه المتكلمون!
فالموحدون هم أول من ناظر الفاطميين (أو الإسماعيليين) في إفريقية الشمالية، وأول من تعرف علومهم ومذاهبهم ليغلبهم في ميدانهم ويقابل دعوتهم بمثلها أو بما ينقضها ويبطلها. •••
وما من حركة ثقافية في ذلك العصر يراد تفسيرها بمعزل عن هذا العامل المهم - عامل الدعوة الإسماعيلية - إلا تعذر التفسير أو وقع فيه الخطأ الكثير، ومن هذا القبيل تلك المناقشات الطويلة حول مصدر الثقافة الإغريقية التي انتقلت من الشرق إلى أوروبا، أهو إسرائيلي أم عربي؟ وموضع اللبس هنا أن الفيلسوف اليهودي ابن جبيرول (1021-1070) سبق ابن رشد بمولده وكتابته، ولكن ابن جبيرول لم يكن له مصدر غير المراجع العربية، وفلسفته الأفلاطونية الحديثة مستمدة من هذه المراجع، لم يسلم حتى من أخطائها الظاهرة وهي الخلط بين مذهب أفلوطين ومذهب أرسطو في الربوبية؛ لأن طائفة من تواسيع أفلوطين ترجمت في القرن الثالث للهجرة، ونسبت خطأ إلى أرسطو باسم أثولوجية أرسطوطاليس، وقد التبست آراء ابن جبيرول بالآراء الإسلامية والآراء المسيحية التي نقلت عنها حتى حسبه بعض الأوروبيين من فلاسفة المسلمين، وحسبه بعضهم من فلاسفة المسيحيين، ولم تتضح الحقيقة إلا في القرن التاسع عشر حين كشف المستشرق الإسرائيلي سلمون مونك
Salomon munk (1803-1867)
17
عن بعض المخطوطات، فتبين له أن الفيلسوف الذي يسميه الأوروبيون أفيسبرون
Avicébron
هو نفسه ابن جبيرول، وأنه إسرائيلي وليس من المسلمين ولا من المسيحيين.
وقد كان ابن جبيرول مسبوقا في الثقافة الإسرائيلية بفيلسوف آخر من اليهود نشأ في الفيوم بمصر (892-942)، وتنقل بين مصر وفلسطين والعراق في إبان الدعوة الإسماعيلية وملاحم الجدل بين المتكلمين والمعتزلة، وهم فلاسفة الإسلام الباحثون في مسائل التوحيد والحكمة الدينية، وهذا الفيلسوف الإسرائيلي هو سعديا بن يوسف الذي اشتهر باسم وظيفته جاعون (892-942)، وتتبع مساجلات المتكلمين والمعتزلة فطبقها على الديانة الإسرائيلية، وألف كتابه «الإيمان والعقل» في موضوعات الخلق والتوحيد والوحي والقضاء والقدر والثواب والعقاب وغير ذلك من موضوعات علم الكلام.
وقد كان للفلسفة في المغرب رواد قبل ابن رشد، أشهرهم ابن باجة أو ابن الصائغ الذي توفي سنة 533 للهجرة، إذ كان ابن رشد في الثالثة عشرة من عمره، وابن باجة هو الذي يسميه الأوروبيون
Avinpace
وهو أستاذ أبي الحسن علي بن عبد العزيز الذي رحل إلى مصر بعد موت أستاذه في مدينة فاس، ونقل معه خلاصة من مؤلفاته إلى مدرسة قوص بالصعيد الأعلى حيث مات ودفن، وقد كان ابن باجة على ديدن الكثيرين من علماء عصره جامعا بين الأدب والفلسفة والطب، وقيل إن حسد الأطباء له - ممن كانوا يزاحمونه في بلاط ابن تاشفين بمراكش - أغراهم به، فدسوا له عند الأمير ودسوا له السم في طعامه فمات ولم يكن يجاوز الأربعين، ويعتبر ابن باجة بحق أول رائد لثقافة الإغريق في الأندلس؛ فقد علق على كتب أرسطو وجالينوس، وترجمت تعليقاته إلى العبرية، وترجم إليها كتابه عن تدبير المتوحد وفيه شرح سبيل الوصول إلى الله بالمعرفة والرياضة، ويجمع بين أساليب الحكمة وأساليب التصوف، ويقسم أساليب «التوحد» الذي يعني العزلة، و«التوحد» الذي يعني وحدة الأشباه المشتركين في مطالب الحكمة والفضيلة.
أما بعد ابن باجة فأشهر الفلاسفة هما الزميلان ابن الطفيل وابن رشد، وقد اجتمعا زمنا في بلاط الموحدين، وكان ابن الطفيل أكبر من ابن رشد، ولكنه عاش بعده (توفي سنة 581 للهجرة)، ولم ينكب مثل نكبته، بل قيل إنه كان يأخذ مرتبه مع الأطباء والمهندسين والرماة والشعراء، ويقول كما جاء في كتاب «المعجب في أخبار المغرب»: لو نفق عليهم علم الموسيقى لأنفقته عليهم ...! (3) الحركة الاجتماعية
وابن طفيل هو صاحب قصة «حي بن يقظان» التي ترجمت إلى الإنجليزية في القرن السابع عشر، ونسب إليها نشاط القصة في العصر الحديث، وفحوى قصة حي بن يقظان أن الإنسان قد يصل إلى معرفة الله، ولو نشأ منفردا على جزيرة منعزلة لا يصحبه فيها أحد من بني نوعه، ويتمم رأيه في هذه القصة مذهبه في التصوف وإمكان الاتصال بالله وإدراك الحقائق الربانية برياضة النفس على الكشف والمناجاة.
18
ويبدو من أخبار ابن الطفيل وآثاره - على قلة هذه وتلك - أنه كان إلى مزاج الفنان الظريف أقرب منه إلى مزاج الفيلسوف الحكيم، وأنه كان خبيرا بفنون المنادمة والمسامرة، أثيرا عند أمير المؤمنين المنصور، لا يطيق هذا غيابه ولا يزال عنده أياما منقطعا عن أهله، وكان هذا هو الغالب على حكماء ذلك العصر وأطبائه ما عدا ابن رشد؛ فقد كان ابن ماجة يحسن فن النغم والإيقاع، وكان ينظم الموشحات ويلحنها ويغنيها، ومن موشحاته تلك الموشحة التي قيل إن صاحب سرقسطة أقسم ساعة سماعها لا يمشين ناظمها ومنشدها إلا على الذهب، وهي التي ختمها بقوله:
عقد الله راية النصر
لأمير العلا أبي بكر
ومن لباقته وحسن تصرفه في إرضاء الأمراء أنه أشفق من مغبة هذا القسم، فاحتال على تنفيذه بأن جعل في نعله قطعة من الذهب!
19
وكان ابن زهر زميل ابن رشد في الطب والحكمة أبرع أهل زمانه في فن التوشيح وفن التلحين، وله من الشعر الظريف ما يقل نظيره في بدائع الشعراء المنقطعين للهو والمنادمة ، وهو صاحب الأبيات في المرآة:
إني نظرت إلى المرآة أسألها
فأنكرت مقلتاي كل ما رأتا
رأيت فيها شييخا لست أعرفه
وكنت أعهد فيها قبل ذاك فتى
20
فقلت أين الذي بالأمس كان هنا
متى ترحل عن هذا المكان متى؟
فاستضحكت ثم قالت وهي معجبة
إن الذي أنكرته مقلتاك أتى
كانت سليمى تنادي يا أخي وقد
صارت سليمى تنادي اليوم يا أبتا
وله يتشوق إلى ولده بإشبيلية، وهو بمراكش:
ولي واحد مثل فرخ القطا
صغير تخلف قلبي لديه
21
وأفردت عنه فيا وحشتا
لذاك الشخيص وذاك الوجيه
22
تشوقني وتشوقته
فيبكي علي وأبكي عليه
وقد تعب الشوق ما بيننا
فمنه إلي ومني إليه
روى أبو القاسم بن محمد الوزير الغساني حكيم السلطان المنصور بالله الحسني، أن يعقوب المنصور سلطان المغرب والأندلس سمع هذه الأبيات فرق للحكيم الظريف، وأرسل المهندسين إلى إشبيلية، وأمرهم أن يرسموا بيت ابن زهر ويبنوا له بيتا مثله في مراكش، ففعلوا كما أمرهم وفرشوا البيت بمثل فرشه وجعل فيها مثل آلاته، ثم أمر بنقل أولاد ابن زهر وحشمه إلى تلك الدار، ثم أخذه معه إليها فدخلها فوجد ولده الذي تشوقه يلعب في فنائها، وخيل إليه أنه في منام.
وهذه فنون من المنادمة والتحبب إلى الأمراء لم يكن ابن رشد يحسن شيئا منها، ولعله كان أعلم أهل زمانه بالفلسفة والفقه وأجهلهم بفنون المنادمة والسياسة، وراض نفسه على التوقر فبالغ في رياضتها، وأنف أن يروى له شعر يتغزل فيه؛ فأحرق ما نظمه في صباه، وقد تقدم في تفضيله لقرطبة على إشبيلية أنه قال لابن زهر: إن المطرب الذي يموت في قرطبة تحمل آلاته إلى إشبيلية لتباع فيها. وهو قول لا يخلو من التعريض والترفع، غير ما نقل عنه كثيرا من سكينته وتورعه عن المزاح.
ومن المهم التنبيه إلى هذه الخصلة فيه وإلى مخالفته بها لنظرائه وأقرانه، فلا شك أن جهله بفنون الندمان وجلساء الأسمار كان له شأن أي شأن في تعجيل نكبته التي لا ترجع كلها إلى أحوال عصره، ولا تخلو من رجعة في بعض أسبابها على الأقل إلى أحواله.
هوامش
الفصل الثاني
ابن رشد في عصره
520-595 هجرية/1126-1198 ميلادية (1) حياة ابن رشد
أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد، هو الفيلسوف الوحيد في أسرة من الفقهاء والقضاة، كان أبوه قاضيا، وكان جده قاضي القضاة بالأندلس، وله فتاوى مخطوطة لا تزال محفوظة في مكتبة باريس، تدل على ملكة النظر التي ورثها عنه حفيده، وقد كانت تعهد إليه مع القضاء مهام سياسية بين الأندلس ومراكش، فكان يضطلع بها على الوجه الأمثل، وتوفي سنة 520 للهجرة قبل مولد حفيده بشهر واحد.
وقد وردت ترجمة الحفيد الحكيم في مراجع متفرقة من كتب الأدب والتاريخ، وترجم له ابن أبي أصيبعة في كتابه «طبقات الأطباء»، وهو مطبوع، وترجم له الذهبي والأنصاري وابن الأبار في كتب مخطوطة، نشرت منها مقتبسات كافية بنصها العربي في ذيل كتاب لرينان عن ابن رشد والرشدية
Averroès et L’Averroisme
طبع بباريس الطبعة الثالثة سنة 1866، واطلعنا عليها في تلك الطبعة، وعليها جميعا نعتمد في تلخيص ترجمة الفيلسوف.
نشأ بقرطبة وتعلم الفقه والرياضة والطب، وتولى القضاء بإشبيلية قبل قرطبة، واستدعاه الخليفة المنصور أبو يعقوب وهو متوجه إلى غزو ألفونس ملك أراجون سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، فأكرمه واحتفى به وجاوز به قدر مؤسسي الدولة - دولة الموحدين - وهم عشرة من أجلاء العلماء، فأجلسه في مكان فوق مكان الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن الشيخ أبي حفص الهنتاني، وهو صهر الخليفة (زوج بنته) ... ويظهر أن شهرة القاضي بالفلسفة قد جعلته موضع النظر مع الحذر، فلما استدعاه المنصور ظن أهله وصحبه أنه عازله ومنكل به، فلما خرج من عنده بعد تلك الحفاوة أقبل عليه صحبه يهنئونه، فقال لهم قولة حكيم: «والله إن هذا ليس مما يستوجب الهناء به؛ فإن أمير المؤمنين قربني دفعة إلى أكثر مما كنت أؤمل فيه أو يصل رجائي إليه.»
وكلمة كهذه تكشف عن بصيرة الرجل وصدق رأيه، كما تكشف عن سليقة المعلم فيه؛ فإنه لو كان من أهل المنفعة بالمناصب لسره أن يؤمن الناس بزلفاه عند الخليفة، ولكنه علم الحقيقة فآثر الإرشاد بتعليمها على الانتفاع بما اعتقده الناس من وجاهته، وأيقنوه من عظم منزلته عند ذوي السلطان.
قال ابن الأبار:
1 «تأثلت له عند الملوك وجاهة عظيمة لم يصرفها في ترفيع حال، ولا جمع مال، إنما قصرها على مصالح أهل بلده خاصة، ومنافع أهل الأندلس عامة.»
وقد صدقت فراسة ابن رشد؛ فإن الخليفة لم يلبث أن نكبه وأقصاه - كما سيأتي بيانه في الفصل التالي - وأمره بملازمة «اليشانة»، وهي قرية كانت قبل ذلك مأوى لليهود، قيل إنه نفي إليها؛ لأنه كان مجهول النسب بأرض الأندلس، وكان المظنون به أنه من سلالة بني إسرائيل، وهو ظن لا سند له من الواقع على الإطلاق. وقد شهد ابن جبير لجده بالتقوى والصلاح وصحة الدين حين هجاه في نكبته، فقال:
لم تلزم الرشد يا ابن رشد
لما علا في الزمان جدك
وكنت في الدين ذا رياء
ما هكذا كان فيه جدك
2
والمتواتر من جملة أخباره أنه كان شديد الإكباب على البحث والمذاكرة، لم يصرف ليلة من عمره بلا درس أو تصنيف، إلا ليلة عرسه وليلة وفاة أبيه، وربما شغله ذلك عن العناية ببزته
3
أو ادخار المال لأيام عوزه،
4
فكان يبذل العطاء لقصاده، ويلام أحيانا على البذل لمن لا يحبونه ولا يكفون عن اتهامه، فيقول: إن إعطاء العدو هو الفضيلة، أما إعطاء الصديق فلا فضل فيه. وقد أعطى مرة رجلا أهانه وحذره من فعل ذلك بغيره؛ لأنه لا يأمن بوادر غضبه.
على أنه كان يسامح في أمر نفسه ولا يسامح في أمر غيره، ومن ذاك قصته مع الشاعر ابن خروف حين هجا أبا جعفر الحميري العالم المؤدب؛ فقد أوجع الشاعر ضربا وأنذره ألا يعود لمثلها، ولو كان عفوه عن المسيئين إليه من قبيل المداراة لكانت مداراة الشعراء الذين يهجون غيره أقرب وأحجى.
5
وأثر عنه في قضائه أنه كان يتحرج من الحكم بالموت، فإذا وجب الحكم أحاله إلى نوابه ليراجعوه، وقد اجتمع له قضاء الأندلس والمغرب وهو دون الخامسة والثلاثين .
ولم يذكر قط عن القاضي الفيلسوف خبر من أخبار التبسط لمجالس اللهو والطرب مما استباحه جملة أبناء عصره، ومنهم طائفة من العلماء والحكماء، بل كان يتعفف عن حضور هذه المجالس، وبلغ من تعففه عما لا يراه خليقا بعلمه ومكانه من القضاء أنه أحرق شعره الذي نظمه في الغزل أيام شبابه، وعلى هذا كان يحفظ الجيد من الشعر ويرويه في مواطن الحكمة وشواهد المثل. وحكى عنه أبو القاسم بن الطيلسان أنه كان يحفظ شعري حبيب
6
والمتنبي، ويكثر التمثل بهما في مجلسه ويورد ذلك أحسن إيراد.
قال ابن الأبار: «كان على شرفه أشد الناس تواضعا وأخفضهم جناحا.»
وكان هذا الخلق منه مطمع الطامعين في تواضعه وفي كرمه. دخل إليه أبو محمد الطائي القرطبي، فتلقاه قائما كعادته في لقاء زائريه، فقال الشاعر:
قد قام لي السيد الهمام
قاضي قضاة الورى الإمام
فقلت قم بي ولا تقم لي
فقلما يؤكل القيام
وظاهر أن هذه الخلائق الطيبة قد تغني المعلم أو الفيلسوف أو القاضي في صناعته، ولكنها لا تغني جليس الملوك في صناعة المنادمة والملازمة، بل لعلها تحرجه عندهم وتعرضه لإعراضهم ومقتهم؛ لأن هذا التواضع فيه لم يكن عن ضعة ولا عن استكانة، بل كان عن كرم وكرامة وشعور بالمساواة بين الناس في المجاملة وحسن المعاملة، فكان يخاطب الخليفة في مجلسه فيقول له: يا أخي! وكانت أمانة التعبير العلمي أحق عنده بالرعاية من زخرفة القول في ألقاب الملوك والأمراء، حيث لا محل لها بين تقريرات العلماء والفلاسفة، فلما شرح كتاب الحيوان لأرسطو زاد عليه عند ذكر الزرافة أنه رآها «عند ملك البربر ...» ومثل هذا اللقب هو الصدق الذي يجمل بالعالم في درسه وبحثه، ولكنه لم يكن جميلا عند الرجل الذي يسمي نفسه ويسميه من حوله بأمير المؤمنين وأمير الدين، ولما بلغ الأمر مسمع هذا الأمير لم يغن عن ابن رشد أنه تمحل
7
المعاذير، وقال إنه قد أملاها «ملك البرين» فصحفها النساخون حين نقلوها إلى ملك البربر ... إذ كان سم الوقيعة قد سرى مسراه ووافق ما كان في نفس الأمير من الغيظ لمناداته باسم الإخاء، فلم يدفع عنه عذر النديم ما جلبه عليه صدق العلماء.
أو لعله قد وافق في نفس الأمير غيظا آخر لم يكن صاحبنا الفيلسوف يلتفت إليه أو يحسبه مما يعاقب عليه؛ فقد كان يصادق أخا الخليفة (أبا يحيى) والي قرطبة كما كان يصادق الخليفة ... فلم يعدم واشيا يقول، وسامعا يسمع أن وراء هذه الصداقة للأخ عداوة مستترة لأخيه، توشك أن تنكشف عن تمرد وعن ولاء للمتمردين.
ولما أراد الخليفة أن ينكبه لم يذكر في أسباب نكبته سببا من هذه الأسباب بطبيعة الحال، بل أحال على الدين تبعة هذه النكبة كما سيأتي بيانه، وأعلن من ذنوب الفيلسوف ما هو ذنب الأمير في باطن الأمر؛ لأنه تعلل عليه بإدمان النظر في كتب القدماء، وقد كان أبو الأمير هو مغريه بالنظر فيها ومعالجة شرحها وتيسيرها لطلابها. (2) نكبته وأسبابها
يحتاج المؤرخ في كل مصادرة فكرية أو دينية إلى البحث عن سببين: أحدهما معلن والآخر مضمر، فقليلا ما كان السبب الظاهر هو سبب النكبة الصحيح، وكثيرا ما كان للنكبة - غير سببها الظاهر - سبب آخر يدور على بواعث شخصية أو سياسية تهم ذوي السلطان، ويسري هذا على الشعراء كما يسري على الفلاسفة، ويسري على الجماعات كما يسري على الآحاد.
لقد نكب بشار ولم ينكب مطيع بن إياس، وكلاهما كان يتزندق ويهرف
8
في أمور الزندقة بما لا يعرف، ولكن بشارا هجا الخليفة، ومطيع لم يقترف هذه الحماقة، فنجا مطيع وهلك بشار.
ولم يكن ابن رشد أول شارح لكتب الأقدمين، فقد سبقه ابن باجة إلى شرح بعضها، وإن لم يتوسع في هذا العمل مثل توسعه، ولكن ابن باجة كان يحسن مصاحبة السلطان، وابن رشد لم يكن يحسن هذه الصناعة، فنكب ابن رشد ولم ينكب ابن باجة، ولم يغن عن الفيلسوف المنكوب أنه شرح الكتب كما تقدم بأمر من أبي الخليفة.
وقد كتب المؤرخون كثيرا عن اضطهاد اليهود في دولة الموحدين، وقيل إنهم كانوا مضطهدين تعصبا من رؤساء الدولة لمخالفتهم إياهم في الدين، وحقيقة الأمر أن الخليفة كان يتهم الذين تحولوا منهم إلى الإسلام كما كان يتهم الباقين على دينهم، وكان يقول: لو صح عندي إسلامهم لتركتهم يختلطون بالمسلمين في أنكحتهم وسائر أمورهم، ولو صح عندي كفرهم لقتلت رجالهم وسبيت ذراريهم، وجعلت أموالهم فيئا للمسلمين، ولكني متردد في أمرهم، وقد كان بعضهم على صلة بخدمة الإفرنج. وجاء في كتب «بغية الملتمس» أنه كان في صحبة جيش الأذفنش تجار من اليهود وصلوا لاشتراء أسرى المسلمين.
فلم يكن اضطهاد هذه الطائفة لمخالفتها في الدين، ولكنها اضطهدت لما خامر أصحاب الدولة من الشك في مساعيها الخفية، ومنها ما يخشى ضرره على الجيش في إبان القتال، وأما في غير هذه الحالة فلم يكن ثمة اضطهاد ولا مصادرة، وكان من اليهود من ارتقى إلى مناصب الوزارة.
ولا نعتقد أن نكبة ابن رشد كانت شذوذا من هذه القاعدة في بعض أسبابها على الأقل إن لم نقل في جميعها، وقد مر بنا أن المنصور أنكر منه مخاطبته إياه بغير كلفة، وأنه ذكره في كتاب الحيوان باسم ملك البربر، وأنه كان وثيق الصلة بأخيه الذي كان يخشى من منافسته إياه، وبعض هذه البواعث كاف لاستهداف الفيلسوف لغضب المنصور، ولكن المعروف عن أمراء الموحدين أنهم كانوا يتحرجون من إيقاع العقاب بالناس لأمثال هذه الأسباب، فمن الراجح أنه تعلل لعقاب ابن رشد بعلة ترضي ضميره وترضي جمهرة الشعب بالذريعة المقبولة في أمثال هذه الأحوال.
فمن هذه الذرائع «أن قوما ممن يناوئه من أهل قرطبة ويدعي معه الكفارة في البيت وشرف السلف سعوا به عند أبي يوسف، ووجدوا إلى ذلك طريقا بأن أخذوا بعض تلك التلاخيص التي كان يكتبها، فوجدوا فيها بخطه حاكيا عن بعض قدماء الفلاسفة بعد كلام تقدم: فقد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة ... فأوقفوا أبا يوسف على هذه الكلمة، فاستدعاه بعد أن جمع له الرؤساء والأعيان من كل طبقة وهم بمدينة قرطبة، فلما حضر أبو الوليد - رحمه الله - قال له بعد أن نبذ إليه الأوراق: أخطك هذا؟ فأنكر ... فقال أمير المؤمنين: لعن الله كاتب هذا الخط، وأمر الحاضرين بلعنه ...»
9
ونحن نعلم اليوم بعد دراسة أساطير اليونان أنهم كانوا يسمون الزهرة ربة الحب، وأنهم أخذوا هذا من البابليين، وأن كلمة فينوس - أي الزهرة - مأخوذة من كلمة «بنوت»، أي «بنت»، وكانت فاؤها تكتب باء في بعض الكتب اليونانية القديمة، وأن هذا كله لا يتعدى المجاز، كما يقول القائل منهم رب البحر وربة الغاب وربة الغناء وأشباه هذه الأسطورات، ولا يبعد أن الأسطورة قد رويت في كتب ابن رشد كما نقلها عن اليونان على هذا المثال ... أما أن يكون ابن رشد معتقدا ربوبية الزهرة ربة الحب أو ربة غيره فذلك بعيد، جد بعيد.
وقيل في أسباب النكبة إن حساد ابن رشد دسوا عليه أناسا من تلاميذه يستملونه شرح الكتب الفلسفية، فشرحها لهم ونقلوها عنه كأنها من رأيه وكلامه، وأشهدوا عليها مائة شاهد ثم رفعوها إلى الخليفة، وطلبوا عقابه لانحلال عقيدته، فنكبه وألزمه أن ينزوي في قرية اليشانة (لوسينا) بجوار قرطبة ولا يبرحها.
فإذا صح حدوث هذا في إبان اشتغال الخليفة بحرب الإفرنج وتوجسه من أهبة الخارجين عليه في الخفاء، فالأرجح أنه هو ذريعة النكبة؛ لأن الغضب الديني يحتدم في إبان العداوات الدينية، فلا يتحرج الخليفة من إرضاء الناس وإرضاء ضميره وإرضاء هواه في مثل هذه الحال، وقد نكبت مع ابن رشد طائفة من القضاة والفقهاء وذوي المناصب، لا يبعد أن يكون الخليفة قد ظن بهم الظنون وشك في ممالأتهم لمنافسيه ومناظريه، ولم يتسع له الوقت لاستقصاء مظان التهمة، ولا كان في وسعه أن يسكت عن قضية الثائرين باسم الغيرة على الدين، فلحقت به النكبة من هذا الطريق.
وجاء في ترجمة الأنصاري له: «حدثني الشيخ أبو الحسن الرعيني - رحمه الله - قراءة عليه ومناولة من يده، ونقلته من خطه قال: وكان قد اتصل - يعني شيخه أبا محمد عبد الكبير - بابن رشد المتفلسف أيام قضائه بقرطبة وحظي عنده فاستكتبه واستقضاه. وحدثني - رحمه الله - وقد جرى ذكر هذا المتفلسف وما له من الطوام في محادة الشريعة - فقال: إن هذا الذي ينسب إليه ما كان يظهر عليه، ولقد كنت أراه يخرج إلى الصلاة وأثر ماء الوضوء على قدميه، وما كدت آخذ عليه فلتة إلا واحدة، وهي عظمى الفلتات، وذاك حين شاع في المشرق والأندلس على السنة المنجمة أن ريحا عاتية تهب في يوم كذا وكذا في تلك المدة تهلك الناس، واستفاض ذلك حتى جزع الناس منه واتخذوا الغيران والأنفاق تحت الأرض توقيا لهذه الريح، ولما انتشر الحديث بها وطبق البلاد واستدعى والي قرطبة إذ ذاك طلبتها وفاوضهم في ذلك، وفيهم ابن رشد - وهو القاضي بقرطبة يومئذ - وابن بندود، فلما انصرفوا من عند الوالي تكلم ابن رشد وابن بندود في شأن هذه الريح من جهة الطبيعة وتأثيرات الكواكب. قال شيخنا أبو محمد عبد الكبير - وكنت حاضرا - فقلت في أثناء المفاوضة: إن صح أمر هذه الريح فهي ثانية الريح التي أهلك الله تعالى بها قوم عاد؛ إذ لم تعلم ريح بعدها يعم إهلاكها. قال: فانبرى إلي ابن رشد ولم يتمالك أن قال: والله وجود قوم عاد ما كان حقا؛ فكيف سبب هلاكهم؟ فسقط في أيدي الحاضرين وأكبروا هذه الزلة التي لا تصدر إلا عن صريح الكفر والتكذيب لما جاءت به آيات القرآن، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ...»
وقصة عبد الكبير هذه لم يرد لها ذكر في سياق الاتهام والمحاكمة، وقد كان الاستناد إليها أولى من تصيد التهم واختلاس الأوراق والبحث فيها عن المعاني المتشابهة؛ لأن الكلمة قد بدرت من ابن رشد - إذا صحت قصة عبد الكبير - على مسمع من «حاضرين» كثيرين.
ومن الغريب حقا أن تبدر تلك الكلمة من ابن رشد مع التزامه لشعائر الدين قبل النكبة وبعدها، وقد كان صاحب القصة يراه - كما قال - يخرج إلى الصلاة وعلى قدميه أثر الماء، وقد اعترف كاتب المنشور الذي أذاع حرمان ابن رشد بهذا الحرص على التزام الشعائر، فقال: «إنهم يوافقون الأمة في ظاهرهم وزيهم ولسانهم، ويخالفونهم بباطنهم وغيهم وبهتانهم ...» وقد ثابر على حضور الصلاة في المسجد بعد النكبة ، وأخبر عنه أبو الحسن بن قطرال، فقال: «إن أعظم ما طرأ عليه في النكبة أنه دخل وولده عبد الله مسجدا بقرطبة - وقد كانت صلاة العصر - فثار لهما بعض سفلة العامة فأخرجوهما ...» وكان يقول في درس الطب: «من اشتغل بعلم التشريح ازداد إيمانا بالله.»
فصدور الكلمة التي نقلها عبد الكبير عن ابن رشد غريب غاية الغرابة من رجل يظهر ذلك الورع ويلتزم الشريعة ذلك الالتزام، ولو كان يفعل ذلك من باب الرياء والمداراة، فإن متعمد الرياء أحرص على بدواته
10
وسهواته من المخلص الذي يأمن الريبة ولا يتكلف الاحتراس مع الناس.
إلا أن التمحل باسم الدين لم يكن بالنادر في ذلك الزمن، وقد عرفنا شواهده المكتوبة في كلام رجل من أهل العلم كالفتح بن خاقان صاحب قلائد العقيان، فإنه رضي عن ابن باجة فقال عنه إنه: «نور فهم ساطع، وبرهان علم لكل حجة قاطع، تتوجت بعصره الأعصار، وتأرجت من طيب ذكره الأمصار.»
ثم سخط عليه فقال: «هو رمد عين الدين، وكمد نفوس المهتدين ... نظر في تلك التعاليم، وفكر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله الحكيم العليم.»
فإذا جاز هذا من رجل كالفتح بن خاقان في رجل يحسن مسايرة الناس كابن باجة، فليس بالبعيد أن يصيب ابن رشد طائف من تلك التهم، وهو في تزمته وصدقه للعلم ومكانته العالية عرضة لنقمة الكاذبين والحاسدين.
ولا نعني أن كتبه لم يكن فيها ما يساء فهمه أو ما يفهمه المخالف فينكره، ولكننا نعني أن سر التهمة كلها بعيد من هذه العلل، وأن للنكبة باطنا غير ظاهرها، ليس من العسير أن نستشفه من مجمل أحواله وأحوال زمانه وأميره.
فمن مجمل أحواله أنه كان رجلا يحسن المساجلة ولا يحسن المنادمة، ولا يبالي تزييف لغة «البلاط» في سبيل تحقيق لغة العلم ورفع الكلفة من مجالس الباحثين فيه، ولو كانوا من الملوك والأمراء. ومما يصح أن يشار إليه من لواحق هذا أنه غفل عن مكانة الغزالي عند ملوك الموحدين، وهو أستاذ أستاذهم الأكبر، فرد عليه دفاعا عن الفلاسفة ، ولم يبال في هذا الدفاع أن ينسب إليه المغالطة.
ومن مجمل أحوال الزمن أنه كان زمن العداوات الدينية، وكانت أخطار الحروب فيه بين المسلمين والإفرنج على أشدها، فكان من أصعب الأمور على الحكام أن يتعرضوا لغضب العامة إذا وقع في وهم هؤلاء أن قاضيا من أعظم القضاة يشتغل بالعلوم التي يرتابون بها ويحسبونها من الكفر والضلالة، وقد اشتهر عن ابن رشد أنه كان مصادقا لأخي الخليفة، وتبين من تاريخ تلك الفترة أن المنافسة فيها على الملك كانت حربا ضروسا لا تنقطع في وقت من الأوقات، فلا يبعد أن ينكب الخليفة ابن رشد؛ اتهاما له بمشايعة أخيه، واتهاما لأخيه بمصاحبة الفلاسفة وإضمار الكفر والضلالة.
أما عفو الخليفة عن ابن رشد بعد ذلك فليس تفسيره بالعسير؛ فإنه قد عفا عنه عقب عودته من الأندلس إلى مراكش، وبعد زوال الغاشية ووضوح الحقيقة في ظنونه بأخيه وجلساء أخيه. وقد قيل إنه أقبل على الفلسفة التي تجنبها حينا فأكثر من الاطلاع على كتبها، فإذا وافق ذلك شفاعة الشافعين في الحكيم المغضوب عليه فقد وضح سر النكبة وسر العفو، ولم يكن فيه غريب غير مألوف من خلائق الملوك وخلائق الدهماء مع الحكماء والفضلاء.
هوامش
الفصل الثالث
جوانب ابن رشد
(1) آثار ابن رشد
لا ندري ماذا أحرق من تلك الشروح عند نكبة الفيلسوف، وماذا أعان الزمن على ضياعه بعد موته، ولكن البقية الباقية منها تدل على شروح متعددة لا على شرح واحد لكل كتاب تناوله من كتب الفلسفة أو الطب بالتفسير والتيسير؛ فقد كان من دأبه على ما يظهر أن يتناول الكتاب بالشرح المطول، ثم بالشرح الوسيط، ثم بالإيجاز الذي لا يقترن بشرح كثير. وقد سرد ابن أبي أصيبعة أسماء هذه الشروح، ومنها تلخيص كتاب ما بعد الطبيعة، وتلخيص كتاب الأخلاق، وتلخيص كتاب البرهان، وتلخيص كتاب السماع الطبيعي، وشرح كتاب السماء والعالم وكتاب النفس، وكلها من فلسفة أرسطو، ومنها في الطب تلخيص كتاب الأسطقسات (أي: العناصر والأصول)، وكتاب المزاج، وكتاب القوى الطبيعية، وكتاب العلل والأعراض، وكتاب التعرف ، وكتاب الحميات، وأول كتاب الأدوية، والنصف الثاني من كتاب حيلة البرء، وكلها لجالينوس.
ولم يكن ابن رشد يعرف اليونانية، ولكنه اعتمد على المترجمات التي نقلت من الشرق إلى الأندلس، وعلى أستاذه أبي جعفر هارون الطبيب المشارك في الحكمة وعلم الكلام.
ومن تآليفه في الطب غير هذه الشروح كتاب الكليات، وقصد أن يجمع فيه الأصول الكلية، وأن يعهد إلى صديقه ابن زهر أن يتممه بكتاب في الأمور الجزئية «لتكون جملة كتابيهما كتابا كاملا في صناعة الطب»، وقد أشار إلى ذلك في ختام كتابه، فوعد باستيفاء الجزئيات في «وقت نكون فيه أشد فراغا لعنايتنا في هذا الوقت بما يهم من غير ذلك، فمن وقع له هذا الكتاب دون هذا الجزء وجب أن ينظر بعد ذلك في الكنايش - أي: الكناشات والتعليقات - وأوفق الكنايش له الكتاب الملقب بالتيسير الذي ألفه في زماننا هذا مروان بن زهر، وهذا الكتاب سألته أنا إياه وانتسخته، فكان ذلك سبيلا إلى خروجه».
ولابن رشد شرح على أرجوزة لابن سينا في الطب، وتعليقات من قبيل المذكرات توجد منها أوراق متناثرة في بعض المكتبات الأوروبية.
وله من التواليف - عدا الشروح: رد على تهافت الفلاسفة للغزالي سماه «تهافت التهافت»، ورسالة في التوفيق بين الحكمة والشريعة سماها «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»، ورسالة في نقد براهين المتكلمين والمتصوفة سماها «الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة»، وكتاب في «الفحص هل يمكن العقل الذي فينا - وهو المسمى بالهيولاني - أن يعقل الصور المفارقة أو لا يمكن ذلك، وهو المطلوب الذي كان أرسطوطاليس وعدنا بالفحص عنه في كتاب النفس»، ومقالة في أن ما يعتقده المشاءون وما يعتقده المتكلمون من أهل ملتنا في كنيته وجود العالم متقارب في المعنى، ومقالة في المقابلة بين آراء أرسطو وآراء الفارابي، وغير ذلك تعليقات وردود على ابن سينا وابن باجة وابن الطفيل في مسائل النفس والعقل والاتصال بالعقل الفعال، وما قيل عن قدم العالم وحدوثه، هي أقرب إلى المقالات القصار منها إلى المطولات.
وهناك قوائم بأسماء مؤلفاته التي لا تزال محفوظة في مكتبة الإسكوريال بأسبانيا لا حاجة إلى إثباتها هنا؛ لأن موضوعاتها الفلسفية جميعا داخلة في هذه الموضوعات التي اشتهر الفيلسوف بشرحها أو الكتابة فيها.
أما كتبه في الفقه، فالمعروف منها كتاب «بداية المجتهد ونهاية المقتصد»، وهو مرجع لم يزل معتمدا بعد نكبة مؤلفه يضرب به المثل في الشعر للإجادة والطموح، كما قال ابن زمرك بعد وفاة ابن رشد بأكثر من مائتي سنة:
أمولاي قد أنجحت رأيا وراية
ولم تبق في سبق المكارم غاية
فتهدي سجاياك ابن رشد نهاية
وإن كان هذا السعد منك بداية
سيبقى على مر الزمان مخلدا
وترجم أكثر المؤلفات الطبية والفلسفية إلى اللاتينية والعبرية، وضاعت أصول الكثير منها وبقيت ترجماتها، ومنها ما هو محفوظ إلى اليوم في مكتبات سويسرا وباريس بنصه العربي مكتوبا بحروف عبرية.
أما الكتب الميسرة للقارئ العربي بمصر وما جاورها، فهي في الفقه كتاب «بداية المجتهد» وهو مطبوع، وفي الفلسفة كتاب «تفسير ما بعد الطبيعة»، وتلخيص كتاب «المقولات» و«تهافت التهافت» وكلها مطبوع.
وله رسالة لطيفة في تلخيص كتاب الخطابة لأرسطو مطبوعة بالقاهرة، وتوجد من مؤلفاته بدار الكتب المصرية مخطوطة لشرحه على أرجوزة الطب لابن سينا، ومخطوطة لجوامع كتاب النفس لأرسطو.
وقد طبع معهد فرانكو بالمغرب الأقصى كتابه «الكليات» في الطب منقولا بالمصورة الشمسية، مشفوعا بوصف بعض العقاقير والأدوية التي وردت فيه إشارة إليها.
وهذه المجموعة الميسرة للقارئ العربي بمصر تجزئه في الإلمام بجوهر «الرشدية» في جوانبها المختلفة؛ لأنها تشمل أقوالا له في الطب والفقه والفلسفة، كما تشمل طرائقه في التأليف والشرح والتلخيص. •••
ومن المحقق أن آثاره الباقية أقل من آثاره التي انتشرت في أيام حياته، فقد أحرق منها في حياته شيء وحرم بعد مماته شيء، وعجل الكمد بأجله فلم ينفعه العفو عنه والرجوع به إلى سابق مكانته، ومرض بعد استدعائه إلى مراكش والعفو عنه مرضه الذي مات به «ليلة الخميس التاسعة من صفر، سنة خمس وتسعين وخمسمائة، بموافقة عاشر دجنبر»، فدفن بجبانة باب تاغزوت، ثم نقل رفاته إلى قرطبة حسب وصيته، فدفن بها في روضة سلفه بمقبرة ابن عباس.
واختلفوا في تاريخ وفاته؛ فقال ابن الأبار:
1 «وامتحن بأخرة من عمره فاعتقله السلطان وأهانه، ثم عاد فيه إلى أجمل رأيه واستدعاه إلى حضرة مراكش، فتوفي بها يوم الخميس التاسع من صفر سنة خمس وتسعين وخمسمائة، قبل وفاة المنصور الذي نكبه بشهر أو نحوه، ودفن بخارجها، ثم سيق إلى قرطبة فدفن بها مع سلفه - رحمه الله. وذكر ابن فرقد أنه توفي بحضرة مراكش بعد النكبة الحادثة عليه المشتهرة الذكر، في شهر ربيع الأول سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وغلط ابن عمر فجعل وفاته تاسع صفر سنة ست وتسعين، ومولده سنة عشرين وخمسمائة، قبل وفاة جده القاضي أبي الوليد بأشهر.»
والأصح على أرجح الروايات، ومع مضاهاة التقويم الهجري على التقويم الميلادي أنه توفي في التاريخ الذي ذكره الأنصاري آنفا، وقد أعقب ذرية لم يشتهر منهم غير ولده عبد الله الذي تعلم الطب كأبيه وعمل في بلاط الخلفاء. (2) فلسفة ابن رشد
أو على الأصح إنهما فلسفتان لا فلسفة واحدة: فلسفة ابن رشد كما فهمها الأوروبيون في القرون الوسطى، وفلسفة ابن رشد كما كتبها هو واعتقدها ودلت عليها أقواله المحفوظة لدينا.
وفلسفة ابن رشد كما فهمها الأوروبيون في القرون الوسطى يلاحظ عليها ثلاثة أمور:
أولها:
أنهم اعتمدوا في فهم فلسفته على شروحه لأرسطو وتلخيصاته لبعض كتبه، ومهما يكن من إعجاب ابن رشد بأرسطو فآراء الفيلسوف العربي لا تطابق آراء الفيلسوف الإغريقي في كل شيء.
وثانيها:
أنهم اعتمدوا على تلك الشروح والتلخيصات مترجمة إلى اللغة اللاتينية أو العبرية، ولا تخلو الترجمة من اختلاف.
وثالثها:
أن فلسفة ابن رشد ذاعت بين الأوروبيين في إبان سلطان محكمة التفتيش التي كانت تتعقب الفلسفة العربية الأندلسية على الخصوص، وتحرم الاشتغال بالعلوم التي تخالف أصول الدين في تقديرها، فمن الطبيعي أن تنسب إلى ابن رشد كل معنى يسوغ ذلك التحريم ويقيم الحجة على صوابه، وأن تؤكد كل فكرة تلوح عليها المخالفة وإن جاز تأويلها على عدة وجوه.
أما فلسفة ابن رشد كما كان يعتقدها، فالمعول فيها على كتبه ك «منهاج الأدلة» و«فصل المقال»، وعلى آرائه التي يبديها في سياق مناقشاته، كتلك الآراء التي قال بها في ردوده على الغزالي من كتاب «تهافت التهافت»، ثم على آرائه في شرحه للمقولات وتفسير لما بعد الطبيعة، وما شابه هذه الآراء في الكتب الأخرى التي يتيسر الوصول إليها.
وبين الفلسفتين: فلسفة ابن رشد كما فهمها الأوروبيون في القرون الوسطى، وفلسفته كما اعتقدها؛ مواضع اختلاف يمس الجوهر أحيانا أو يسمح بتفسير آخر في غير تلك الأحيان. •••
لخص الأستاذ موريس دي ولف آراء ابن رشد في كتابه عن تاريخ فلسفة القرون الوسطى
2
فقال: «كانت إسبانيا في القرن العاشر ملتقى أجناس كثيرة مختلفة أشد اختلاف؛ فكان اليهود والمسيحيون في دول المسلمين يعيشون جنبا إلى جنب مع العرب ... وساعد هذا على جعل إسبانيا مركزا لحركة فلسفية قوية إلى القرن الثالث عشر.
ويرجع أصل الفلسفة العربية الإسبانية إلى القرن التاسع حين جدد ابن مسرة آراء أمبدوقليس المزعومة، ونجد في القرن الحادي عشر اسمي ابن حزم القرطبي وابن باجة السرقسطي ... وكان الأخير مؤلف كتب في المنطق، ورسالة في النفس وشروح عدة لأرسطو، وكتاب عن هداية المتوحد يصور درجات الاتصال عند المتصوفة، ونجد كذلك اسم ابن الطفيل وعنده مثل هذه الميول الصوفية.
ولكن أحدا من هؤلاء الفلاسفة لم يبلغ مبلغ ابن رشد في ذيوع الصيت ... ولم يكن لإعجابه بأرسطو حد ... ولكن لا يفهم من هذا أن فلسفته إنما هي نسخة من الفلسفة الأرسطية.
ويمكننا أن نقسم شروح أرسطو التي تركها ابن رشد إلى ثلاثة أقسام: الشروح الكبرى، والشروح الصغرى، والمختصرات أو المقتبسات، فالشروح الكبرى تتابع الأصل متابعة دقيقة ثم تشفعها بالتفسير المستفيض، والشروح الأخرى أكثر تركيزا وتنظيما في معالجة الموضوعات وترتيبها، وتورد عليها مناقشات وإضافات شخصية لا يسهل استخراج الآراء المنسوبة إلى أرسطو من خلالها، وإنما يتبع ابن رشد فيلسوف استاجيرة بغاية الدقة في المنطق وحده.»
ثم استطرد المؤلف إلى تلخيص فلسفة ابن رشد بعد بيان كتبه التي كانت متداولة بين قراء اللاتينية، فقال:
إن وجود الكائن الأعلى - الله - هو موضوع فلسفة ما بعد الطبيعة، وإثبات وجوده قائم بالبراهين الفعلية، وهو الذي تصدر عنه العقول منذ الأزل، وكل موجود غير الله لا يفسر وجوده بغير عمل خالق، فليست العقول صادرة على التتابع واحدا بعد الآخر على حسب مذهب ابن سينا، بل هي من خلق الله أصلا، وإنما يأتي تعددها من أنها لا تتساوى في الكمال والصفاء، وهي في الخارج متصلة بالأفلاك، فالسماوات جملة من الأفلاك كل منها له صورة
3
من أحد العقول، والمحرك الأول يحرك الفلك الأول، وهذا يحرك الأفلاك الأخرى إلى القمر الذي يحركه العقل الإنساني؛ لأنه يتصل بمداركنا ومعقولاتنا وله عمل على اتصال بما فوق الطبيعة كما في مذهب ابن سينا.
والمادة قديمة مع الله؛ لأن العدم لا يتعلق به عمل خالق ... وهي عاجزة عن العمل، ولكنها ليست خواء تناط به الصور كما في مذهب الأفلاطونية الحديثة، بل هي قابلية عامة تشتمل على الصور المحتلفة، ومع حضور هذه المادة القديمة يخرج منها الخالق قواها العاملة، وينشأ العالم المادي من أثر هذا الخلق الدائم، ولا بد من تتابع هذه الحركات بلا بداية ولا نهاية.
والعقل الإنساني - وهو آخر سلسلة الأفلاك - هو صورة غير مادية، أبدية، منفصل من الآحاد، متحد في جملته، وهذا العقل هو العقل الفعال والعقل الهيولاني أو العقل الممكن معا. والعقل الإنساني في أفراد النوع البشري جميعا واحد لا ينفصل بانفصال الأشخاص، ولا يتغير بتغير الذات
Objective ، وهو النور الذي يضيء النفوس البشرية ويكفل للبشر مشاركة لا تتبدل في الحقائق الأبدية.
والمعرفة العقلية
4
في الإنسان الفرد تجري على النحو الآتي: فالعقل بتأثيره في أشكال الحواس التي تخص كل إنسان يتصل بذلك الإنسان حسب استعداده من غير أن يلحقه نقص بهذه الصلات المتعددة، وأول درجة من درجات هذا التعقل تحدث في الإنسان ما يسمى بالعقل المكتسب، وبه يشترك العقل الخاص المنفصل في مدركات العقل العام المتحد، وهناك اتصالات أخرى بين عقل الإنسان والعقل العام، وهي الاتصالات التي تأتي من إدراك الماهيات المفارقة، وأعلاها وأرفعها ما يأتي من المعرفة اللدنية ووحي النبوة.
ويستتبع هذا القول أن الحياة بعد الموت عامة غير شخصية، ويفنى كل شيء في الإنسان إلا عقله الذي ليس هو بجوهر مستقل، بل هو عقل النوع البشري كله، عام في جميع آحاده.
وكثير من آراء ابن رشد يخالف المعتقدات الإسلامية، والواقع أنه نبذ لأن الخليفة اتهمه بانحلال العقيدة ... على أنه لم يكن جاحدا منكرا للدين، بل عنده أن الدين يصور الحقائق الفلسفية على أسلوب المجاز، وهو يميز بين التفسير الحرفي لنصوص القرآن وبين معانيها التي يدركها الحكماء ويرتفعون بها وحدها إلى الحقائق العليا، ومن واجب الفلسفة أن تنظر فيما هو من تقليد الدين، وما هو من القضايا التي تحتمل التفسير، وعلى أي وجه يكون تفسيرها. وقد تسنى لابن رشد على هذه القاعدة أن يوفق بين القول بحدوث العالم على مذهب الغزالي، والقول بقدمه على مذهب المشائين، وله رسالة خاصة يحاول بها هذا التوفيق، وفيها أول إيحاء بمذهب الحقيقة المزدوجة التي توسع فيها الرشديون اللاتين فأفرطوا في تطبيقه. •••
وهذا تلخيص أمين لفلسفة ابن رشد كما فهمها الأوروبيون في القرون الوسطى، لخصه عالم بالمصادر من المخطوطات والمطبوعات، وجاء فيه بما شغل القوم من تلك الفلسفة عدة قرون، ولم يهمل فيه إلا مسألتين، هما: مسألة علم الله بالجزئيات، ومسألة صفات الله. أما مسألة علم الله بالجزئيات فلعله أهملها لأنها لم تكن أصيلة في فلسفة ابن رشد، وأما مسألة صفات الله، فلعل الأوروبيين في القرون الوسطى أهملوها لأن إيمان العالم المسيحي بالأقانيم الثلاثة في إله واحد لم يجعل تعدد الصفات مشكلة لاهوتية لها من الشأن ما كان لهذه المسألة عند المتكلمين والمعتزلة من المسلمين، وابن رشد لم يطلع على كتب المعتزلة كما قال في كتابه عن منهاج الأدلة، فمن ثم لم يتوسع في هذا الموضوع.
وأصاب مؤلف تاريخ الفلسفة في القرون الوسطى حين قال: إن فلسفة ابن رشد كانت تخالف في بعض مسائلها ما عليه جمهرة الفقهاء من المسلمين، وقد حصر الإمام الغزالي في آخر كتابه «تهافت الفلاسفة» أهم المسائل التي دار عليها الخلاف بين الفقهاء والفلاسفة وقيل فيها بتكفير هؤلاء، وهي ثلاث مسائل: إحداها مسألة قدم العالم وأن الجواهر كلها قديمة، وقولهم إن الله لا يحيط علما بالجزئيات الحادثة من الأشخاص، والثالثة إنكارهم بعث الأجساد وحشرها.
وقبل تلخيص مذهب ابن رشد في كل مسألة من هذه المسائل الثلاث نجمل آراء الفلاسفة الإلهيين فيها، ونعني بهم الفلاسفة الذين يؤمنون بوجود الإله تمييزا لهم من الفلاسفة الماديين من الأقدمين والمحدثين.
فالفلاسفة الإلهيون الذين قالوا بقدم العالم - وعلى رأسهم أرسطو - لم يكن منهم أحد قط يقول بقدم العالم ويعني بذلك أن وجود العالم مساو لوجود الله، وإنما يقولون إن وجود العالم متعلق بإرادة الله، وإرادة الله قديمة لا تراخي لما تريده، وإن العالم لم يسبقه زمان؛ لأن الزمان من حركته.
أما علم الله بالجزئيات، فلم يوجد فيلسوف إلهي قط ينكر إحاطة الله - سبحانه وتعالى - بالجزئيات أو الكليات، وإنما ينزهون علم الله أن يكون كعلم الإنسان؛ فإن علم الإنسان تابع للأشياء التي يعلمها، وهو يعلمها جزءا جزءا ثم يحكم عليها جملة، ويستخرج من علم الجزئيات علمه بالكليات.
والفلاسفة ينزهون علم الله أن يكون كهذا العلم، ويقولون إن الله محيط بالجزئيات قبل وقوعها، على نحو أشرف وأكمل من العلم الذي يتاح للإنسان ويكون في كل حال تابعا لما يعلمه متوقفا عليه.
أما البعث، فإن الفلاسفة الماديين لا يؤمنون ببعث الأجساد ولا ببعث النفوس، وليس من الفلاسفة الإلهيين من ينكر بعث الأجساد إنكارا منه لقدرة الله على بعثها، ولكنهم يقولون إن الأرواح المفارقة أشبه بالعالم الأعلى، ومن آمن بالله وآمن بقدرة الله وآمن بالبعث فما هو من الملحدين.
وأما مسألة الصفات التي لم يذكرها الغزالي مع تلك المسائل الثلاث، فلم تكن موضوع بحث عند الفلاسفة الإغريق، ولم يكن لها شأن كبير عند فلاسفة الأوروبيين في القرون الوسطى، ولكنها أثارت الجدل الطويل بين علماء الكلام والمعتزلة والفلاسفة من المسلمين، ومثار الجدل فيها أن بعض الفلاسفة يقولون: إن صفات الله هي غير ذاته، وإن الصفات ليست بزائدة على ذات الله؛ لأن ذاته - سبحانه وتعالى - كاملة لا تتعدد، وغير هؤلاء الفلاسفة يردون عليهم ليوافقوا بين تعدد الصفات ووحدانية الله.
وقد كانت لابن رشد آراء في كل مسألة من هذه المسائل، ليست مطابقة كل المطابقة لما فهمه الأوروبيون في القرون الوسطى، وليست مغايرة لها كل المغايرة، ولكنها آراء كان الفيلسوف حريصا جد الحرص على أن يلتزم بها حدود دينه، ولا يخرج بها عما يجوز للمسلم أن يعتقده وأن يعلمه للمسلمين، وسنرى مبلغ ما أصابه من التوفيق في هذا المجال، وهذه هي خلاصة آرائه في هذه المسائل وفي غيرها من مسائل الحكمة والعقيدة، معتمدين فيها على نصوصه العربية التي بين أيدينا، غير معولين فيها على مصدر من المصادر الأجنبية.
قدم العالم
يقول ابن رشد عن قدم العالم في كتابه «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»: «وأما مسألة قدمه أو حدوثه، فإن الاختلاف فيها عندي بين المتكلمين من الأشعرية وبين الحكماء المتقدمين يكاد يكون راجعا للاختلاف في التسمية، وبخاصة عند بعض القدماء؛ وذلك أنهم اتفقوا على أن هاهنا ثلاثة أصناف من الموجودات: طرفان وواسطة بين الطرفين، فاتفقوا في تسمية الطرفين واختلفوا في الواسطة.
فأما الطرف الواحد فهو موجود وجد من شيء غيره، وعن شيء أعني عن سبب فاعل ومن مادة، والزمان متقدم عليه ... وهذه هي حال الأجسام التي يدرك تكونها بالحس، مثل تكون الماء والهواء والأرض والحيوان والنبات وغير ذلك، فهذا الصنف من الأصناف اتفق الجميع من القدماء والأشعريين على تسميتها محدثة (هكذا).
وأما الطرف المقابل لهذا فهو موجود لم يكن من شيء، ولا عن شيء ولا تقدمه زمان، وهذا أيضا اتفق الجميع من الفرقتين على تسميته قديما، وهذا الموجود يدرك بالبرهان، وهو الله تبارك وتعالى، وهو فاعل الكل وموجده، والحافظ له سبحانه وتعالى قدره.
وأما الصنف من الوجود الذي بين هذين الطرفين، فهو موجود لم يكن من شيء ولا تقدمه زمان، ولكن موجود عن شيء أي عن فاعل، وهذا هو العالم بأسره ، والكل منهم متفق على وجود هذه الصفات الثلاث للعالم، فإن المتكلمين يسلمون أن الزمان غير متقدم عليه أو يلزمهم ذلك؛ إذ الزمان عندهم شيء مقارن للحركات والأجسام.
وهم أيضا متفقون مع القدماء على أن الزمان المستقبل غير متناه، وكذلك الوجود المستقبل، وإنما يختلفون في الزمان الماضي والوجود الماضي؛ فالمتكلمون يرون أنه متناه، وهذا هو مذهب أفلاطون وشيعته، وأرسطو وفرقته يرون أنه غير متناه كالحال في المستقبل، فهذا الموجود الآخر الأمر فيه بين؛ إنه قد أخذ شبها من الوجود الكائن الحقيقي ومن الوجود القديم، فمن غلب عليه ما فيه من شبه القديم على ما فيه من شبه المحدث سماه قديما، ومن غلب عليه ما فيه من شبه المحدث سماه محدثا.
وهو في الحقيقة ليس محدثا حقيقيا ولا قديما حقيقيا؛ فإن المحدث الحقيقي فاسد ضرورة، والقديم الحقيقي ليس له علة. ومنهم من سماه محدثا أزليا وهو أفلاطون وشيعته؛ لكون الزمان متناهيا عندهم من الماضي.
فالمذاهب في العالم ليست تتباعد كل التباعد حتى يكفر بعضها ولا يكفر، فإن الآراء التي من شأنها هذا يجب أن تكون في الغاية من التباعد ... ... وإن ظاهر الشرع إذا تصفح ظهر من الآيات الواردة في الأنباء عن إيجاد العالم أن صورته محدثة بالحقيقة، وأن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين - أعني غير منقطع - وذلك أن قوله تعالى:
وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء
يقتضي بظاهره وجودا قبل هذا الوجود، وهو العرش والماء، وزمانا قبل هذا الزمان - أعني المقترن بصورة هذا الوجود الذي هو عدد حركة الفلك. وقوله تعالى:
يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات
يقتضي أيضا وجودا ثانيا بعد هذا الوجود، وقوله تعالى:
ثم استوى إلى السماء وهي دخان
يقتضي بظاهره أن السماء خلقت من شيء.
والمتكلمون ليسوا في قولهم أيضا في العالم على ظاهر الشرع بل متأولون؛ فإنه ليس في الشرع أن الله كان موجودا مع العدم المحض، ولا يوجد هذا فيه نصا أبدا، فكيف يتصور في تأويل المتكلمين في هذه الآيات أن الإجماع منعقد عليه ...»
5
وقد تناول الغزالي هذه المسألة في تهافت الفلاسفة، فقال إن وجود الزمان قبل وجود العالم غير لازم، «ولو كان الله ولا عيسى مثلا، ثم كان الله وعيسى لم يتضمن اللفظ إلا وجود ذات وعدم ذات، ثم وجود ذاتين، وليس من ضرورة ذلك تقدير شيء ثالث وهو الزمان».
فأجابه ابن رشد، فقال: «صحيح، إلا أنه يجب أن يكون تأخره عنه ليس تأخرا زمانيا.»
إلى أن قال: «وهذا كله ليس يبين هاهنا ببرهان، وإنما الذي يتبين هاهنا أن المعاندة غير صحيحة.»
ونرى أن ابن رشد يقول هنا إن المسألة غير برهانية، ولكن فلاسفة الأوروبيين في القرون الوسطى يعيدون هذا القول ويحسبونه ردا عليه، كما فعل القديس توما الإكويني
6
في الفصل الذي عقده على مبادئ الخليقة من كتابه مجمل اللاهوت
The Summa Theologiea
فإنه ذكر قول أرسطو في قدم العالم، ثم أشار إلى كلام له في كتاب الجدل، فقال: «والوجه الثالث - أي من وجوه الرد على قدم العالم - أنه قال صريحا: إن ثمة مسائل جدلية لا يتأتى حلها بالبرهان كمسألة قدم العالم.»
وقد ردد ابن رشد نقده لبراهين معارضيه فقال: «إن الطرق التي سلك هؤلاء القوم في حدوث العالم قد جمعت بين هذين الوصفين معا، أعني أن الجمهور ليس في طباعهم قبولها، ولا هي مع هذا برهانية؛ فليست تصح لا للعلماء ولا للجمهور.»
7
وتناول في كتابه «منهاج الأدلة» هذا المبحث من رسالة أبي المعالي الموسومة بالنظامية، حيث يقول أبو المعالي: «... إن العالم بجميع ما فيه جائز أن يكون على مقابل ما هو عليه حتى يكون من الجائز مثلا أصغر مما هو، وأكبر مما هو، أو بشكل آخر غير الذي هو عليه، أو عدد أجسامه غير العدد الذي هو عليه، أو تكون حركة كل متحرك منها إلى جهة ضد الجهة التي يتحرك إليها، حتى يمكن في الحجر أن يتحرك إلى فوق، وفي النار إلى أسفل ... وإن الجائز محدث وله محدث، أي: فاعل صيره بإحدى الحالتين.»
فأجاب ابن رشد على هذا بما فحواه أن المصنوع لحكمة إنما يكون على الوجه الذي يحقق تلك الحكمة، ولا يكون عبثا - تنزه الخالق عن العبث - ثم قال: إن «ما يعرض للإنسان في أول الأمر عند النظر في هذه الأشياء شبيه بما يعرض لمن ينظر في أجزاء المصنوعات من غير أن يكون من أهل تلك الصنائع، وذلك أن الذي هذا شأنه قد سبق إلى ظنه أن كل ما في تلك المصنوعات أو جلها ممكن أن يكون بخلاف ما هو عليه، ويوجد عن ذلك المصنوع ذلك الفعل بعينه الذي صنع من أجله - أعني غايته - فلا يكون في ذلك المصنوع عند هذا موضع حكمة، وأما الصانع والذي يشارك الصانع في شيء من علم ذلك، فقد يرى أن الأمر بضد ذلك، وأنه ليس في المصنوع إلا شيء واجب ضروري، أو ليكون به المصنوع أتم وأفضل إن لم يكن ضروريا فيه، وهذا هو معنى الصناعة والظاهرات المخلوقات شبيهة في هذا المعنى بالمصنوع، فسبحان الخلاق العظيم».
8
وواضح من مذهب ابن رشد في جميع كتبه أنه لا خلاف في خلق الله للعالم، ولكن الخلاف في سبق الزمان للعالم، أو أن الزمان والعالم وجدا معا، وعند ابن رشد أن العالم قديم؛ لأنه موجود بمشيئة الله ولا راد لمشيئته، وليس لها ابتداء.
وموضع اللبس في مذهب ابن رشد أنه لم يفرق بين الزمان والأبدية، وهما مختلفان.
فالزمان لا يتصور إلا مع الحركة، والأبدية لا تتصور مع الحركة بحال من الأحوال؛ إذ الكائن الأبدي لا يتحرك من مكان إلى مكان ولا من زمان إلى زمان، وليس قبله شيء ولا بعده شيء فيتحرك مما قبله إلى ما بعده.
ومذهب أفلاطون في الزمان أصح من مذهب معارضيه؛ فإنه يرى أن الزمان محاكاة للأبدية، أنعم الله به على الموجودات؛ لأنها لا تستطيع أن تشبه الله في صفة الدوام بلا ابتداء ولا انتهاء، وكلام الإمام الغزالي حين قال إن وجود العالم بعد وجود الله لا يقتضي وجود الزمان بينهما غاية في الدقة؛ فإن هاهنا ذاتين فقط، ولا محل لفرض وجود الزمان بين الوجود الأول والوجود الثاني، وإنما هو - كما قال - من أغاليط الأوهام.
علم الله بالجزئيات
أما القول بأن الله لا يعلم الجزئيات، فلم يحفل ابن رشد به كثيرا؛ لأن هذا القول «ليس من قولهم» - أي الفلاسفة - كما قال في آخر كتاب «تهافت التهافت»، وعرض لهذه المسألة في كتاب «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»، فقال: «إن أبا حامد - أي الغزالي - قد غلط على الحكماء المشائين فيما نسب إليهم من أنهم يقولون إنه - تقدس وتعالى - لا يعلم الجزئيات أصلا، بل يرون أن الله - سبحانه وتعالى - يعلمها بعلم غير مجانس لعلمنا؛ وذلك أن علمنا معلول للمعلوم به، فهو محدث بحدوثه ومتغير بتغيره، وعلم الله سبحانه بالوجود على مقابل هذا، فإنه علة للمعلوم الذي هو الموجود ... وكيف يتوهم على المشائين أنهم يقولون إنه سبحانه لا يعلم بالعلم القديم الجزئيات، وهم يرون أن الرؤيا الصادقة تتضمن الإنذارات بالجزئيات الحادثة في الزمان المستقبل، وأن ذلك العلم المنذر يحصل للإنسان في النوم من قبل العلم الأزلي المدبر للكل والمستولي عليه. وليس يرون أنه لا يعلم الجزئيات فقط على النحو الذي نعلمه نحن بل ولا الكليات، فإن الكليات المعلومة عندنا معلولة أيضا على طبيعة الموجود، والأمر في ذلك بالعكس؛ ولذلك ما قد أدى إليه البرهان أن ذلك العلم منزه عن أن يوصف بكلي أو بجزئي، فلا معنى للاختلاف في هذه المسألة، أعني في تكفيرهم أو لا تكفيرهم ...»
9
وواقع الأمر أن مذاهب الفلاسفة الإلهيين لم يرد فيها قط ما يدعو إلى هذه الشبهة، وأن ابن رشد على الخصوص كان في طليعة القوم تنزيها لعلم الله، بل إنه قال في غير موضع من كتبه: إن علم البرهان نفسه إنما هو من وحي الله.
خلود النفس
ولتمحيص القول بخلود النفس عند ابن رشد ينبغي الرجوع إلى مذهب أرسطو في النفس والعقل؛ لأنه إذا صح ما قيل من أن توما الإكويني نصر أرسطو، فأصح من ذلك أن ابن رشد حنفه - أي: جعله مسلما حنيفا - واجتهد في تنقيته من كل ما يخالف العقيدة الإسلامية غاية اجتهاده.
وقد أعان ابن رشد على ذلك أن كلمة الروح عندنا تشمل معنى النفس والعقل معا في معظم معانيها، فالنفس تقرن بالشر والذنب في كلامنا، وقلما تقرن الروح بمثل ذلك، فإذا قيل نفس شريرة على العموم، فمن النادر أن يقال ذلك عن الروح وعن الروحاني؛ لأن الروحانيات أشرف وأصفى من ذاك.
وقد تكلم أرسطو عن النفس والعقل في كتاب الأخلاق وفي كتاب النفس، ووضح في كلامه عن العقل أنه ينطبق أيضا على الروح كما قال في كتاب الأخلاق عن السعادة العليا للإنسان وهي سعادة التأمل، ثم قال: «مثل هذه الحياة ربما كانت أرفع جدا مما يستطيعه الإنسان؛ لأنه لا يحيا هذه الحياة باعتباره إنسانا، بل يحياها بمقدار ما فيه من النفحة الإلهية، والفرق بين هذه النفحة الإلهية وبين تركيبنا الطبيعي كالفرق بين عمل ذلك الجانب الإلهي وعمل الفضائل الأخرى، وإذا كان العقل إلهيا فالحياة على مثاله إلهية بالنسبة إلى المعيشة الإنسانية. وعلينا ألا نتبع أولئك الذين ينصحون لنا ما دمنا بشرا أن نشتغل بهموم البشر، وما دمنا فانين أن نعمل عمل الفانين، بل علينا ما استطعنا أن نعمل عمل الخالدين، وأن نحفز كل عرق من عروقنا حتى نسمو إلى مرتبة أرفع ما فينا - وإن قل وصغر - لأقدر وأكمل من كل شيء عداه.»
10
أما النفس عند أرسطو فتكاد أن تكون في أكثر مصطلحاته مرادفة للوظيفة الحيوية؛ ولهذا ينسب إلى النبات نفسا نامية، وإلى الحيوان نفسا شهوانية، ويسخر من فيثاغوراس الذي يقول إن نفس الإنسان قد تنتقل إلى الحيوان، ويرى أن السؤال عن العلاقة بين النفس والجسد كالسؤال عن العلاقة بين الشمعة وصورتها؛ فلولا صورة الشمعة لكانت شحما ودهنا ولم تكن شمعة، ولولا نفس الإنسان لكان الإنسان لحما وعظاما وعصبا ولم يكن بالإنسان.
وعنده أن النفس جوهر بالمعنى الذي يقابل «الماهية» التي تميز الشيء من غيره.
وبعد أن بسط القول في خصائص النفس في كتابه عنها تكلم عن العقل، فقال: إنه أعلى من النفس ، وإنه على ما يبدو له «جوهر مستقل مودع في النفس وغير قابل للفناء».
ثم قال: «وليس لدينا بعد بينة في أمر العقل والملكة المدركة، ويبدو أن العقل نفس - أو روح - مختلفة تماما كاختلاف ما هو باق دائم وما هو زائل فان، وهي وحدها صالحة للوجود بمعزل عن سائر القوى النفسانية، وكل ما عداها من الأجزاء النفسية فظاهر مما أسلفناه أنه غير قابل للوجود المنفصل خلافا لما يقول به كثيرون.»
ودليل أرسطو على بقاء العقل وصلاحه للوجود المنفصل أن الحقيقة العقلية لا تتوقف على الأشخاص، ولا تنقص بنقص هذا الشخص أو ذاك، فهي مستقلة منزهة عن الفناء الذي يصيب الأشخاص.
أما ابن رشد فنحن نورد كلامه هنا في مواضع مختلفة، ثم نعقب عليه بالخلاصة التي تستفاد منه في جملته.
نقل في كتابه «تهافت التهافت» كلام الغزالي في الرد على القائلين بفناء النفس، فقال: «ما قاله هذا الرجل في معاندتهم هو جيد، ولا بد في معاندتهم أن توضع النفس غير مائتة كما دلت عليه الدلائل العقلية والشرعية، وأن يوضع أن التي تعود هي أمثال هذه الأجسام التي كانت في هذه الدار لا هي بعينها ... وذلك أن ما عدم ثم وجد فإنه واحد بالنوع لا واحد بالعدد.»
وقال قبل ذلك بقليل عن وصف العالم الآخر كما يدركه جمهور الناس: «... تمثيل المعاد لهم بالأمور الجسمانية أفضل من تمثيله بالأمور الروحانية، كما قال سبحانه:
مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار ، وقال النبي عليه السلام: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر بخاطر بشر.» وقال ابن عباس: (ليس في الدنيا من الآخرة إلا الأسماء).»
وأشار قبل ذلك إلى قول أرسطو إن الشيخ لو كان له عين كعين الشاب لأبصر كما يبصر الشاب، وإن هذا قد يكون معناه أن قوة النظر ضعفت هنا لضعف الآلة لا لضعف القوة النفسية. ثم قال: «ويستدل على ذلك ببطلان الآلة أو أكثر أجزائها في النوم والإغماء والسكر والأمراض التي يبطل فيها إدراكات الحواس، فإنه لا يشك أن القوى ليس تبطل في هذه الأحوال، وهذا يظهر أكثر في الحيوانات التي إذا فصلت بنصفين تعيش، وأكثر النبات هو بهذه الصفة مع أنه ليس فيه قوة مدركة. فالكلام في أمر النفس غامض جدا، وإنما اختص الله به من الناس العلماء الراسخين في العلم؛ ولذلك قال سبحانه مجيبا في هذه المسألة للجمهور عندما سألوه بأن هذا الطور من السؤال ليس هو من أطوارهم في قوله سبحانه:
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ، وتشبيه الموت بالنوم في هذا المعنى فيه استدلال ظاهر في بقاء النفس من قبل أن النفس يبطل فيها فعلها في النوم ببطلان آلتها ولا تبطل هي، فيجب أن يكون حالها في الموت كحالها في النوم؛ لأن حكم الأجزاء واحد، وهو دليل مشترك للجميع لائق بالجمهور في اعتقاد الحق، ومنبه للعلماء على السبيل التي منها يوقف على بقاء النفس، وذلك بين من قوله سبحانه:
الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها .»
وقد كرر ابن رشد قوله بغموض مسألة الروح في كتابه «فصل المقال» وعاب قوما متفلسفين في زمانه حيث يقول: «شهدنا منهم أقواما ظنوا أنهم تفلسفوا وأنهم قد أدركوا بحكمتهم العجيبة أشياء مخالفة للشرع من جميع الوجوه - أعني لا تقبل تأويلا - وأن الواجب هو التصريح بهذه الأشياء للجمهور، فصاروا بتصريحهم للجمهور بتلك الاعتقادات الفاسدة سببا لهلاك الجمهور وهلاكهم في الدنيا والآخرة.»
وقال ابن رشد في كتاب «تهافت التهافت» يرد على الغزالي حيث ينفي أن الواحد لا تأتي منه الكثرة: «إن هاهنا من الخيرات خيرات ليس يمكن أن توجد إلا يشوبها شر، كالحال في وجود الإنسان الذي هو مركب من نفس ناطقة ونفس بهيمية.»
وقال في «تهافت التهافت» أيضا: «الفاعل المطلق ليس يصدر عنه إلا فعل مطلق، والفعل المطلق ليس يختص بمفعول دون مفعول، وبهذا استدل أرسطاطاليس على أن الفاعل للمعقولات الإنسانية عقل متبرئ عن المادة - أعني من كونه يعقل كل شيء - وكذلك استدل على العقل المنفعل أنه لا كائن ولا فاسد من قبل أنه يعقل كل شيء.»
أما كثرة العقول المفارقة - أي المجردة في اصطلاح عصرنا - فتعليلها كما قال في هذا الكتاب أنه «يشبه أن يكون السبب في كثرة العقول المفارقة اختلاف طبائعها القابلة فيما تعقل من المبدأ الأول، وفيما تستفيد منه الوحدانية الذي هو فعل واحد في نفسه كثير بكثرة القوابل له، كالحال في الرئيس الذي تحت يده رئاسات كثيرة، وهذا يفحص عنه في غير هذا الموضع، فإن تبين شيء منه وإلا رجع إلى الوحي ...»
أما الوحي فقد قال فيه: «إن الذي يقول به القدماء في أمر الوحي والرؤيا إنما هو عن الله - تبارك وتعالى - بتوسط موجود روحاني ليس بجسم، وهو واهب العقل الإنساني عندهم، وهو الذي تسميه الحدث منهم العقل الفعال، ويسمى في الشريعة ملكا.»
وقال كذلك ناقلا عن الفلاسفة: «معنى ما حكاه عن الفلاسفة من هذا الدليل هو أن العقل يدرك من الأشخاص المتفقة في النوع معنى واحدا تشترك فيه، وهي ماهية ذلك النوع، من غير أن ينقسم ذلك المعنى بما تنقسم به الأشخاص من حيث هي أشخاص من المكان والوضع والمواد التي من قبلها تكثرت، فيجب أن يكون هذا المعنى غير كائن ولا فاسد ولا ذاهب بذهاب شخص من الأشخاص التي يوجد فيها هذا المعنى؛ ولهذا كانت العلوم أزلية غير كائنة ولا فاسدة إلا بالعرض، أي من قبل اتصالها بزيد وعمرو ... قالوا: وإذا تقرر هذا من أمر العقل وكان في النفس، وجب أن تكون النفس غير منقسمة بانقسام الأشخاص، وأن تكون أيضا معنى واحدا في زيد وعمرو، وهذا الدليل في العقل قوي؛ لأن العقل ليس فيه من معنى الشخصية شيء، وأما النفس فإنها وإن كانت مجردة من الأعراض التي تعددت بها الأشخاص، فإن المشاهير من الأشخاص يقولون: ليس تخرج من طبيعة الشخص وإن كانت مدركة، والنظر هو في هذا الموضع.»
قال هذا ناقلا عن الفلاسفة، وقال إنه موضع نظر؛ لأنه ووجه بالحجة القوية من قبل الغزالي كعادته في قوة البرهان؛ حيث قابل بين اتفاق العقول في الفهم واتفاق الحاسة الواحدة في الرؤية عشرات المرات، فقال: إن وحدة الرؤية بين الحواس لا تدل على أن العين واحدة في جميع الناس.
وعرض للكلام عن العقل الهيولاني - وهو العقل الذي يرى المتأخرون من أتباع أفلوطين أنه يقبل الصور كما تقبلها الهيولى، وينسبونه إلى الهيولى والمادة الأولى من أجل ذلك - فقال: «إن العقل الهيولاني يعقل أشياء لا نهاية لها في المعقول الواحد، وما جوهره هذا الجوهر فهو غير هيولاني أصلا؛ ولذلك يحمد أرسطو أنكساغوراس في وضعه المحرك الأول عقلا أي صورة بريئة من الهيولى، ولذلك لا ينفعل عن شيء من الموجودات؛ لأن سبب الانفعال هو الهيولى، والأمر في هذا في القوى القابلة كالأمر في القوى الفاعلة؛ لأن القوى القابلة ذوات المواد هي التي تقبل أشياء محدودة.»
ورد على قول الغزالي إن الفلاسفة ينكرون حشر الأجساد، فقال: «هذا شيء ما وجد لواحد ممن تقدم فيه قول ... وإن الشرائع كلها اتفقت على وجود أخروي بعد الموت وإن اختلفت في صفة ذلك الوجود ... وكذلك هي متفقة في الأفعال التي توصل إلى السعادة التي في الدار الآخرة، وإن اختلفت في تقدير هذه الأفعال، فهي بالجملة لما كانت تنحو نحو الحكمة بطريق مشترك للجميع كانت واجبة عندهم؛ لأن الفلسفة إنما تنحو نحو تعريف سعادة بعض الناس العقلية، وهو من شأنه أن يتعلم الحكمة، والشرائع تقصد تعليم الجمهور عامة، ومع هذا فلا نجد شريعة من الشرائع إلا وقد نبهت بما يخص الحكماء وعنيت بما يشترك فيه الجمهور ... «وكل» مناقض للأنبياء - صلوات الله عليهم - وصاد عن سبيلهم فإنه أحق الناس بأن ينطلق عليه اسم الكفر، ويوجب له في الملة التي نشأ عليها عقوبة الكفر.» •••
ويؤخذ مما تقدم من كلام ابن رشد وما نقله عن الفلاسفة غير معقب عليه بنفي أو مناقضة؛ أنه كان يؤمن بأن النفس الناطقة جوهر مجرد لا يقبل الفناء، وأن لها سعادة في المعاد تشبه سعادة الفناء في الله التي يؤمن بها الصوفية، أما النفس الحيوانية فهي متعلقة بحياة الإنسان في هذه الدنيا، وليست هي محل العقل والروح، ويؤمن بعد هذا بأن الروح من أمر الله، فلا يجب الخوض في الكلام عنها بما يخالف الوحي ويناقض الأنبياء.
وابن رشد يرى أن العقل المفارق - أي المجرد - لا يفعل في المادة ولا ينفعل بها، ولكن هناك عقلا متوسطا بين نفس الإنسان وبين العقل الفعال هو واسطة الاتصال، ومنه يتلقى الإنسان فهم المعاني المجردة أو الصور المفارقة، وهذا العقل المتوسط هو الذي يسمى بالعقل الهيولاني؛ لأنه قابل للصور مثل الهيولى. •••
تلك هي المسائل الكبرى التي أثارت الجدل في عصر ابن رشد وفيما تلاه من القرون الوسطى، وهي: مسألة قدم العالم، ومسألة علم الله بالجزئيات، ومسألة النفس وبقائها.
وثمة مسألتان أخريان ثار حولهما شيء من الجدل، ولكنه لم يبلغ هذا المبلغ من العنف وطول الأمد، وهما: مسألة الصفات الإلهية، ومسألة الحقيقتين.
وقد أسلفنا أن مسألة الصفات الإلهية لم تكن مشكلة عسيرة في العالم المسيحي إلى جانب البحث في الأقانيم الثلاثة، أما عند المتكلمين والمعتزلة وفلاسفة المسلمين فقد كانت مثار خلاف شديد، أكثره فيما نظن راجع إلى أن الصفة باللغة اليونانية واللغة اللاتينية تفيد معنى الشرط أو الخاصة المقومة للموصوف، أو الواسطة التي يعرف بها ما لا يعرف بذاته، خلافا لمعناها العربي الذي لا يفيد شيئا من ذلك.
فليس من العجيب إذن أن تثير عند أهل التوحيد ذلك الخلاف لتمحيص معناها، وتنزيه الوحدانية عن مسألة الصفات رأيا قريبا مما قدمناه في الكلام على العلم بالجزئيات والكليات.
فينبغي على المؤمن الموحد أن يؤمن بصفات الله، وأن يؤمن كذلك بأنها ليست كصفات الإنسان.
فإن الإنسان له قابليات للكرم والحلم والرحمة والعدل وسائر الصفات الحميدة، ولكن القابليات تحتاج إلى من يوجدها ومن يخرجها من القوة إلى الفعل، وهذا إن جاز في حق الإنسان فليس مما يجوز في حق الله.
ومن أمثلة كلامه في هذا المبحث قوله: «أما قوله:
لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، فإن معناه لا يفعل فعلا من أجل أنه واجب عليه أن يفعله؛ لأن من هذا شأنه فيه حاجة إلى ذلك الفعل ... والبارئ سبحانه وتعالى يتنزه عن هذا المعنى، فالإنسان يعدل ليستفيد بالعدل خيرا في نفسه لو لم يعدل لم يوجد له ذلك الخير، وهو سبحانه وتعالى يعدل لا لأن ذاته تستكمل بذلك العدل؛ بل لأن الكمال الذي في ذاته اقتضى أن يعدل، فإذا فهم هذا ظهر أنه لا يتصف بالعدل على الوجه الذي يتصف به الإنسان ...»
11
فلا نكران للصفات، وإنما النكران للمشابهة بين صفات الإنسان وصفات الله، وإنها تشترك في الأسماء كالرحمة والعدل والعفو والكرم، ولكنها لا تشترك في المدلولات.
أما مسألة الحقيقتين، فخلاصتها أن حقيقة الشرع وحقيقة العلم والحكمة شيء واحد يختلف في العبارة ولا يختلف في الجوهر، وقد صرح ابن رشد بأن «الفلسفة تفحص عن كل ما جاء في الشرع، فإن أدركته استوى الإدراكان، وكان ذلك أتم في المعرفة، وإن لم تدركه أعلمت بقصور العقل الإنساني عنه، وأن يدركه الشرع فقط ...»
12
وقد قال ابن رشد في صدر كتابه «فصل المقال»: «إن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها ... والاعتبار ليس شيئا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه، وهذا هو القياس.»
وقال: إن موضوع الفلسفة هو البحث في التوحيد وحكمة الوجود، خلافا لقول ابن سينا إن موضوع الفلسفة هو البحث في «الموجود من حيث هو موجود»، أي: البحث في كنه الوجود.
غير أن ابن رشد يقول إن الوصول إلى المعرفة إن تم لأناس بالكشف والرياضة الصوفية فتلك مزية خاصة وسائلها لا تعم جميع الناس، وإنما معرفة العقل هي المعرفة الإنسانية التي تسمو بالعارفين إلى منزلة الوصول وإدراك الحقائق والماهيات، وهو أعلى ما يقدر للإنسان من مراتب الكمال، وعنده أن البرهان وحي إلهي ولكنه ليس كوحي النبوة؛ إذ كل نبي حكيم، وليس كل حكيم معدودا من الأنبياء. •••
ولم يمض بحث ابن رشد في الحقيقتين صفوا عفوا بغير ضجة في القرون الوسطى؛ لأن الباحثين المتمردين تذرعوا به إلى التفرد بمباحث الفلسفة، وإن خالفت النصوص التي يفسرها آباء الكنيسة على حسب المتواتر عندهم، فجاء زمن كان فيه القول بالحقيقتين من المحرمات أو دلائل الزندقة والهرطقة التي تجر على صاحبها لعنة الحرمان. •••
هذه خلاصة عاجلة لفلسفة ابن رشد فيما بعد الطبيعة وفي طرف من النفسيات، وقد كانت له - كما تقدم - مشاركات في الرياضة والطبيعيات، وكان يقول إن هذه العلوم مما يعين على معرفة الموجد والموجودات. ومن أمثلة كلامه في فضل الرياضة قوله: «... لو فرضنا صناعة الهندسة في وقتنا هذا معدومة، وكذلك صناعة علم الهيئة، ورام إنسان واحد من تلقاء نفسه أن يدرك مقادير الأجرام السماوية وأشكالها وأبعاد بعضها عن بعض لما أمكنه ذلك، مثل أن يعرف قدر الشمس من الأرض وغير ذلك من مقادير الكواكب، ولو كان أذكى الناس طبعا إلا بوحي أو شيء يشبه الوحي، بل لو قيل له إن الشمس أعظم من الأرض بنحو مائة وخمسين ضعفا أو ستين، لعد هذا القول جنونا من قائله ...»
13
وله في المسائل الطبيعية تقريرات نعرض لها فيما سنختاره له من مباحثه الطبية، وكل هذه المعلومات عنده: «حكمة الله تعالى في الموجودات وسنته في المصنوعات ولن تجد لسنة الله تبديلا، وبإدراك هذه الحكمة كان العقل عقلا في الإنسان، ووجودها هكذا في العقل الأزلي كان علة وجودها في الموجودات ...»
14 •••
ونحسب أن إنصاف الحكمة الإنسانية القديمة يتقاضانا هنا أن نعقب على الآراء التي عرضناها بكلمة لعلها لازمة لتقويم الفكر الإنساني في العصر الحاضر وفي كل زمن، ولعلها إنصاف لمداركنا قبل أن تكون إنصافا لمدارك الأقدمين.
فالذين يبسمون سخرية من كلام الأقدمين في العقول المفارقة، عليهم أن يذكروا أننا صنعنا مثل صنعهم، فزعمنا وجود الأثير في الفضاء لنعلل به مسير الشعاع وسريان النور، ولا دليل عليه غير الفرض والتقدير، ولعل سيأتي يوم يبسم فيه الخالفون من فرضنا للأثير كما يبسم بعضنا اليوم من فرض الأقدمين للعقول المفارقة، تفسيرا للصلة بين الكائنات العلوية وبين الموجودات على هذه الغبراء.
والذين يبسمون سخرية من كلام الأقدمين عن سيطرة العقول على الأفلاك، عليهم أن يصطنعوا كثيرا من الأناة والحياء، فإن أقطابا من علماء الرياضة والطبيعة اليوم يقررون أن الموجودات كلها معادلات رياضية في عقل الخالق جل وعلا؛ لأن عناصر المادة كلها تنحل إلى ذرات، والذرات كلها تنحل إلى شعاع، وكل أولئك ليس له من مادة غير النسب والأعداد، وهي في باب التجريد أشد إمعانا من العقول المفارقة التي تصورها الأقدمون.
ولسنا نستبعد أن يعود الخالفون يوما إلى فلاسفة الأقدمين ليتخذوا من تفكيرهم قواعد للإدراك الصحيح في عالم الجواهر والماهيات، أو في عالم الحقائق الأبدية التي لا ينقضي البحث فيها بانقضاء زمانهم وانقضاء هذا الزمان. (3) أثر الفلسفة الرشدية
اشتهر أرسطو بين الأوروبيين في القرون الوسطى باسم الفيلسوف، فإذا ذكر الفيلسوف بغير اسم في كتاب من كتب تلك العصور فأرسطو هو المقصود.
واشتهر ابن رشد باسم الشارح أو المعقب
Commentator
فإذا قيل: الشارح أو المعقب في كلام من كلامهم فابن رشد دون غيره هو المقصود.
وقد عرف ابن رشد متعلمي القوم بالمعلم الأول وهو لا يعرف اليونانية، ولم يكن شيء من كلام أرسطو قد ترجم إلى اللاتينية أو لغة من اللغات الأوروبية قبل عصر ابن رشد غير كتب المنطق، ثم تنبه علماؤهم إلى ترجمته بعد ذيوع اسم ابن رشد، فطلب القديس توما الإكويني من صديقه «وليام مويربك»
Moerbeke
أن ينقل جميع كتبه فنقلها،
15
ولم يظهر بعد نقلها أن ابن رشد قد أخطأ في شيء من لباب الفلسفة، ولم يحصوا عليه غير هفوات من الغلط ببعض الأسماء لتشابه نطقها، وسائر شروحه بعد ذلك لا غبار عليه من جهة المعنى، وقد يقع العارف باليونانية في أخطاء أكثر من الأخطاء التي لوحظت على الفيلسوف القرطبي، ما لم تكن له فطنة كفطنة ذلك الفيلسوف.
وحسب الرجل شهادة لروحه أن الكتب التي نقلت من اليونانية مباشرة لم تغن عنه، فبعد أن حرم أسقف باريس دراسته في جامعتها، وسماه رأس الضلال في منتصف القرن الثالث عشر، عادت هذه الجامعة نفسها بعد قرن فأخذت على أساتذتها المواثيق ألا يعلموا فيها شيئا لا يوافق مذهب أرسطو كما شرحه ابن رشد، وأصبحت كتبه مادة لا تنفد للدرس والمناقشة في البيع
16
والأديرة والجامعات.
وعلى الرغم من تحريم الاشتغال بالدراسات الدنيوية أو العالمية على الرهبان، أقبل على دراسة ابن رشد ومناقشته والاستفادة منه قطبان إمامان في رهبنة الدومينيين ورهبنة الفرنسيسيين، وهما توما الإكويني الذي سبقت الإشارة إليه، وروجرز باكون
17
رائد المدرسة التجريبية التي تممها سميه فرنسيس باكون.
18
وقد كان من الرهبان من يتحدى أوامر رؤسائه ويمضي في دراسة ابن رشد بعد تحريمها، كما فعل سيجر دي برابان (1235-1282)
Siger de Brabant
وكان أستاذا بجامعة باريس، ولم يقلع عن دراستها ونشرها إلا مضطرا بعد صدور الأمر من روما (سنة 1266) بتأييد أسقف باريس في قرار التحريم.
وكانت كتب ابن رشد وشروحه تترجم وتنشر في الجامعات بأمر ملك من الملوك المستنيرين في ذلك الزمن، لم يكن يبالي ما يقال عنه في المجامع الدينية، وهو فردريك الثاني ملك صقلية وحامي العلم والأدب في زمانه (1194-1250)، فإنه كلف العالم الأيقوسي ميخائيل سكوت بترجمة الشروح وأرسلها إلى جامعة بولون وجامعة باريس كأنها مفروضة على طلبة الجامعات.
ولم يبق في القرن الثالث عشر وما بعده أوروبي يشتغل بالثقافة أو يسمع بأحاديثها إلا عرف شيئا عن ابن رشد وأعجب به أو رد عليه، ولو لم يكن من الفلاسفة والمنقطعين للعلوم.
فذكره دانتي الشاعر في الكوميديا الإلهية، وناقشه في مسألة الروح (1265-1321).
وذكره الناسك سفونرولا
Savonarola (1452-1498) وسماه بالعقل الرباني
19
واستهدف للسخط من جراء الثناء عليه.
وما من مدرسة فلسفية نشأت في أوروبا بعد القرن الثالث عشر إلا أمكن أن تنتسب من قريب أو بعيد إلى الثقافة الرشدية، سواء بالاطلاع على تلك الثقافة أو بالاطلاع على تعليقات المعلقين عليها، نقضا واستنكارا أو تأييدا وإعجابا من كلا الطرفين.
فمدرسة الحقيقيين
Realists
ومدرسة الاسميين
Nominalists
إنما هما طرفان في موضوع واحد فتح ابن رشد أبوابه، فلم تزل مفتوحة بعده عدة أجيال، ذلك الموضوع هو النفس الفردية والنفس النوعية، وما يقال عن الوجود الحقيقي في الأشخاص أو في العقول المفارقة.
فالحقيقيون يرون أن النوع هو الوجود الحقيقي الذي يوجد الأشخاص لتمثيله في العالم المحسوس، والاسميون يرون أن وجود النوع إنما هو اسم أو كلمة ما لم يقترن بوجود الأشخاص.
وقد كان اثنان من تلاميذ روجرز باكون - تلميذ الثقافة العربية - يعالجان هذه المسألة من طرفها، وهما سكوتس
Scots (1266-1308) مؤيد القول بحقيقة النوع، وأكهام
Ockham (المتوفى سنة 1349) مؤيد القول لحقيقة الشخص أو الفرد ومسخف القائلين بحقيقة النوع، وحسبك من بعد الأثر الذي أعقبته هذه المناقشة أن لوثر كان يفخر فيقول: أستاذي العزيز أكهام.
وقد دارت بين فلاسفة القرون الوسطى مساجلات مسهبة حول قدرة الله وعلم الله، أو حول الإرادة والفكرة، لا نظن أنها مرت دون أن تدخل في تفكير المطلعين عليها لحينها والمطلعين على حواشيها وذيولها في العصور الحديثة، ومنهم الفيلسوف الألماني الكبير آرثر شوبنهور (1788-1860) صاحب القول بفلسفة الإرادة والفكرة، وأن الرجوع إلى الفكرة هو غاية السعادة التي يرجوها الإنسان؛ لأن الفرد رهن الزوال، ولا بقاء لغير العقل الذي يترفع عن عالم الواقع أو عالم الإرادة.
ويقول النقاد من الإسرائيليين وغيرهم إن سبنوزا الفيلسوف الإسرائيلي الكبير (1632-1677) أخذ من موسى بن ميمون معاصر ابن رشد، وإن موسى بن ميمون أخذ من الفلسفة الرشدية، ولا سيما الإلهيات وما بعد الطبيعة، ويقررون أن أثر الفلسفة الرشدية في مذاهب الفلسفة اليهودية ظاهر كأثرها في مذاهب الفلسفة المسيحية، وإن اختلفوا في المدى والمقدار.
20
ولا نظن أن مذهب ليبنتز
Leibniz (1646-1716) في الممكنات المجتمعة بعيد من مذهب ابن رشد في الممكنات المخلوقة لحكمة إلهية، فخلاصة مذهب ليبنتز أن تغيير ممكن واحد ليس بالمستحيل، ولكن تغيير الممكنات التي يتمم بعضها بعضا ويتعلق بعضها بغرض البعض الآخر هو المستحيل؛ ولهذا كان يقول عن هذه الدنيا إنها أحسن دنيا ممكنة، وهذا بعينه هو كلام ابن رشد حين رد على القائلين بجواز تغيير الممكنات، وإن هذا العالم كله جائز أو غير واجب الوجود فهو قابل للتغيير، فإن جواب ابن رشد على هذا القول كما قدمناه أن المخلوقات التي خلقها الله على صورة من الصور لحكمة يريدها لا يمكن أن تتغير، وإلا كان خلقها على تلك الصورة عبثا، والعبث مستحيل في حق الله.
وللفيلسوف الإنجليزي دافيد هيوم
Hume (1711-1776) كلام عن المعجزات وكلام عن الأسباب قريب جدا من كلام ابن رشد
21
في براهين المعجزات، ومن كلام الغزالي الذي يرد عليه، ومذهب الغزالي في الأسباب معروف، وهو أن السبب على اصطلاحنا في العصر الحاضر «ظاهرة» تقترن بالشيء وليست هي علة وجوده، وهو مذهب يوافق آراء العلماء المحدثين الذي يقررون أن كلمة العلم هي وصف الظواهر المقترنة، وليس من مهمته أن يصل إلى العلل ولا سيما العلة الأولى.
ولدافيد هيوم غير ما تقدم رأي في الشخصية الإنسانية يقارب من بعض الوجوه رأي أرسطو كما جاء في شروح ابن رشد، وكثرت فيه أقوال المؤيدين والمعارضين في القرن الرابع عشر وما بعده إلى أيام هيوم، ومؤدى رأي هيوم هذا في الشخصية الإنسانية أنه يراقب نفسه كثيرا ويتعمق في المراقبة، فلا يحس وراء الانفعالات الحسية والخواطر المنتزعة منها شيئا يدل على كيان مستقل يسمى النفس أو الذات، ويشبه هذا الرأي أن يكون كرأي أرسطو في الشخصية الإنسانية خلوا من العقل الإلهي؛ فإنها عنده جسم له وظائف جسدية أو نفس نامية ونفس شهوانية، ولا حقيقة وراء ذلك إذا استثنينا العقل الذي هو عام غير منقسم ولا منفصل في ذات شخص من الأشخاص.
وأقرب من هيوم إلى عصرنا وليام جيمس إمام مذهب البرجمية (1842-1910) الذي يقول في مبادئ علم النفس:
أعترف بأنني في اللحظة التي أتحول فيها إلى مباحث ما وراء الطبيعة، وأحاول أن أزيد من التعريف، أرى أن القول بضرب من العقل العام
Anima Mundi
يفكر فينا جميعا هو رأي مأمول على الرغم من صعوباته خير من القول بجملة من النفوس الفردية المنقسمة تمام الانقسام.
لا بل عندنا في العصر الحاضر من علماء النفس المشغولين بدراسات النفس الإنسانية وعللها وطباباتها، رجل مثل مايرسون
Myerson
صاحب كتاب «متحدث عن الإنسان»
Speaking of man
يدير كتابه هذا الذي صدر سنة 1952 على دراسات في الشخصية الفردية وفي العقل والنفس والجسم، يخيل إليك - لولا مصطلحاتها العصرية - أنها منسوخة من بعض شروح ابن رشد أو المعقبين عليه.
ومن الفلسفات العصرية كفلسفة الوجودية
Existentialism
ما يكثر فيه الكلام عن الوجود
Essence
والماهية ، وعما يسميه بعضهم وجودا «صادقا»
Being
تمييزا من مطلق الوجود
Existence
فيسبق إلى خاطر المأخوذ بهذه المصطلحات لأول وهلة أنها بدعة من بدع أوروبا الحديثة، ما هي في الواقع إلا تكرير لمصطلحات قديمة وضعت في غير موضعها، وهذا مثال لما جاء منها في كتاب التهافت لابن رشد حيث يقول: ... إن لفظ الوجود يقال على معنيين: أحدهما ما يدل عليه الصادق، مثل قولنا هل الشيء موجود أم ليس بموجود؟ ... والثاني ما يتنزل من الموجودات منزلة الجنس ... ... وأما هذا الرجل - أي الغزالي - فإنما بنى القول على مذهب ابن سينا، وهو مذهب خطأ؛ وذلك أنه يعتقد أن الآنية - أي كون الشيء موجودا - شيء زائد على الماهية خارج النفس، وكأنه عرض فيها. ... وإن اسم الموجود يقال على معنيين: أحدهما على الصادق، والآخر على الذي يقابله العدم، وهذا هو الذي ينقسم إلى الأجناس العشرة، وهو كالجنس لها ... والموجود الذي بمعنى الصادق هو معنى في الأذهان، وهو كون الشيء خارج النفس على ما هو عليه في النفس، وهذا العلم يتقدم العلم بماهية الشيء - أعني أنه ليس يطلب معرفة ماهية الشيء حتى يعلم أنه موجود - وأما الماهية التي تتقدم علم الموجود في أذهاننا فليست في الحقيقة ماهية، وإنما هي شرح معنى اسم من الأسماء، فإذا علم أن ذلك المعنى موجود خارج النفس علم أنها ماهية وحد، وبهذا المعنى قيل في كتاب المقولات: إن كليات الأشياء المعقولة إنما صارت موجودة بأشخاصها، وأشخاصها معقولة بكلياتها. وقيل في كتاب النفس: إن القوة التي بها يدرك أن الشيء مشار إليه وموجود غير القوة التي بها ماهية الشيء المشار إليه، وبهذا المعنى قيل: إن الأشخاص موجودة في الأعيان والكليات في الأذهان، فلا فرق في معنى الصادق في الموجودات الهيولانية والمفارقة ...
وهذه المصطلحات تحتلف في مدلولها كاختلاف معنى «الصادق» من زيادة «المفهوم» في الكليات إلى معنى الصادق كما يريدونه حديثا، ويطلقونه على الموجود الذي يدرك الماهيات والكليات، ولكن القول في الوجود والماهية، وأن معرفة الموجود لا تتوقف على العلم بماهيته قول من أقدم ما كتب في معاني هذه المصطلحات.
ولا نعني أن هذه الآراء جميعا وليدة الاططلاع على شروح ابن رشد بنصوصها أو ترجماتها، ولكننا نعني أن الفيلسوف الجدير باسم الفيلسوف في العصر الحديث لا يخلو أن يكون قد اطلع على مذاهب القرون الوسطى، أو على التعقيبات التي أوحتها إلى الخالفين وابتعثتها في عقول المفكرين، وليس في العصر الحاضر من اشتغل بالفلسفة ولم يطلع على أطوار المذاهب الفلسفية وسوابق الآراء حول أصول المسائل الكبرى فيما وراء الطبيعة، ويكفي أن يكون قد اطلع على خلاصة هذه الأطوار لتنعقد الرابطة بينه وبين السلف الذي لا فكاك منه، ولا سيما السلف الذي وضع الأساس ثم تعاقبت بعده أدوار البناء.
وذلك هو المقصود ببعد الأثر الذي أحدثته شروح ابن رشد في زمانها وبعد زمانها، ولا نخال فيلسوفا أو شارحا كان لكلامه من الشيوع والتأثير ما كان لهذا الشارح العظيم.
إنها لعبرة ليس لها مكان أحق من مكان الكلام على تاريخ فيلسوف حكيم.
لو كان الاعتبار بالحوادث من عادات الإنسان، بل من عادات المشتغلين بالحكمة من الناس، لما صودر بعد ابن رشد كتاب واحد، ولا آمن أحد بجدوى المصادرة في تفنيد الآراء.
فقد رزق ابن رشد أنصارا ومعجبين من أصحاب الأديان الثلاثة لم يرزق مثلهم فيلسوف قبله ولا بعده، وهو هو الذي كان له مصادرون ومضطهدون من أتباع كل دين وخدام كل سلطان، ولو أن المصادرين عملوا قصدا وعمدا على نشر آرائه وشروحه لفاتهم بعض النجاح وأخطأهم بعض التدبير. (4) قوة الأثر
رزق ابن رشد حظا آخر غير بعد الأثر واتساع مداه، وهو قوة الأثر وعمق البحث فيه وشدة الخلاف عليه.
فربما كان بعد الأثر واتساع مداه مسألة مسافات وأبعاد، ولكن قوة الأثر وعمق البحث فيه وشدة الخلاف عليه شيء آخر يقاس بدوافع الحياة والحركة النفسية ولا يقاس بالسنين والأمكنة.
وهو شيء في آفاق النفوس والعقول، وليس في آفاق الفضاء أو صفحات الأوراق. وقد رزق ابن رشد من هذا الحظ النادر أوفى نصيب، فما ظهرت فلسفته في مكان إلا انتصب فيه ميدان كفاح، وكان الكفاح عنيفا والاستبسال فيه من الجانبين على غايته في مجال الرأي والعقيدة.
فلم يحفظ لنا تاريخ الفكر مساجلة بين حكيمين في قوة المساجلة التي دارت بين ابن رشد والغزالي ومضاء سلاحها ونفاذ حججها وبراهينها، ثم تمت هذه المساجلة برد الإمام ابن تيمية (661-728ه/1263-1328م) الذي ناقش فيه براهين «مناهج الأدلة»، ووضع لعلم المنطق الإسلامي كتاب الرد على المنطقيين أو الرد في الحقيقة على العلوم الحديثة في زمانه، ومنها حساب الكواكب والنجوم.
ودامت هذه المعركة بين الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة إلى القرن التاسع للهجرة والقرن الخامس عشر للميلاد، فعهد السلطان محمد الفاتح العثماني إلى عالم زمانه خوجه زاده (المتوفى سنة 893 للهجرة) بالموازنة بين كتاب «تهافت الفلاسفة» للغزالي وكتاب «تهافت التهافت» لابن رشد، فوضع في ذلك كتابه المشهور، وهو مطبوع بالقاهرة مع الكتابين في مجلد واحد.
أما في أوروبا فلم تنقطع المناقشة في الفلسفة الرشدية من القرن الثالث عشر إلى القرن السادس عشر، ثم كان لها استئناف في القرن التاسع عشر على يد المؤرخ الباحث إرنست رينان (1823-1892) صاحب كتاب حياة المسيح وكتاب ابن رشد والرشدية وغيرهما من كتب البحث والتاريخ.
وشملت المعركة معسكر اللاهوت المسيحي ومعسكر اللاهوت الإسرائيلي في وقت واحد.
فعلى الرغم من تحريم المجمع الكنسي لهذه المباحث في أوائل القرن السادس عشر (1512) ظلت المعركة محتدمة طوال ذلك القرن، ولم تزل كذلك حتى اختتمت بالمساجلة الكبرى بين المتفلسفين الإيطاليين أشليني
Achillini
وبومبوناتسي
ولولا نشأة المباحث العلمية الحديثة وانصراف العقول إليها بعد القرن السابع عشر لما انقطع ذلك السجال.
وتتابعت في العالم الإسرائيلي مساجلات كهذه أو أشد منها عنفا، كان المعارضون فيها لابن رشد يستندون إلى كتاب الغزالي «تهافت الفلاسفة» في الرد عليه. •••
ونحسب أن سر هذه القوة في معارك الفلسفة الرشدية أنها اشتملت على مباحث ترتبط بالعقائد الدينية، وأنها ظهرت عند نهاية عصر التقليد وبداية عصر الاجتهاد، فكان لها شأنها عند الأحبار والعلماء، وبين المقلدين والمجتهدين.
وقد شاءت لهذه الفلسفة «قوتها الحيوية» أن تعاود الظهور بيننا في الشرق العربي، وفي أوائل القرن العشرين، فدارت حولها مساجلة طويلة بين الأستاذ الإمام محمد عبده والأديب الألمعي فرح أنطون صاحب مجلة الجامعة، وكانت هذه المساجلة في حينها حديث المحافظين والمجددين بين أبناء البلاد العربية والإسلامية من مراكش إلى التخوم الهندية.
ولعل هذه المساجلة تهدينا إلى أسباب اتساع الخلف وانفراج مسافته بين المتناقشين في هذه المسائل وأشباهها؛ فإن اتساع الخلف بينهم إنما يأتي على الأغلب الأعم من اختلاف المراجع التي يعتمدون عليها، وهذا الذي حدث في مناقشة الأستاذ الإمام والأستاذ فرح أنطون، فلم يكن أحدهما يعتمد على مراجع الآخر في مسألة من مسائل الفلسفة الرشدية أو الفلسفة الإسلامية على التعميم.
قال الأستاذ الإمام: «وأما العقل الأول فليس كما تقول الجامعة؛ فإن العقل الأول جوهر مجرد عن المادة، وهو أول صادر عن الواجب، وقد صدر عنه الفلك التاسع المسمى عندهم بالفلك الأطلس، ونفس ذلك الفلك تدبر حركاته الجزئية، وعقل آخر هو العقل الثاني، وعن هذا العقل الثاني صدر الفلك الثامن المسمى عندهم بالعقل الفعال أو العقل الفياض، وعن هذا العقل صدرت المادة العنصرية، وإليه يرجع ما يحدث في عالمها.»
وهذا كله صحيح بالنسبة إلى فلاسفة الإسلام في المشرق على الجملة، ولكن ابن رشد كان يعتمد على شرح أرسطو مباشرة، ويفسره برأيه لا بآراء الفلاسفة المشرقيين، ويقول من كتاب «تهافت التهافت» في مسألة تعدد العقول: «ولسنا نجد لأرسطو ولا لمن شهر من قدماء المشائين هذا القول الذي نسب إليهم إلا لفرفريوس الصوري
22
صاحب مدخل علم المنطق، والرجل لم يكن من حذاقهم.»
أما الأستاذ فرح أنطون فكان جل اعتماده على تخريجات رينان، ولم يتوسع في الاطلاع على كتاب التهافت وغيره توسع استقصاء، وقد صرح بذلك حيث قال: «... لا مناص للكاتب العربي اليوم من أخذ تلك الفلسفة عن الإفرنج أنفسهم ... فأخذنا كتابا للمستر مولر، عنوانه: فلسفة ابن رشد ومبادئه الدينية، وكتابا آخر عنوانه: ابن رشد وفلسفته، وهو للفيلسوف رينان المشهور.»
فقد كانت المصادر إذن مختلفة، وكان أكثرها مرويا عن صاحبه مأخوذا من خلاصة كلامه، ولو توحدت المصادر مع حسن النية لما تباعدت بين المتناظرين في هذه المسألة ولا في غيرها شقة الخلاف.
ولتمام الفهم للعوامل التي تبعث القوة في هذه المساجلات، نرجع إلى عهد هذه المساجلة الأخيرة - وهي كسابقاتها تجمع بين مسائل الفلسفة ومسائل الدين - فإنها بدأت في أوائل القرن العشرين (سنة 1902)، أي على مفترق الطريق بين عهد التقليد وعهد الاجتهاد، وفي إبان الحركة التي أيقظت العقول لمواجهة الحياة في العصر الحديث. (5) خاتمة
إلى هنا تنتهي الصورة التي أردنا أن نبرزها للشارح الكبير، ونرجو أن نكون قد أبرزنا بها صورة صحيحة لعقل ابن رشد في شتى مشاركاته، وهي الفلسفة والطب والفقه، وما يتخللها من معارف موزعة كالعلم الطبيعي وما إليه في زمانه.
وهذه الصورة صحيحة فيما نرجو إذا كانت قد صورت عقل ابن رشد في أحسن عمله، وهو عقل قد امتاز بصدق الفهم وجودة الاستيعاب والأمانة في التعلم والتعليم.
لقد كان من تمام فهمه أنه شغله بما يحسنه ويسمو به على نظرائه؛ فلا جرم كان شغله الأكبر بالشرح والتحصيل، ولم يشغل نفسه كثيرا بالابتداع والابتكار.
وقد كان لفيلسوفنا عقل يغلب عليه المنطق والبحث العلمي، ويقل فيه نصيب النظر الصوفي الذي تروعه رهبة المجهول، كأنه يشعر به عن كثب ويشعر به على الدوام.
وهذه خصلة تظهر لنا في كثير من المناقشات بينه وبين الغزالي؛ فإن ابن رشد لا يقصر عن الغزالي في شيء من الاحتمالات المنطقية والتقديرات العقلية، ولكن الغزالي الصوفي يحس شيئا وراء ذلك ويضعه في ميزانه عند تفكيره، وإن لم يحصره بالدقة التي تحصر بها جميع المعقولات مما لا يحيطه الغيب ولا يظلل عليه الخفاء.
ولولا هذه الخصلة في عقل ابن رشد لما خطر له - كما قال في صدر شروحه على كتاب ما بعد الطبيعة - أن أرسطو «يظن» أنه قد أدرك الحقيقة كلها في هذا الجانب من بحثه، ولكنه كان صاحب عقل منطقي علمي يقف عند حدود ما يعرف، ومن أمانته لما يعرف أنه ترك التصوف لذويه، ولم يجعله عرفانا ميسرا لكل من يدعيه.
عقل الشارح الفاهم الأمين غير مدافع.
ذلك مكانه في تاريخ الفكر الإنساني، وقد بلغ به قصارى أثره، وغاية قدره، وإنه لأثر كبير وقدر عظيم.
هوامش
الفصل الرابع
منتخبات من آثار ابن رشد
تشتمل المنتخبات من آثار ابن رشد في الصفحات التالية على مقتبسات من كتاباته في الموضوعات التي كانت له فيها مشاركة كبيرة، وهي الفلسفة والطب والشريعة.
ونتحرى في هذه المقتبسات أن تكون نماذج لطرائقه المختلفة في الكتابة؛ وهي التأليف والتفسير والتلخيص، ونبقي في عباراته على الأخطاء اللغوية وهي قليلة.
ولابن رشد في موضوع الفلسفة والحكمة الإلهية مؤلفات وتفسيرات وتلخيصات، اقتبسنا نموذجا لكل منها في الصفحات التالية.
كما اقتبسنا نموذجا للتلخيص والتفسير في موضوع الطب، وقد كانت ملخصاته في هذا الموضوع «تأليفات ملخصة» أو «ملخصات مؤلفة»؛ لأنها تأليف يعتمد فيه على معلوماته معززة بتجاربه، فهو طريقة وسط بين التأليف والتلخيص.
أما الشريعة؛ فالمقصود بما اقتبسنا دلالته على إحاطة الفيلسوف بمذاهبها المتعددة، فليست حكمته الإلهية حكمة رجل خلو من العلم بفقه الدين وأصول الشريعة، بل هي حكمة عالم ديني عريق في هذه المعرفة، سبقه إلى تحصيلها أبوه وجده، وكان كل منهم علما في الفقه والقضاء.
وألزم ما يلزم الاطلاع عليه بين يدي فلسفة ابن رشد هو منهاجه في الاستدلال والتأويل، وفي التوفيق بين مسائل الفلسفة ومسائل العقيدة، ويبين منهاجه هذا مما اقتبسناه من كتابه: «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»، وكتابه: «الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة»، وهما رسالتان صغيرتان مطبوعتان بالقاهرة.
ويلاحظ أن التأويل عنده من واجب الحكيم أو من حقه، على شريطة العلم والقدرة على استقصاء أحكام الشريعة، وذلك واضح من هذه السطور: (1) ابن رشد الفيلسوف
حدود التأويل
إذا كان هذا هكذا، فإن أدى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما، فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه في الشرع أو عرف به، فإن كان مما سكت عنه فلا تعارض هناك، وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي.
وإن كانت الشريعة نطقت به، فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفا، فإن كان موافقا فلا قول هناك، وإن كان مخالفا طلب هناك تأويله.
ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو سببه، أو لاحقه، أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عودت في تعريف أصناف الكلام المجازي.
وإذا كان الفقيه يفعل هذا في كثير من الأحكام الشرعية؛ فكم بالحري أن يفعل ذلك صاحب العلم بالبرهان؟
فإن الفقيه إنما عنده قياس ظني، والعارف بالبرهان عنده قياس يقيني، ونحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع فذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي، وهذه القضية لا يشك فيها مسلم، ولا يرتاب بها مؤمن، وما أعظم ازدياد اليقين بها عند من زاول هذا المعنى وجربه، وقصد هذا المقصد من الجمع بين المعقول والمنقول، بل نقول إنه ما من منطوق به في الشرع مخالف بظاهره لما أدى إليه البرهان، إلا إذا اعتبر الشرع وتصفحت سائر أجزائه وجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل أو يقارب أن يشهد.
ولهذا المعنى أجمع المسلمون على أنه ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها من ظاهرها بالتأويل، واختلفوا في المؤول منها وغير المؤول.
فالأشعريون مثلا يتأولون آية الاستواء وحديث النزول، والحنابلة تحمل ذلك على ظاهره، والسبب في ورود الشرع فيه الظاهر والباطن هو اختلاف فطر الناس وتباين قرائحهم في التصديق، والسبب في ورود الظواهر المتعارضة فيه هو تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينها، فإلى هذا المعنى وردت الإشارة بقوله تعالى:
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات
إلى قوله:
والراسخون في العلم .
1
إلى أن يقول:
هذا النحو من الظاهر إن كان في الأصول فالمتأول له كافر، مثل من يعتقد أنه لا سعادة أخروية هاهنا ولا شقاء، وأنه إنما يقصد بهذا القول أن يسلم الناس بعضهم من بعض في أبدانهم وحواسهم، وأنها حيلة، وأنه لا غاية للإنسان إلا وجوده المحسوس فقط، وإذا تقرر هذا فقد ظهر لك في قولنا إن هاهنا ظاهرا في الشرع لا يجوز تأويله، فإن كان تأويله في المبادئ فهو كفر، وإن كان فيما بعد المبادئ فهو بدعة. وهاهنا أيضا ظاهر يجب على أهل البرهان تأويله، وحملهم إياه على ظاهره كفر، وتأويل غير أهل البرهان له وإخراجه عن ظاهره كفر في حقهم أو بدعة، ومن هذا الصنف آية الاستواء وحديث النزول؛ ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - في السوداء إذ أخبرته أن الله في السماء: أعتقها فإنها مؤمنة. إذ كانت ليست من أهل البرهان.
ثم قال:
الناس على ثلاثة أصناف: صنف ليس هو من أهل التأويل أصلا، وهم الخطابيون الذين هم الجمهور الغالب، وذلك أنه ليس يوجد أحد سليم العقل يعرى من هذا النوع من التصديق.
وصنف هو من أهل التأويل الجدلي، وهؤلاء هم الجدليون بالطبع فقط أو بالطبع والعادة.
وصنف هو من أهل التأويل اليقيني، وهؤلاء هم البرهانيون بالطبع والصناعة - أعني صناعة الحكمة - وهذا التأويل لا ينبغي أن يصرح به لأهل الجدل فضلا عن الجمهور، ومتى صرح بشيء من هذه التأويلات لمن هو من غير أهلها - وبخاصة التأويلات البرهانية لبعدها عن المعارف المشتركة - أفضى ذلك بالمصرح والمصرح له إلى الكفر، والسبب في ذلك أن مقصوده إبطال الظاهر عند من هو من أهل الظاهر وإثبات المؤول، فإذا أبطل الظاهر عند من هو من أهل الظاهر ولم يثبت المؤول عنده أداه ذلك إلى الكفر إن كان في أصول الشريعة.
فالتأويلان ليس ينبغي أن يصرح بها للجمهور، ولا يثبت في الكتب الخطابية والجدلية.
التصوف
ورأيه في المعرفة التي يمكن أن تدرك بالتصوف بين في كتاب «الكشف عن مناهج الأدلة» حيث يقول:
أما الصوفية فطرقهم في النظر ليست طرقا نظرية - أعني مركبة من مقدمات وأقيسة - وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالفكرة على المطلوب، ويحتجون لتصحيح هذا بظواهر من الشرع كثيرة، مثل قوله تعالى:
واتقوا الله ويعلمكم الله
ومثل قوله تعالى:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
ومثل قوله تعالى:
إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا
إلى أشباه لذلك كثيرة يظن أنها عاضدة لهذا المعنى. ونحن نقول: إن هذه الطريقة - وإن سلمنا وجودها - فإنها ليست عامة للناس بما هم ناس، ولو كانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس لبطلت طريقة النظر، ولكان وجودها بالناس عبثا.
والقرآن كله إنما هو دعاء إلى النظر والاعتبار، وتنبيه على طرق النظر.
نعم لسنا ننكر أن تكون إماتة الشهوات شرطا في صحة النظر، مثل ما تكون الصحة شرطا في ذلك، لا أن إماتة الشهوات هي التي تفيد المعرفة بذاتها، وإن كانت شرطا فيها، كما أن الصحة شرط في التعلم وإن كانت ليست مفيدة له.
ومن هذه الجهة دعا الشرع إلى هذه الطريقة، وحث عليها في جملتها حثا على العمل، لا أنها كافية بنفسها كما ظن القوم.
البرهان العقلي على وجود الله
ثم انتقل من الكلام على طريقة المتصوفة إلى طريقة المعتزلة، فقال:
أما المعتزلة، فإنه لم يصل إلينا في هذه الجزيرة من كتبهم شيء نقف منه على طرقهم التي سلكوها في هذا المعنى، ويشبه أن تكون طرقهم من جنس طرق الأشعرية. ... وإذا استقرئ الكتاب العزيز وجدت - أي أدلة وجود الباري - تنحصر في جنسين: أحدهما طريق الوقوف على العناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجلها، ولنسم هذه دليل العناية.
والطريقة الثانية ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء، مثل اختراع الحياة في الجماد، والإدراكات الحسية والعقل، ولنسم هذه دليل الاختراع.
فأما الطريقة الأولى فتبنى على أصلين: أحدهما أن جميع الموجودات التي هاهنا موافقة لوجود الإنسان، والأصل الثاني أن هذه الموافقة هي ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك مريد؛ إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة بالاتفاق. ... فقد بان من هذه الأدلة على وجود الصانع أنها منحصرة في هذين الجنسين: دلالة العناية ودلالة الاختراع، وتبين أن هاتين الطريقتين هما بأعيانهما طريقة الخواص ... وطريقة الجمهور. وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفصيل، أعني أن الجمهور يقتصرون من معرفة العناية والاختراع على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس، وأما العلماء فيزيدون على ما يدرك من هذه الأشياء بالحس ما يدرك بالبرهان، أعني من العناية والاختراع، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الذي أدركه العلماء من معرفة أعضاء الإنسان والحيوان هو قريب من كذا وكذا آلاف منفعة.
وإذا كان هذا هكذا، فهذه الطريقة هي الطريقة الشرعية والطبيعية، وهي التي جاءت بها الرسل ونزلت بها الكتب.
والعلماء ليس يفضلون الجمهور في هذين الاستدلالين من قبل الكثرة فقط، بل ومن قبل التعمق في معرفة الشيء الواحد نفسه؛ فإن مثال الجمهور في النظر إلى الموجودات مثالهم في النظر إلى المصنوعات التي ليس عندهم علم بصنعتها ...
المعجزة
أشرنا في الكلام على أثر الفلسفة الرشدية إلى المشابهة بين رأي دافيد هيوم في المعجزة ورأي ابن رشد، وخلاصة رأي دافيد هيوم أن طريقة المعجزة غير طريقة البرهان، وأن الحاسب إذا عرف - مثلا - أن مجموع اثنين واثنين أربعة لا تختلف حسبته؛ لأنه يشهد بعد ذلك خارقة من الخوارق، وأن الجاهل قد يرى الحيلة فتلتبس عليه بالمعجزة.
وإذا قوبل بين هذا الرأي وبين رأي ابن رشد فيما يلي، بدا أن المشابهة بينهما أكبر من مشابهة المصادفة والاتفاق. وقد نقلت فلسفة ابن رشد والمناقشات فيها إلى اللغة اللاتينية، فليس من البعيد أن يكون دافيد هيوم قد اطلع على شيء منها في الترجمات اللاتينية، ويتعزز هذا الظن إذا أضفنا إلى الكلام في المعجزة كلامه في الأسباب، وقد كان الكلام في الأسباب موضع مناقشة بين ابن رشد والغزالي، ترجمت كلها إلى اللاتينية.
أما رأي ابن رشد في المعجزة فخلاصته: (1)
أن وسيلة العارف إلى الإيمان بصدق النبي هي معرفة الحق في دعوته، وليست هي رؤية الخوارق. (2)
أن المعجزة ممكنة؛ لأن قدرة الله على عمل يعجز عنه الإنسان أمر لا ينكره مؤمن بالله. (3)
أن المعجزة مقنعة على اعتبار أن المشاهد لها يرى أنها عمل لا يقدر عليه غير الإله، فلا بد له إذن من الإيمان بالله قبل الإيمان بالإعجاز. (4)
أن الإسلام لم تكن من حجته المعجزات، بل كانت معجزته آيات القرآن الكريم، وفيه يقول تعالى:
وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون .
وهذا هو نص كلامه من كتاب «الكشف عن مناهج الأدلة»: ... ذلك أنه ليس يصح تصديقنا للذي ادعى الرسالة عن الملك إلا متى علمنا أن تلك العلامة التي ظهرت عليه هي علامة الرسل للملك، وذلك ما يقول الملك لأهل طاعته: إن من رأيتم عليه علامة كذا من علاماتي المختصة بي فهو رسول من عندي. أو بأن يعرف من عادة الملك ألا تظهر تلك العلامات إلا على رسله. وإذا كان هذا هكذا فلقائل أن يقول: من أين يظهر أن ظهور المعجزات على أيدي بعض الناس هي العلامات الخاصة بالرسل؟ فإنه لا يخلو أن يدرك ذلك بالشرع أو بالعقل، ومحال أن يدرك هذا بالشرع؛ لأن الشرع لم يثبت بعد، والعقل أيضا ليس ممكنه أن يحكم أن هذه العلامة هي خاصة بالرسل، إلا أن يكون قد أدرك وجودها مرات كثيرة للقوم الذين يعترف برسالتهم، ولم تظهر على أيدي سواهم.
وذلك أن ثبوت الرسالة ينبني على مقدمتين: إحداهما أن هذا المدعي الرسالة ظهرت على يديه المعجزة، والثانية أن كل ما ظهرت على يديه معجزة فهو نبي، فيتولد من ذلك بالضرورة أن هذا نبي.
فأما المقدمة القائلة: إن هذا المدعي الرسالة ظهرت عليه معجزة، فلنا أن نقول: إن هذه المقدمة تؤخذ من الحس، بعد أن نسلم أن هاهنا أفعالا تظهر على أيدي المخلوقين نقطع قطعا أنها ليست تستفاد لا بصناعة غريبة من الصانع، ولا بخاصة من الخواص، وأن ما يظهر من ذلك ليس تخيلا.
وأما المقدمة القائلة إن كل من ظهرت على يديه المعجزة فهو رسول؛ فإنما تصح بعد الاعتراف بوجود الرسل، وبعد الاعتراف بأنها لم تظهر قط إلا على من صحت رسالته.
وإنما قلنا إن هذه المقدمة لا تصح إلا ممن يعترف بوجود الرسالة ووجود المعجزة ؛ لأن هذا طبيعة القول الخبري، أعني أن الذي تبرهن عنده مثلا أن العالم محدث فلا بد أن يكون عنده معلومات بنفسه أن العالم موجود، وأن المحدث موجود.
إلى أن يقول: ... فمن هذه الأشياء يرى أن المتكلمين ذهب عليهم هذا المعنى من وجه دلالة المعجز ... وليس في قوة العقل العجيب الخارق للعوائد الذي يرى الجميع أنه إلهي أن يدل على وجود الرسالة دلالة قاطعة، إلا من جهة ما يعتقد أن من ظهرت عليه أمثال هذه الأشياء فهو فاضل، والفاضل لا يكذب، بل إنما يدل على أن هذا رسول إذا سلم أن الرسالة أمر موجود، وأنه ليس يظهر هذا الخارق على يدي أحد من الفاضلين إلا على يد رسول. وإنما كان المعجز ليس يدل على الرسالة؛ لأنه ليس يدرك العقل ارتباطا بينهما إلا أن يعترف أن المعجز فعل من أفعال الرسالة؛ كالإبراء الذي هو فعل من أفعال الطب، فإنه من ظهر منه فعل الإبراء دل على وجود الطب وأن ذلك طبيب.
وأنت تتبين من حال الشارع
صلى الله عليه وسلم
أنه لم يدع أحدا من الناس ولا أمة من الأمم إلى الإيمان برسالته وبما جاء به بأن قدم على يدي دعواه خارقا من خوارق الأفعال، مثل قلب عين من الأعيان إلى عين أخرى، وما ظهر على يديه
صلى الله عليه وسلم
من الكرامات الخوارق فإنما ظهرت في أثناء أحواله من غير أن يتحدى بها، وقد يدلك على هذا قوله تعالى:
وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا
إلى قوله:
قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا
وقوله تعالى:
وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ، وأما الذي دعا به الناس وتحداهم به هو الكتاب العزيز، فقال تعالى:
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، وقال:
فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ، وإذا كان الأمر هكذا فخارقه
صلى الله عليه وسلم
الذي تحدى به الناس وجعله دليلا على صدقه فيما ادعى من رسالته هو الكتاب العزيز.
ثم يقول: ... قال - عليه السلام - منبها على هذا المعنى الذي خصه الله به: ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما على مثله آمن جميع البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تبعا يوم القيامة. وإذ كان هذا كله كما وصفنا؛ فقد تبين لك أن دلالة القرآن على نبوته
صلى الله عليه وسلم
ليست هي مثل دلالة انقلاب العصا حية على نبوة موسى - عليه السلام - ولا إحياء الموتى على نبوة عيسى ... فإن تلك وإن كانت أفعالا لا تظهر إلا على أيدي الأنبياء، وهي مقنعة عند الجمهور، فليست تدل دلالة قطعية إذا انفردت؛ إذ كانت ليست فعلا من أفعال الصفة التي بها سمي النبي نبيا، وأما القرآن فدلالته على هذه الصفة هي مثل دلالة الإبراء على الطب، ومثال ذلك لو أن شخصين ادعيا الطب، فقال أحدهما: الدليل أني أسير على الماء. وقال الآخر: الدليل أني أبرئ المرضى. فمشى ذلك على الماء وأبرأ هذا المرضى، لكان تصديقنا بوجود الطب للذي أبرأ المرضى ببرهان، وتصديقنا بوجود الطب للذي مشى على الماء مقنعا من طريق الأولى والأحرى، ووجه الظن للذي يعرض للجمهور ذلك أن من قدر على المشي على الماء الذي ليس من وضع البشر فهو أولى أن يقدر على الإبراء الذي هو من صنع البشر.
وقد ختم الفيلسوف كلامه عن المعجزة بالتفرقة بين إقناع الخارقة وإقناع البرهان، وكرر هذا المعنى في رده على الإمام الغزالي؛ حيث يقول:
وليعرف أن طريق الخواص في تصديق الأنبياء طريق آخر قد نبه عليه أبو حامد في غير ما موضع، وهو الصادر عن الصفة التي بها سمي النبي نبيا، الذي هو الإعلام بالغيوب ووضع الشرائع الموافقة للحق والمفيدة من الأعمال ما فيه سعادة جميع الخلق ...
ما بعد الطبيعة
كتاب ما بعد الطبيعة أهم كتب أرسطو التي اختارها ابن رشد للشرح والتفسير، تدل إشاراته إلى الكتب السابقة على أن المعلم الأول قد درس موضوعه بعد نضجه وتكرار النظر فيه، فضلا عن اسم الكتاب الذي يفيد أنه مكتوب بعد الفراغ من كتاب الطبيعيات.
والترجمة التي شرحها ابن رشد وفسرها دقيقة في جوهرها تكاد أن تكون حرفية عند المقارنة بينها وبين التراجم المنقولة عن اليونانية، وأكثر ما يلاحظ عليها أنها لا تلتفت إلى الطرائف اللفظية التي هي أشبه بالحلية منها بصميم المعنى، ومثال ذلك في الفقرة التي ننقلها بعد أن أرسطو يقصد بالباب أن كل إنسان يستطيع أن يصل إليه، ولكن ليس كل إنسان قادرا على أن يصيب منه هدفا بعينه، وهذا هو نص العبارة باللغة الإنجليزية:
2
Since the truth seems to be like the proverbial door which no one can fail to hit, in this respect it must be easy, but the fact that we have a whole truthandnot the particular part we aim at shows the difficulty of it.
وتؤخذ على الترجمة أيضا عسلطة لا ضرورة لها، ومن أمثلتها في العبارة المتقدمة قول المترجم: «... إن كان أدرك شيئا منه فإنما أدرك يسيرا، فإذا جمع ما أدرك منه من جميع من أدرك ما أدرك منه كان للمجتمع من ذلك مقدار ذو قدر، فيجب أن يكون سهلا من هذه الجهة ...»
ومحصل ذلك أننا لو أخذنا من كل من أدرك يسيرا من الحق ما أدركه، اجتمع من ذلك قدر ليس باليسير.
ونحن مختارون فيما يلي أول عبارة من الكتاب فسرها ابن رشد للدلالة على طريقته في التفسير، وهي طريقة تجمع بين تفسير اللفظ وتفسير المعنى، وتفسير الفكرة الفلسفية التي ينطوي عليها ذلك المعنى، ولكنه لم يسلم من بعض العيوب التي ألمعنا إليها.
افتتحت ترجمة إسحاق
3
بالعبارة التالية:
إن النظر في الحق صعب من جهة، سهل من جهة، والدليل على ذلك أنه لم يقدر أحد من الناس على البلوغ فيه بقدر ما يستحق، ولا ذهب على الناس كلهم، لكن واحد واحد من الناس تكلم في الطبيعة، وواحد واحد منهم إما أن يكون لم يدرك من الحق شيئا، وإما أن كان أدرك شيئا منه فقد أدرك يسيرا، فإذا جمع ما أدرك منه من جميع من أدرك ما أدرك منه، كان للمجتمع من ذلك مقدار قدر، فيجب أن يكون سهلا من هذه الجهة، وهي الجهة التي من عادتنا أن نتمثل فيها بأن نقول: إنه ليس أحد يذهب عليه موضع الباب من الدار، ويدل على صعوبته أنه لم يمكن أن يدرك بأسره ولا جزء عظيم منه، وإذا كانت الصعوبة من جهتين فخليق أن يكون إنما استصعب لا من جهة الأمور بأعيانها، لكن سبب استصعابها إنما هو منا؛ وذلك أن حال العقل في النفس منا عندما هو في الطبيعة في غاية البيان - يشبه حال عيون الخفاش عند ضياء الشمس.
وقد فسر ابن رشد هذه العبارة، فقال:
لما كان هذا العلم هو الذي يفحص عن الحق بإطلاق، أخذ يعرف حال السبيل الموصلة إليه في الصعوبة والسهولة؛ إذ كان من المعروف بنفسه عند الجميع أن هاهنا سبيلا تفضي بنا إلى الحق، وأن إدراك الحق ليس بممتنع علينا في أكثر الأشياء، والدليل على ذلك أننا نعتقد اعتقاد يقين أنا قد وقفنا على الحق في كثير من الأشياء، وهذا يقع به اليقين لمن زاول علوم اليقين.
ومن الدليل أيضا على ذلك ما نحن عليه من التشوق إلى معرفة الحق، فإنه لو كان إدراك الحق ممتنعا لكان الشوق باطلا، ومن المعترف به أنه ليس هاهنا شيء يكون في أصل الجبلة والخلقة وهو باطل.
فلما كان من المعترف به - وبخاصة عند من وصل إلى هذا العلم - أن لنا سبيلا إلى معرفة الحق، أخذ يعرف حال هذه السبيل في الوعورة والسهولة، فقال: إن النظر في الحق صعب من جهة، سهل من جهة.
ثم أخذ يحتج لوجود هاتين الصفتين في هذه السبيل، فقال: «والدليل على ذلك أنه لم يقدر أحد من الناس على البلوغ منه بقدر ما يستحق ولا ذهب على الناس كلهم، والدليل: أما على صعوبته؛ فإنه لم يلف واحد من الناس وصل منه - دون مشاركة غيره له في الفحص - إلى القدر الواجب في ذلك، وأما على سهولته فالدليل عليها أنه لم يذهب على الناس كلهم؛ لأنه - ولو وجدنا كل من بلغنا زمانه لم يقف جميعهم على الحق ولا على شيء له قدر من ذلك - لكنا نرى أنه عسر ولم نقض بالامتناع لمكان طول الزمان المحتاج إلى الوقوف فيه على الحق، فكان قصر الزمان الذي وقف فيه على الحق، إما كله وإما ذو قدر منه، يؤذن بسهولته.»
ولما ذكر هذا من أحوال الناس أخذ يذكر عن حال الناس في ذلك الزمن الذي وصل إليه خبره، فقال: «لكن واحد واحد تكلم في الطبيعة، وواحد واحد منهم إما أن يكون لم يدرك من الحق شيئا، وإما إن كان أدرك شيئا منه فإنما أدرك اليسير، فإذا أدرك ما جمع منه من جميع من أدرك ما أدرك منه كان للمجتمع من ذلك مقدار ذو قدر.»
يريد: وإنما قلنا هذا الذي قلنا في نحو إدراك الحق؛ لأننا لما تصفحنا حال من كان قبلنا في العلوم ممن وصلنا خبرهم وجدناهم أحد رجلين: إما رجل لم يدرك من الحق شيئا، وإما رجل أدرك منه شيئا يسيرا، ولما أخبر بهذا قال: «فقد يجب أن يكون سهلا من هذه الجهة، وهي الجهة التي من عادتنا أن نتمثل فيها بأن نقول: إنه ليس أحد يذهب عليه موضع الباب من الدار.»
يريد: وإذا تقرر أنه سهل من جهة وصعب من جهة، فقد يجب أن يكون سهلا من هذه الجهة، وهي أنه في كل جنس من أجناس الموجودات أشياء تتنزل منها منزلة باب الدار من الدار، فإنها لا تخفى على أحد كما لا يخفى موضع باب الدار على أحد، وهذه هي المعارف الأول التي لنا بالطبع في كل جنس من أجناس الموجودات.
ولما ذكر جهة السهولة أعاد ذكر جهة الصعوبة، فقال: «ويدل على صعوبته أنه لم يمكن أن يدرك بأسره ولا جزء عظيم منه.» يريد: من أول الزمان الذي وصله خبره إلى زمانه، وكأنه إشارة منه إلى أنه أدرك الحق أو أعظمه، وأن الذي أدرك منه من كان قبله بالإضافة إلى ما أدرك هو منه هو جزء قليل، إما كل الحق وإما أكثر الحق، والأولى أن يظن أنه أدرك الحق كله، أعني بكل الحق القدر الذي في طبع الإنسان أن يدركه بما هو إنسان.
ثم قال: «وإذا كانت الصعوبة من جهتين فخليق أن يكون إنما استصعب لا من جهة الأمور بأعيانها، لكن سبب استصعابها إنما هو منا، وذلك أن حال العقل في النفس منا عند ما هو في الطبيعة في غاية البيان يشبه حال عيون الخفاش عند ضياء الشمس.»
يريد: وإذا كانت صعوبة إدراك الموجودات توجد في وجهين، فخليق أن تكون الصعوبة في الأشياء التي في الغاية من الحق - وهو المبدأ الأول والمبادئ المفارقة
4
البريئة من الهيولى - من قبلنا نحن لا من قبلها في أنفسها؛ وإنما كان ذلك كذلك لأنه لما كانت مفارقة كانت معقولة في أنفسها بالطبع، ولم تكن معقولة بتصييرنا إياها معقولة؛ لأنها في أنفسها معقولة كحال الصور الهيولانية على ما تبين في كتاب النفس، وذلك أن الصعوبة في هذه هي من قبلها أكثر مما هي من قبلنا.
ولما كانت حال العقل من المعقول حال الحس من المحسوس، شبه قوة العقل منا بالإضافة إلى إدراك المعقولات البريئة من الهيولى بأعظم المحسوسات التي هي الشمس، إلى أضعف الأبصار وهو بصر الخفاش، لكن ليس يدل هذا على امتناع تصور الأمور المفارقة كامتناع النظر إلى الشمس على الخفاش، فإنه لو كان ذلك كذلك لكانت الطبيعة قد فعلت باطلا بأن صيرت ما هو في نفسه معقول بالطبع للغير، ليس معقولا لشيء من الأشياء، كما لو صيرت الشمس ليست مدركة لبصر من الأبصار.
الحياة الكاملة حركة
والعبارة التي تقدمت مثال صالح لأسلوبه في الشرح، ويلحق بالشرح أسلوبه في المناقشة لبيان فكرة، أو الدفاع عنها، ونختار له مثالين من مناقشاته للغزالي في حركة السماء، وفي حقيقة الأسباب.
والمناقشة في حركة السماء قائمة على قول الأقدمين إن الأجرام السماوية تتحرك ولا تسكن؛ لأنها «حيوانات» روحانية، وإنما يعرض السكون للحي المادي من جهة فساد الجسد؛ ولهذا تطلب الأجرام السماوية الحركة حيث تكون، ويتم لها كمال الحياة بتمام الحركة.
فقال الغزالي ساخرا بهذا القول: «إن طلب الاستكمال بالكون في كل أين يمكن أن يكون له، حماقة لا طاعة!
وما هذا إلا كإنسان لم يكن له شغل، وقد كفي المئونة في شهواته وحاجاته، فقام وهو يدور في بلد أو في بيت، ويزعم أنه يتقرب إلى الله تعالى، وأنه يستكمل بأن يحصل لنفسه الكون في كل مكان أمكن، وزعم أن الكون في الأماكن ممكن له، وليس يقدر على الجميع بينها بالعدد فاستوفاه بالنوع، فإن فيه استكمالا وتقربا، فيسفه عقله ويحمل على الحماقة، ويقال: الانتقال من حيز إلى حيز، ومن مكان إلى مكان ليس كمالا يعتد به أو يتشوف إليه، ولا فرق بين ما ذكروه وبين هذا.» قال ابن رشد يرد على كلام الغزالي:
قد يظن أن هذا الكلام لشخصه يصدر عن أحد رجلين: إما رجل جاهل، وإما رجل شرير، وأبو حامد مبرأ من هاتين الصفتين.
ولكن قد يصدر من غير الجاهل قول جاهلي، ومن غير الشرير قول شريري، على جهة الندور، ولكي يدل هذا على قصور البشر فيما يعرض لهم من الفلتات، فإنه إن سلمنا لابن سينا أن الفلك يقصد بحركته تبديل الأوضاع، وكان تبديل أوضاعه من الموجودات التي هاهنا هو الذي يحفظ وجودها بعد أن يوجدها، وكان هذا الفعل منه دائما؛ فأي عبادة أعظم من هذه العبادة؟ لو أن إنسانا تكلف أن يحرس مدينة من المدن من عدوها بالدوران حولها ليلا ونهارا، أما كنا نرى أن هذا الفعل من أعظم الأفعال قربة إلى الله تعالى؟ أما لو فرضنا حركة هذا الرجل حول المدينة للغرض الذي حكى هو عن ابن سينا من أنه لا يقصد في حركته إلا الاستكمال بأينات غير متناهية لقيل فيه إنه رجل مجنون، وهذا هو معنى قوله سبحانه:
إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا .
أما قوله: «إنه لما لم يمكنها استيفاء الآحاد بالعدد أو جميعها، استوفتها بالنوع.» فإنه كلام مختل غير مفهوم.
الأسباب
أما مسألة الأسباب؛ فالمعلوم أن الغزالي يرى أن الأسباب ظواهر تقارن المسببات وليست هي علتها، وهو رأي يوافقه عليه العلم الحديث الذي يكتفي بوصف الظواهر ولا يدعي استقصاء عللها، وقد أجمل الغزالي رأيه هذا في كتابه «تهافت الفلاسفة»؛ حيث قال:
الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببا وما يعتقد مسببا، ليس ضروريا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هكذا، ولا إثبات أحدهما متضمنا لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمن لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل: الري والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وحز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، وإسهال البطن واستعمال المسهل، وهلم جرا ... إلى كل المشاهدات من المقترنات في الطب والنجوم والصناعات والحرف، وإن اقترانها بما سبق من تقدير الله - سبحانه - لخلقها على التساوق؛ لا لكونه ضروريا في نفسه غير قابل للفوت، بل لتقدير.
وفي المقدور خلق الشبع دون الأكل وخلق الموت دون حز الرقبة، وإدامة الحياة مع حز الرقبة، وهلم جرا إلى جميع المقترنات.
وأنكر الفلاسفة إمكانه وادعوا استحالته.
والنظر في هذه الأمور الخارجة عن الحصر يطول، فلنعين مثالا واحدا وهو الاحتراق والقطن مثلا مع ملاقاة النار، فإنا نجوز وقوع الملاقاة بينهما دون الاحتراق، ونجوز حدوث انقلاب القطن رمادا محترقا دون ملاقاة النار، وهم ينكرون جوازه ... والمشاهدة تدل على الحصول عنده، ولا تدل على الحصول به، وأنه لا علة سواه؛ إذ لا خلاف في أن ائتلاف الروح بالقوى المدركة والمحركة في نطف الحيوانات ليس يتولد عن الطبائع المحصورة في الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ولا أن الأب فاعل الجنين بإيقاع النطفة في الرحم، ولا هو فاعل حياته وبصره وسمعه وسائر المعاني التي فيه، ومعلوم أنها موجودة عنده ولم يقل أحد إنها موجودة به ...
وقال ابن رشد يرد عليه:
أما إنكار وجود الأسباب الفاعلة التي تشاهد في المحسوسات، فقول سفسطائي، والمتكلم بذلك إما جاحد بلسانه لما في جنانه، وإما منقاد لشبهة سفسطائية عرضت له في ذلك، ومن ينفي ذلك فليس يقدر أن يعترف أن كل فعل لا بد له من فاعل.
وأما أن هذه الأسباب مكتفية بنفسها في الأفعال الصادرة عنها ، أو إنما تتم أفعالها بسبب من خارج إما مفارق أو غير مفارق، فأمر ليس معروفا بنفسه، وهو مما يحتاج إلى بحث وفحص كثير.
وإن ألفوا هذه في الشبهة الأسباب الفاعلة التي يحس أن بعضها يفعل بعضا لموضع ما هاهنا من المعقولات التي يحس فاعلها؛ فإن ذلك ليس بالحق، فإن التي لا تحس أسبابها إنما صارت مجهولة ومطلوبة من أنها لا يحس لها أسباب. فإن كانت الأشياء التي لا تحس لها أسباب مجهولة بالطبع ومطلوبة، فما ليس بمجهول فأسبابه محسوسة ضرورة، وهذا من فعل من لا يفرق بين المعروف بنفسه والمجهول، فما أتى به في هذا الباب مغالطة سفسطائية.
وأيضا فماذا يقولون في الأسباب الذاتية التي لا يفهم الموجود إلا بفهمها؟ فإنه من المعروف بنفسه أن للأشياء ذوات وصفات هي التي اقتضت الأفعال الخاصة بموجود موجود، وهي التي من قبلها اختلفت ذوات الأشياء وأسماؤها وحدودها، فلو لم يكن لموجود موجود فعل يخصه لم يكن له طبيعة تخصه، ولو لم يكن له طبيعة تخصه لما كان له اسم يخصه ولا حد، وكانت الأشياء كلها شيئا واحدا؛ لأن ذلك الواحد يسأل عنه: هل له فعل واحد يخصه أو انفعال يخصه، أو ليس له ذلك؟ فإن كان له فعل يخصه فهنا أفعال خاصة صادرة عن طبائع خاصة، وإن لم يكن له فعل يخصه واحد فالواحد ليس بواحد، وإذا ارتفعت طبيعة الواحد ارتفعت طبيعة الموجود، وإذا ارتفعت طبيعة الموجود لزم العدم.
وأما هل الأفعال الصادرة عن موجود موجود ضرورية الفعل فيما شأنه أن يفعل به، أو هي أكثرية، أو فيها الأمران جميعا؛ فمطلوب يستحق الفحص عنه، فإن الفعل والانفعال الواحد بين كل شيئين من الموجودات إنما يقع بإضافة ما من الإضافات التي لا تتناهى، فقد تكون إضافة تابعة لإضافة؛ ولذلك لا يقطع على أن النار إذا دنت من جسم حساس فعلت ولا بد؛ لأنه لا يبعد أن يكون هنالك موجود يوجد له إلى الجسم الحساس إضافة تعوق تلك الإضافة الفاعلة للنار، مثل ما يقال في حجر الطلق وغيره، ولكن هذا ليس يوجب سلب النار صفة الإحراق ما دام باقيا لها اسم النار وحدها. وأما أن الموجودات المحدثة لها أربعة أسباب: فاعل ومادة وصورة وغاية،
5
فذلك شيء معروف بنفسه، وكذلك كونها ضرورية في وجود المسببات وبخاصة التي هي جزء من الشيء المسبب - أعني التي سموها قوم مادة وقوم شرطا ومحلا - والتي يسميها قوم صورة وقوم صفة نفسية.
والمتكلمون يعترفون بأن هاهنا شروطا هي ضرورية في حق المشروط، مثل ما يقولون: إن الحياة شرط في العلم، وكذلك يعترفون بأن للأشياء حقائق وحدودا، وأنها ضرورية في وجود الموجود؛ ولذلك يطردون الحكم في الشاهد والغائب على مثال واحد، وكذلك يفعلون في اللواحق اللازمة لجوهر الشيء، وهو الذي يسمونه الدليل، مثل ما يقولون إن الإتقان في الموجود يدل على كون الفاعل عاقلا، وكون الموجود مقصودا به غاية، ما يدل على أن الفاعل له عالم به، والعقل ليس هو شيء أكثر من إدراكه الموجودات بأسبابها، وبه يفترق من سائر القوى المدركة؛ فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل.
وصناعة المنطق تضع وضعا أن هاهنا أسبابا ومسببات، وأن المعرفة بتلك المسببات لا تكون على التمام إلا بمعرفة أسبابها.
فرفع هذه الأشياء هو مبطل للعلم ورفع له؛ فإنه يلزم ألا يكون هاهنا برهان واحد أصلا، وترتفع أصناف المحمولات الذاتية التي منها تأتلف البراهين.
ومن يضع أنه ولا علم واحد ضروري، يلزمه ألا يكون قوله هذا ضروريا.
وأما من يسلم أن هاهنا أشياء بهذه الصفة وأشياء ليست ضرورية وتحكم النفس عليها حكما ظنيا وتوهم أنها ضرورية وليست ضرورية، فلا ينكر الفلاسفة ذلك. فإن سموا مثل هذا عادة جاز، وإلا فما أدري ماذا يريدون باسم العادة؟ هل يريدون أنها عادة الفاعل أو عادة الموجودات أو عادتنا عند الحكم على هذه الموجودات؟ ومحال أن يكون لله تعالى عادة؛ فإن العادة ملكة يكتسبها الفاعل توجب تكرر الفعل منه على الأكثر، والله - عز وجل - يقول:
فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ، وإن أرادوا أنها عادة للموجودات، فالعادة لا تكون إلا لذي نفس، وإن كانت في غير ذي نفس فهي في الحقيقة طبيعة تقتضي الشيء، إما ضروريا وإما أكثريا.
وأما أن تكون عادة لنا في الحكم على الموجودات؛ فإن هذه العادة ليست شيئا أكثر من فعل العقل الذي يقتضيه طبعه، وبه صار العقل عقلا.
وليس تنكر الفلاسفة مثل هذه العادة، فهو لفظ مموه إذا حقق لم يكن تحته معنى إلا أنه فعل وضعي، مثل ما نقول: جرت عادة فلان أن يفعل كذا وكذا، ويريد أنه يفعله في الأكثر، وإن كان هذا هكذا كانت الموجودات كلها وضعية، ولم يكن هنالك حكمة أصلا من قبلها ينسب إلى الفاعل أنه حكيم.
فكما قلنا لا ينبغي أن يشك في أن هذه الموجودات قد تفعل بعضها بعضا ومن بعض، وأنها ليست مكتفية بنفسها في هذا الفعل بل بفاعل من خارج فعله، شرط في فعلها بل في وجودها فضلا عن فعلها.
وأما جوهر هذا الفاعل أو الفاعلات ففيه اختلاف الحكماء من وجه ولم يختلفوا من وجه؛ وذلك أنهم كلهم اتفقوا على أن الفاعل الأول هو بريء عن المادة، وأن الفاعل فعله شرط في وجود الموجودات بوساطة معقول له هو غير هذه الموجودات، فبعضهم جعله الفلك فقط، وبعضهم جعل مع الفلك موجودا آخر بريئا من الهيولى، وهو الذي يسمونه واهب الصور. والفحص عن هذه الآراء ليس هذا موضعه، وأشرف ما تفحص عنه الفلسفة هو هذا المعنى ... (2) ابن رشد وكتاب «الخطابة» لأرسطو
ومن الكتب التي عالجها ابن رشد كتاب ترجح نسبته إلى أرسطو - وهو كتاب الخطابة - وقد اتبع فيه ابن رشد طريقة التلخيص، وكان تعويله فيه على الترجمة الحرفية، ومثالها ترجمة أسماء الحكومات أو السياسات كما قال:
والسياسات بالجملة أربع: السياسة الجماعية، وسياسة الخسة، وسياسة التسلط، وسياسة الوحدانية وهي الكرامية. فأما الجماعية، فهي التي تكون الرئاسة فيها بالاتفاق والبخت لا عن استئهال. وأما خسة الرئاسة، فهي التي يتسلط فيها المتسلطون على المدنيين بأداء الإتاوة والتغريم، لا على جهة أن تكون نفقة للحماة والحفظة
6
ولا عدة للمدينة على ما عليه الأمر في السياسات الأخرى، بل على جهة أن تحصل الثروة للرئيس الأول، فإن جعل لهم حظا من الثروة كانت رياسة الثروة، وإن لم يجعل لهم حظا من الثروة كانت رياسة التغلب وكانوا بمنزلة العبيد للرئيس الأول. وأما جودة التسلط فهو التسلط الذي يكون على طريق الأدب والاقتداء بما توجبه السنة، وهذا التسلط صنفان: رياسة الملك، وهي المدينة التي تكون آراؤها وأفعالها بحسب ما توجبه العلوم النظرية، والثانية رياسة الأخيار، وهي التي تكون أفعالها فاضلة فقط وهذه تعرف بالإمامية، ويقال إنها كانت موجودة في الفرس الأول فيما حكاه أبو نصر (الفارابي).
وأما وحدانية التسلط، فهي الرياسة التي يحب الملك أن يتوحد فيها بالكرامة الرياسية، وألا ينقصه منها شيء بأن يشاركه فيها غيره، وذلك يفيد مدينة الأخيار ...
فجودة التسلط - أي: الحكومة الأرستقراطية - مأخوذة من المعنى الحرفي لكلمة أريستوس
Aristos
بمعنى الأحسن، وخسة الرياسة مأخوذة من المعنى الحرفي لكلمة أليجوس، بمعنى القلة والضآلة، وقد يكون من أسباب وصفها أنها متصفة مع هذه التسمية برداءة الحكم وسوء الرياسة، ووحدانية التسلط مأخوذة من المعنى الحرفي لكلمة مونو
Mono
بمعنى الواحد، ويقاس على ذلك سائر المصطلحات.
وطريقة التلخيص عند ابن رشد كما تدل عليها هذه الرسالة هي استيعاب المعنى وكتابته بعد ذلك على لسان الملخص، فيجيز فيه أن يعزز المعنى بشاهد من عنده كما فعل في الإشارة إلى قول أبي نصر في الحكومة الفارسية، وإن كان أرسطو قد ذكر حكومة الفرس في كلامه على السياسة الفارسية.
وهذه صفحات من كتاب الخطابة كما لخصه ابن رشد في رسالته الصغيرة، وهي مطبوعة في القاهرة منذ أربعين سنة:
إن صناعة الخطابة تناسب صناعة الجدل؛ وذلك أن كليهما يؤمان غاية واحدة، وهي مخاطبة الغير.
وكل من تكلم في هذه الصناعة ممن تقدمنا، فلم يتكلم في شيء يجري من هذه الصناعة مجرى الجزء الضروري، والأمر الذي هو أحرى أن يكون صناعيا، وتلك هي الأمور التي توقع التصديق الخطبي، وبخاصة المقاييس التي تسمى في هذه الصناعة الضمائر، وهي عمود التصديق الكائن في هذه الصناعة .
فلو كان إنما يوجد من أجزاء الخطابة الشيء الذي هو موجود الآن منها في بعض المدن، لما كان لما تكلم هؤلاء فيه من الخطاب جدوى ولا منفعة، ورأي من رأى أن استعمال جميع الأشياء التي يراد تثبيتها بطريق الخطابة هو الصواب.
وقد يجب أن تكون السنن هي التي تحدد أن الأمر جور أو عدل، وتفوض أن الأمر وجد من هذا الشخص أو لم يوجد إلى الحكام.
وبالجملة فتفوض إليهم الأمور اليسيرة، وذلك لشيئين: أما أولا؛ فإنه قلما يوجد حاكم يقدر أن يميز الأمور على كنهها، فيضع أن هذا الأمر جور وهذا عدل، إلا في الأقل من الزمان.
وأكثر الحكام الموجودين في المدن في أكثر الزمان ليس لهم هذه القدرة.
وأما ثانيا؛ فلأن الوقوف على أن الشيء عدل أو جور يحتاج واضع السنن فيه إلى زمان طويل، وذلك لا يمكن في الزمن اليسير الذي يقع فيه التناظر في الشيء بين يدي الحكام.
وإذا كان الأمر كذلك فمعلوم أن هؤلاء الذين تكلموا في الأشياء التي من خارج - أعني في صدور الخطب، وفي الاقتصاص، وفي الانفعالات وما يجري هذا المجرى - لم يتكلموا في شيء يجري في الخطابة مجرى الجزء، وإنما تكلموا في أشياء تجري مجرى اللواحق، ومن أجل أنه معلوم أن الأشياء المنسوبة إلى هذه الصناعة إنما يقصد بها التصديق والاعتراف من المخاطب بالشيء الذي فيه الدعوى.
وللخطابة منفعتان: إحداهما أن بها يحث المدنيين على الأعمال الفاضلة، والثانية أنه ليس كل صنف من أصناف الناس ينبغي أن يستعمل معهم البرهان في الأشياء النظرية التي يراد منهم اعتقادها، وليس واجبا أن نرى أنه قبيح بالإنسان أن يعجز عن أن يضر بيديه، ولا نرى أنه قبيح أن يعجز عن أن يضر بلسانه الذي المضرة به مضرة خاصة بالإنسان.
فهذه الصناعة التي ذكرنا منافعها.
والخطابة هي قوة تتكلف الإقناع الممكن في كل واحد من الأشياء المفردة، وليس كما ظن الذين ذكرنا أنهم تكلموا في الخطابة أن الفضيلة والأناة إنما هي نافعة في باب الانفعال فقط.
ومقدمات القياسات الخطبية قد تكون ضرورية، وذلك في الأقل، وتكون ممكنة، وذلك في الأكثر.
وكما يوجد الاستقراء والقياس في صناعة الجدل والبرهان، كذلك يوجد المثال في الخطابة، وقد يجب أن يفعل هاهنا في هذه الأشياء مثل ما فعل في كتاب الجدل، وكلما كان القول أكثر عموما كان أكثر مؤاتاة وتأتيا لأن يستعمل في أشياء كثيرة، وكلما كان أقل عموما كان أحرى أن يكون جزءا من صناعة مخصوصة.
ولما كانت هذه الصناعة قياسية؛ فمعلوم أنه يجب أن تكون فيها مقدمات من الضرورة الداعية لهذه الأشياء ومقدار الحاجة إليها، يقف الخطيب على مقدار ما يحتاج أن يشير به في واحد من هذه الأشياء.
وأجناس القول الخطبي ثلاثة: مشوري، ومشاجري، وتثبيتي.
وغاية الأول النافع والضار، وغاية الثاني الجور والعدل، وغاية الثالث الفضيلة والرذيلة.
والأمور التي يشير بها الخطيب: منها ما يشير به على أهل المدينة بأسرهم، ومنها ما يشير به على واحد من أهل تلك المدينة أو جماعة. فأما الأشياء التي تكون فيها المشورة في الأمور العظام من أمور المدن، فهي قريبة من أن تكون خمسة: أحدها الإشارة بالعدة المدخرة من الأموال للمدينة، والثاني الإشارة بالحرب أو السلم، والثالث الإشارة بحفظ البلد مما يرد عليه من خارج، والرابع الإشارة بما يدخل في البلد ويخرج عنه، والخامس الإشارة بالتزام السنن.
والذي يشير بالعدة يحتاج أن يعرف ثلاثة أمور: أحدها غلات المدينة ما هي؟ كيما إن نقص من الفاضل منها للعدة شيء أشار بالزيادة فيها. والثاني أن يعرف نفقات أهل المدينة كلها. والثالث أن يعرف أصناف الناس الذين في المدينة، فإن كان فيها إنسان بطال أو عاطل أشار بتنحيته عن البلد، وإن كان هنالك عظيم من النفقات في غير الجميل أو في غير الضروري أشار بأخذ ذلك الفضل من المال منه؛ فإنه ليس يكون الغناء بالزيادة في المال، بل والنقصان من النفقة.
وأما المشير بالحرب أو السلم؛ فإنه يحتاج أن يعرف قوة من يحارب ومقدار الأمر الذي ينال بالمحاربة، وحال المدينة في وثاقتها وحصانتها وضعف أهلها وقوتهم، وأن يعرف شيئا من الحروب المتقدمة ليصف لهم كيف يحاربوا (كذا) إن أشار عليهم بالحرب، أو يعرفهم بما في الحرب من مكروه إن أشار بترك الحرب.
وقد يحتاج لأن يعرف ليس حال أهل المدينة فقط، بل وحال من في تخومه وثغوره، أعني كيف حالهم في هذه الأشياء، وحالهم مع عدوهم في الظفر به والعجز عنه، فإنه يأخذ من هاهنا مقدمات نافعة في الإشارة عليهم بالحرب أو السلم، ويحتاج مع هذا أن يعرف الحروب الجميلة من الحروب الجائرة، وأن يعلم حال الأجناد هل هم متشابهون في القوة والشجاعة والرأي وإجادة ما فوض إلى صنف منهم من القيام بجزء جزء من أجزاء الحرب، أعني أن يكونوا في ذلك متشابهين، فإنهم ربما كثروا وتناسلوا، حتى يكون فيهم من لا يصلح للحرب أو للجزء من الحرب الذي فوض إليه القيام به.
وقد ينبغي مع ذلك أن يكون ناظرا ليس فيما أفضت إليه محاربتهم فقط، بل وفيما أفضت إليه حروب سائر الناس من المتقدمين المشابهين لهم، فإن الشبيه يحكم منه على الشبيه، أعني أنه إن كان أفضت الحروب الشبيهة بحربهم إلى مكروه أن يشير بالسلم، وإن كانت أفضت إلى الظفر أن يشير بالحرب.
وأما حفظ البلاد فإنه يحتاج المشير بالحفظ أن يعرف كيف تحفظ البلاد، وما مقدار الحفظ المحتاج إليه في طارئ طارئ، وكم أنواع الحفظ، ويعرف مع هذا المواضع التي يكون حفظها بالرجال، وهي التي تسمى بالمسالح، فإن كان الحفظ لتلك المواضع قليلا زاد فيهم، وإن كان منهم من لا يصلح للحفظ نحاه كمن ليس يقصد قصد المحاماة عن المدينة، بل يقصد قصد نفسه.
وينبغي له أن يحفظ أكثر من تلك المواضع الخفية - أعني التي المنفعة بحفظها أكثر - فمن عرف هذا فقد يمكن أن يشير بالحفظ، وأن يكون خبيرا بالبلاد التي يشير بحفظها.
وأما الإشارة بالقوت وسائر الأشياء الضرورية التي تحتاجها المدينة، فإنه يحتاج المشير فيه أن يعرف مقدارها، وكم يكفي المدينة منها، وكم الحاضر الموجود في المدينة ، وهو الفاضل عن أهل المدينة ، وما الأشياء التي ينبغي أن تدخل وهو ما قصر عن الضروري؛ لتكون مشورته وما يعهد به على حسب ذلك.
فإنه قد يحتاج المرء أن يحفظ أهل مدينته لأمرين: أحدهما لمكان ذوي الفضائل، والثاني لمكان ذوي المال الذين هم من أجل ذوي الفضائل.
والحافظ للمدن يحتاج بالجملة أن يكون عارفا بجميع هذه الأنواع الخمسة.
وأما النظر في وضع السنن والإشارة بها فليس بيسير في أمر المدن؛ فإن المدن إنما تسلم ويلتئم وجودها بالسنن، وليس يئول الأمر في هذه السياسة - أعني سياسة الحرية - إلى سياسة الأخساء من قبل استرخاء السنن ولينها، وإن كان ذلك هو الأكثر، بل ومن قبل الإفراط؛ فإن كثيرا من الأشياء إذا أفرطت بطل وجودها كما يبطل وجودها من قبل الضعف والتقصير، ومثال ذلك أن الفطس
7
إذا أفرط وتفاقم كان قريبا من أن يظن أنه ليس هنالك أنف، وإذا كان غير مفرط قرب من الاعتدال.
ويحتاج مع ذلك أن يعرف السنن التي وضعها كثير من الناس فانتفعوا بها.
فهذه هي الأمور العظمى التي بها يشير المشيرون على أهل المدن، والذين تكلموا في هذه الصناعة فلم يتكلموا من هذه الأشياء إلا فيما يجري مجرى الأمور الكلية، مثل أنهم قالوا: ينبغي للخطيب أن يعظم الشيء الصغير إذا أراد تفخيمه، ويصغر الشيء الكبير إذا أراد تهوينه، وينبغي له ألا يأذن في الأشياء التي تفسد صلاح الحال، وفي الأشياء التي تعوق عن صلاح الحال إلى ضده، ولم يقولوا ما هي الأشياء التي يعظم بها الشيء أو يصغر، ولا ما هي الأشياء التي توجب اختلال صلاح الحال أو تعوقه أو تتجاوزه إلى ضده.
فأما صلاح الحال فهو حسن الفعل مع فضيلة وطول من العمر، وحياة لذيذة مع السلامة والسعة في المال مع حرية، بشرط أن يكون الإنسان متمتعا، أي ملتذا لا حافظا للمال فقط أو منميا.
ومن الأمور النافعة في اليسار والفاعلة له الأشجار المثمرة والغلات من كل شيء، واللذيذ من هذه هو ما يجنى بغير تعب ولا نفقة ، وأما فضيلة الجسد فالصحة، وذلك أن يكونوا عارين من الأسقام البتة، وأن يستعملوا أبدانهم؛ لأن من لا يستعمل صحته فليس تغبط نفسه بالصحة.
وأما الحسن فإنه مختلف باختلاف أصناف الإنسان، فحسن الغلمان وجمالهم هو أن تكون أبدانهم وخلقهم بهيئة يعسر بها قبولهم الآلام والانفعال؛ ولذلك كان الناس يرون فيمن كان مهيئا نحو الخمس المزاولات أنه جميل؛ لأنه مهيأ بها نحو الخفة والغلبة، وأما البطش فإنه قوة يحرك المرء بها غيره كيف شاء.
وأما فضيلة الفخامة فهو أن يفوت كثيرا من الناس ويجاوزهم في الطول والعرض والعمق، وتكون مع ضخامته حركاته غير متكلفة لجودة هذه الفضيلة.
وأما الهيئة التي تسمى بالجهادية؛ فإنها مركبة من الفخامة والجلد والخفة.
وأما الشيخوخة الصالحة؛ فإنها دوام الكبر مع البراءة من الحزن، وأما كثرة الخلة وصلاح حال الإنسان بالإخوان؛ فذلك أيضا غير خفي.
وأما صلاح الجد فهو أن يكون الاتفاق لإنسان ما علة لوجود الخير له.
والفضائل - وإن كانت غايات - فهي أيضا خيرات في أنفسها ونافعة في الخير، وقد ينبغي أن نخبر عن كل واحد من هذه، وكيف هي خير في أنفسها، وكيف هي فاعلة للخير.
ومن النافعات بذاتها الملكات الطبيعية التي يكون الإنسان بها مستعدا لأشياء حسنة، مثل الذكاء والحفظ والتعلم وخفة الحركات، والعلوم والصنائع والسير المحمودة.
فهذه هي الخيرات التي يعترف بها، ويجتمع على أنها خيرات ونافعات.
ومن الاصطناعات النافعة والأفعال التي يعظم قدرها عند المصطنع إليهم أن يختار الإنسان إنسانا عظيم القدر من جنس ما من الناس، له أيضا عدد عظيم القدر في جنس آخر من الناس، فيفعل بعدد ذلك الإنسان الشر وبأصدقائه الخير، مثل ما عرض لأوميروش مع اليونانيين وأعدائهم، فإنه قصد إلى عظيم من عظماء اليونانيين في القديم فخصه بالمدح وأصدقاءه من اليونانيين، وخص عدوا له عظيما بالهجو هو وقومه المعادين اليونانيين في حروب وقعت بينهما، فكان رب النعمة العظيمة بذلك عند اليونانيين، وعظموه كل التعظيم، حتى اعتقدوا فيه أنه كان رجلا إلهيا، وأنه كان المعلم الأول لجميع اليونانيين.
فمن هذه الوجوه يأخذ الخطيب المقدمات التي منها يقنع أن الشيء نافع أو غير نافع، ويستبين أن الشيء الذي هو مبدأ ليس يلزم أن يكون أعظم من الشيء الذي هو له مبدأ؛ وذلك أن الإرادة مبتدأ الخير، وفعل الخير أعظم من إرادة الخير، والذي يحكم به الكل من الجمهور أو الأكثر أو ذوي الألباب والأخيار الصالحين أنه خير وأفضل؛ فهو أفضل بإطلاق، وفي نفسه، إذا كان حكمهم في الأشياء بحسب فطرهم وكانوا ذوي لب، لا بحسب ما استفادوه من الآراء من خارج. وما اختاره الكل آثر مما لا يختاره الكل من الجمهور، وما اختاره أيضا كثير من الناس آثر مما يختاره القليل من الناس، وما اختاره أيضا الحكام الأول - أعني الذين لا يأخذون الأحكام من غيرهم وهم الشراع - أفضل مما لم يختاروه.
والفضلاء الأبرار الذين جرت العادة أن يأخذ عنهم الجميع أو الأكثر فحكمهم أفضل.
ومن الصنف المقبول القول من الناس جدا جدا الصنف الذين كراماتهم أعظم؛ لأن الكرامة لما كانت مكافأة الفضيلة كان المرء كلما عظمت فضيلته ظن به أنه قد عظمت فضيلته.
والصنف من الناس الذين نالتهم المضرة العظيمة والشقاء الكبير لمكان الفضائل هم أيضا مقبولو القول جدا جدا بمنزلة سقراط وغيره.
وقسمة الشيء إلى جزئياته يخيل في الشيء أنه أعظم؛ ولذلك لما أراد أوميروش الشاعر أن يعظم الشر الذي لحق المدينة أخذ بدله جزئياته، فذكر قتل الأولاد والنوح عليهم وحرق المدينة ... إلخ إلخ.
وكذلك الترتيب قد يخيل في الشيء أنه أعظم وهو عكس هذا.
ولما كانت الأشياء الأعسر وجودا في نفسها، والأقل وجودا يظن بها أنها أفضل، كانت الأشياء الكثيرة الوجود في نفسها والسهلة الوجود قد ترى عظيمة في المواضع التي يقل وجودها، أو في الأزمنة التي يقل وجودها فيها أيضا، أو في الأسنان من الناس التي يقل وجودها فيها.
وحد الأشياء التي يتعمد بها المدح أنها التي إذا فعلت بجهل أو بغلط لم تمدح أصلا، والتي يتعمد بها الحقيقة هي الأشياء التي كيفما فعلت فقد حصلت على التمام ؛ ولذلك كان حسن قبول الشيء الجميل آثر من فعل الشيء الجميل.
إلى أن يقول:
وأما بعد هذا فنحن قائلون في النقيصة والفضيلة والجميل والقبيح؛ لأن هذه هي التي يمدح بها ويذم، ومن أجل أنه يعرض كثيرا أن يمدح الناس والروحانيون (أي: الأرواح العليا) بالفضيلة وبأشياء غير الفضيلة، وليس يعرض هذا في مدح هؤلاء فقط، بل وفي مدح الأشياء المتنفسة وغير المتنفسة.
والجميل هو الذي يختار من أجل نفسه، وهو ممدوح وخير ولذيذ من جهة أنه خير.
والفضيلة هي ملكة مقدرة لكل فعل هو خير من جهة ذلك التقدير أو يظن به أنه خير.
وأما أجزاء الفضيلة؛ فالبر أي العدل العام، والشجاعة، والمروءة، والعفة، وكبر الهمة، والحلم، والسخاء، واللب، والحكمة، وسائر الأشياء التي يمدح بها مما عدا الفضيلة، فليس يعسر الوقوف عليها.
وفعل الأشياء التي هي خيرات على الإطلاق كذلك مما يمدح به، ولذلك كان التعصب للأشياء التي تكسب المجد، والمحاماة عنها قد تجعل المتعصب لها والمحامي عنها من أهل الفضائل التي لا تحصل للإنسان إلا بمجاهدة كبيرة للطبيعة، مثل العفاف والشجاعة وغيرهما. والإنعام على الغير إذا لم يستفد المنعم منه شيئا هو مما يمدح به.
ومن الشرف ألا يحتاج الإنسان إلى آخرين، بل يكون مكتفيا بنفسه، وقد ينبغي أن نأخذ في المدح والذم الأمور القريبة من الفضائل والنقائص، وهي النقائص التي قد توجد عنها أفعال الفضيلة، أو الفضائل التي قد توجد عنها النقائص. ومثال النقائص التي توجد عنها أفعال الفضائل فتوهم أنها فضائل، العي
8
الذي قد يكون عنه أفعال الحليم، فيوهم به أنه حليم، والبله الذي قد توجد عنه أفعال ذوي السمت، فيتوهم بذلك أنه ذو سمت.
ومثال ما يوهم به أنه نقيصة وليس بنقيصة، ما يعرض للكبير الهمة من أن يتجافى عن الأمور اليسيرة، فيظن به أنه يغلط وينخدع.
وقد ينبغي أن يكون المدح بحضرة الذين يحبون الممدوح، ومن المدح بالأشياء التي من خارج مدح الآباء وذكر مآثرهم، ومدح المرء بما تسمو إليه همته من المراتب، وإنما يكون المدح على الحقيقة بالأفعال التي تكون على المشيئة والاختيار.
وجودة البخت التي قيل إنها السعادة على ما يراه الجمهور، هي وسائر الأشياء الاتفاقية التي يمدح بها واحدة في الجنس، وليست هي والفضائل واحدة بالجنس، بل كما أن صلاح الحال جنس للفضيلة - أعني محيطا بها - كذلك ما يحدث بالاتفاق جنس يحيط بالسعادة، وهذان الجنسان يدخلان جميعا في باب المدح وباب المشورة.
ثم يختم التلخيص قائلا:
وينبغي أن يستعمل في المدح الأشياء التي يكون بها عظم الشيء وتنميته، وهو أن يخيل في الشيء أنه بالقوة أشياء كثيرة، وذلك إذا قيل إنه أول من فعل هذا، أو إنه وحده فعل هذا، أو إنه فعل في زمان يسير ما من شأنه أن يفعل في زمان كثير، فإن هذه كلها إنما تفيد عظم الفعل، والذين شأنهم أن يتشبهوا بالممدوحين الذين في الغاية، ويقيسوا أنفسهم معهم دائما، فقد ينبغي أن يشبهوا بأولئك، وأن يجروا مجراهم في المدح وإن لم يكونوا وصلوا مراتبهم، فإن فضائلهم في نمو دائم، ومقايسة الإنسان نفسه مع غيره لا تصح إلا من الرجل الفاضل. (3) ابن رشد الطبيب (3-1) الطب
تكلم غير واحد من مترجمي ابن رشد عن علومه ومشاركاته، فقالوا إنه كان طبيبا فقيها يرحل إلى فتواه في الطب كما يرحل إلى فتواه في أحكام الشريعة، وقد كان عمله في القضاء مقترنا بعمله في الطب عند أمراء الموحدين، ولم تكن الفلسفة ولا شك تستغرق كل وقته، ولكنها - ولا شك أيضا - كانت غالبة على تفكيره ملموسة في كثير من آرائه الطبية، وربما كانت آراء أرسطو - حيث عرض للكلام عن القلب والدماغ وعلاقتهما بالنفس الحية والعقل المجرد - أرجح عنده من كلام جالينوس، مع إحاطته بكل ما وصل إلى الأندلس باللغة العربية من كلام هذا الطبيب العظيم.
ومن أمثلة ذلك رأيه في مصدر الحركة من جسم الإنسان، فهو خلاصة مذهب أرسطو في وجود الله ووجود العالم؛ إذ كان أرسطو يقول عن الله إنه «المحرك الأول»، وإن حركة المادة لا بد أن تأتي من شيء غير مادي لا يتحرك، وإلا لزمت نسبة الحركة إلى مادة بعد مادة، والعقل لا يستقر إلى الدور والتسلسل في الأسباب الماضية.
وابن رشد يقول عن مصدر حركة الجسم في الصفحات الأولى من كتاب «الكليات»:
تبين في العلم الطبيعي أن كل متحرك له محرك، وأن المحرك إذا كان جسما فإنه إنما يحرك بأن يتحرك؛ فلذلك ما يحتاج المحرك إذا كان جسما إلى محرك آخر، فإن كان هذا أيضا جسما مر الأمر إلى غير نهاية، أو يكون هاهنا محرك يحرك لا بأن يتحرك، وذلك بألا يكون جسما، فهذا أحد ما يظهر منه أن المحرك الأقصى للحيوان في هذه الحركات ليس بجسم أصلا، وأنه قوة نفسانية، ولننزلها - كما قلنا - القوة المخيلة إذا اقترنت إليها النزوعية ووقع هنالك إجماع.
وإن هذا المحرك الذي ليس بجسم ملزم ضرورة أن يكون المتحرك الأول عنه جسما، وذلك بأن يكون المتحرك عنه كالهيولى له وهو له كالصورة؛ إذ ليس يمكن في المحرك الأقصى للحيوان ألا يكون في غير هيولى، كما يقال إن هاهنا مبادئ لهذه الصفة. وإذا كان ذلك كذلك فلننظر أي جسم هو ذلك الجسم، وهو ظاهر أنه الحرارة الغريزية التي في أبدان الحيوان؛ ولذلك متى بردت الأعضاء بطلت حركتها.
وبالجملة فهو من البين بنفسه، ومما قيل في العلم الطبيعي، أن أحد ما يؤخذ في حد هذه الحركات هي الحرارة الغريزية، وبخاصة أفعال الغذاء، وهذا مما لا خلاف فيه.
لكن جالينوس يرى أن ينبوع هذه الحرارة هو الدماغ، وأنها تنبث منه في الأعصاب إلى جميع البدن، وأما أرسطو فيرى أن الدماغ خادم في هذا الفعل للقلب على جهة خدمة الحواس - أعني أنه يعدلها - وأن هذه الحرارة ينبوعها القلب. وقد يمكن أن نبين ذلك بمثل البيانات التي تقدمت، وذلك أنه يظهر أن الماشي في حين مشيه تنتشر في بدنه حرارة لم تكون قبل، والعضو الذي شأنه أن تنتشر منه الحرارة في جميع البدن هو القلب لا شك فيه؛ ولذلك متى طرأ على الإنسان شيء يفزعه وانقبضت الحرارة الغريزية إلى القلب، ارتعشت ساقاه حتى إنه ربما سقط ولم يقدر أن يتحرك، وإذا كان ذلك كذلك فالقوة المدبرة الأولى في هذه الحركة - وهي التي تقدر هذه الحرارة في الكمية والكيفية - هي في القلب ضرورة. وأيضا فقد يقر جالينوس وجميع الأطباء أن القوة النزوعية في القلب، والدماغ خادم لها على أنه معدل لها، وسواء توهمت التعديل بجرم العصب أو بروح نفساني يسري فيه لا فرق بينهم، إلا أنه ليس من العصب شيء يظهر فيه روح على ما يقوله جالينوس إلا العصبتان المجوفتان اللتان تأتيا في العينين، وأما المتحرك الأول عن الحار الغريزي فإن جالينوس يرى أنه للعضل، أما في الأعضاء التي ليس فيها عظام ولا هي مفاصل فبنفسه، وأما في المفاصل فبالأوتار النابتة من العضلة إلى طرف العظم، وذلك أن العضل إذا انقبض إلى نفسه انجذب ذلك الوتر؛ ولأنه مربوط بطرف العظم يتحرك ذلك العظم بحركته، وإذا كان للعضو حركتان متضادتان كانت له عضلات متضادة الموضع تجذبه كل واحدة منها إلى ناحيتها وتمسك المضادة لها عن فعلها، فإن عملت كلاهما في وقت واحد استوى العضو وتمدد وقام.
مثال ذلك الكف إذا مدها العضل الموضوع في ظهرها انثنت إلى خلف، وإن مدته جميعا استوت وقامت.
والعضل الموجود في البدن كما قلنا عن رأي جالينوس خمسمائة عضلة وتسع وعشرون عضلة ... إلخ.
هذا مثال من تفكير الفيلسوف في الطب، أو مثال من موازنته بين رأي أستاذه الفلسفي وأستاذه الطبي، فإنه مع إنصافه في عرض الآراء يبدو مرجحا لحجة الفلاسفة على حجة الأطباء.
ولم يكن ابن رشد في طبه ناقلا مكتفيا بالنقل، بل كان يضيف إلى الآراء والصفات المنقولة شيئا من تجاربه، سواء فيما يرجع إلى فهم العلة أو إلى وصف العلاج، ومن ذلك أنه يقابل تمثيل بقراط وجالينوس للإقليم المعتدل بوطنهما اليونان، فيجعل الأندلس مثلا لاعتدال الإقليم، ويتصرف في الحكم بما يرجحه حيث تتعارض الآراء. •••
ونحن ناقلون من كلامه في الطب نموذجا لتأليفه ونموذجا لشرحه، فمن نماذج تأليفه ما ننقله من كتاب «الكليات»، ومن نماذج شرحه ما ننقله من تفسيره لأرجوزة ابن سينا في الطب، وهي مخطوطة بدار الكتب المصرية. (3-2) صناعة الطب
قال في مقدمة «الكليات» يعرف صناعة الطب: ... إن صناعة الطب هي صناعة فاعلة عن مبادئ صادقة يلتمس بها حفظ بدن الإنسان وإبطال المرض، وذلك بأقصى ما يمكن في واحد واحد من الأبدان، فإن هذه الصناعة ليس غايتها أن تبرئ ولا بد، بل أن تفعل ما يجب بالمقدار الذي يجب وفي الوقت الذي يجب، ثم تنتظر في حصول غايتها كالحال في صناعة الملاحة وقود الجيوش.
ولما كانت الصنائع الفاعلة - بما هي صنائع فاعلة - تشتمل على ثلاثة أشياء: أحدها معرفة موضوعاتها، والثاني معرفة الغايات المطلوب تحصيلها في تلك الموضوعات، والثالث معرفة الآلات التي تحصل بها تلك الغايات في تلك الموضوعات؛ انقسمت باضطرار صناعة الطب أولا إلى هذه الأقسام الثلاثة: فالقسم الأول الذي هو معرفة الموضوعات يعرف فيه الأعضاء التي يتركب منها بدن الإنسان البسيطة والمركبة، ولما كانت الغاية المطلوبة هنا صنفين حفظ الصحة وإزالة المرض، انقسم هذا الجزء إلى قسمين: أحدهما يعرف فيه ما هي الصحة لجميع ما به تتقوم، وهي الأسباب الأربعة التي هي العنصر والصورة والفاعل والغاية وجميع لواحقها، والقسم الثاني يعرف فيه ما هو المرض أيضا بجميع أسبابه ولواحقه.
ولما كان أيضا ليس في معرفة ماهية الصحة والمرض كغاية في حفظ هذه وإزالة هذا، انقسم هذان الجزءان أيضا إلى جزأين آخرين: أحدهما يعرف فيه كيف تحفظ الصحة، والثاني كيف يبطل المرض.
ولما كانت الصحة أيضا والمرض ليسا بينين بأنفسهما من أول الأمر، احتيج أيضا إلى تعرف العلامات الصحية والمرضية، وصار هذا أيضا أحد أجزاء هذه الصناعة.
وإذا كان ذلك كذلك فباضطرار ما انقسمت هذه الصناعة إلى سبعة أجزاء عظمى:
الجزء الأول:
يذكر فيه أعضاء الإنسان التي شوهدت بالحس، البسيطة والمركبة.
والثاني:
تعرف فيه الصحة وأنواعها ولواحقها.
والثالث:
المرض وأنواعه وأعراضه.
والرابع:
العلامات الصحية والمرضية.
والخامس:
الآلات، وهي الأغذية والأدوية.
والسادس:
الوجه في حفظ الصحة.
والسابع:
الحيلة في إزالة المرض.
ونحن نقصد في ترتيبها هاهنا إلى هذه القسمة؛ إذ كانت هي القسمة الذاتية لها.
ثم أشار إلى الصناعات التي (تتسلم عنها) صناعة الطب كثيرا من مبادئها، فقال:
إن هذه الصنائع بعضها نظرية وهي العلم الطبيعي، وبعضها عملية، وهذه منها صناعة الطب التجريبية، ومنها صناعة التشريح.
فأما العلم الطبيعي؛ فإنه تتسلم منه كثيرا من أسباب الصحة والمرض، ولا سيما الأسباب القديمة، كالأسطقسات (العناصر) وغيرها.
وأما صناعة الطب التجريبية فإنه يستفيد منها معرفة قوى أكثر الأدوية، فإن الذي يدرك منها بالقياس نزر بالإضافة إلى ما يحتاج من ذلك، بل سبيل هذه الصناعة الطبية القياسية أن تعطى أسباب ما أوجدته الطريقة التجريبية.
وأما صناعة التشريح فإنها تتسلم منها كثيرا من أجزاء موضوعاتها، ولما كان صاحب الصناعة ليس يمكنه أن يعلم المبادئ المتسلمة في تلك الصناعة، بل إن كان فمن حيث هو صاحب صناعة أخرى؛ وجدت تلك المبادئ في صناعته من حيث هي مشهورة، وبخاصة في التي لا يتفق له فيها الوقوف على اليقين في جميع أجزائها، كتجربة الأدوية، فإنه بالإضافة إلى الوقوف على هذا الجزء من الصناعة استقصى بقراط العمر الإنساني في قوله: العمر قصير، وأما في الجزء القياسي منها فليس هنالك قصر.
وكذلك الأمر في زماننا هذا في كثير من الأعضاء المشاهدة بالتشريح؛ إذ كانت هذه الصناعة قد دثرت.
وينبغي أن تعلم أن صاحب العلم الطبيعي يشارك الطبيب؛ إذ كان بدن الإنسان أحد أجزاء موضوعات صاحب علم الطباع، لكن يفترقان بأن هذا ينظر في الصحة والمرض من حيث هي أحد الموجودات الطبيعية، وينظر الطبيب فيهما من حيث يروم حفظ هذه وإزالة هذا؛ ولذلك يحتاج الطبيب بعد معرفة الكليات التي تحتوي عليها هذه الصناعة إلى طول مزاولة، وحينئذ يمكن أن يوجدها في المواد، فإن الكليات المكتوبة في هذه الصناعة يلحقها عند إيجادها في المواد أعراض ليس يمكن أن تكتب، فإذا زاول الإنسان أعمال هذه الصناعة حصلت له مقدمات تجريبية يقدر بها أن يوجد تلك الكليات في المواد، وذلك كالحال في الصنائع العملية التي تستعمل الروية.
وأرسطو يخص هذه من بين الصنائع العملية بالقوى ، ومن هنا يظهر أن ما قيل في حد الطب من أنه معرفة الصحة والمرض والأشياء المنسوبة إليهما أنه حد غير صحيح؛ وذلك أنه أسقط من هذا الحد الفصل الذي به يتميز نظر صاحب هذا العلم من نظر صاحب العلم الطبيعي، وكذلك أيضا لا يلتفت إلى ما يقولونه من الحال التي ليست بصحة ولا مرض، فإنه ليس بين ضرر الفعل المحسوس و(لا ضرره) وسط، وإنما يختلف بالأقل والأكثر، وليس المتوسط بين الضدين أن يكون كل واحد منهما في جزء غير الجزء الذي فيه الآخر، ولا في زمن غير الزمن الذي فيه الآخر، وهذا بين مما قيل في العلم النظري ... (3-3) أمراض الدماغ
أكثر أمراض الأعضاء الباطنة التي تحتاج إلى الاستدلال عليها هي: إما أورام وإما سوء مزاج مادي أو غير مادي.
والدماغ يعرض له أصناف سوء المزاج - أعني الحار والبارد، والرطب واليابس - ويستدل على واحد واحد منها بالعلامات الدالة على غلبة ذلك المزاج على الدماغ، مثل حمرة الوجه وسخونة الملمس التي تدل على غلبة الدم، وتخص سوء المزاج الحار أو البارد أنهما يتبعهما الوجع المسمى صداعا، إلا أنه في المزاج الحار أحد.
وأما الرطوبة واليبوسة فليس يكون عنهما وجع، بل إنما يكون عن الرطوبة ثقل فقط، وقد يستدل على الرطوبة بثقل الرأس وكثرة النوم وكدر الحواس، وعلى اليبوسة بأضداد هذه الأعراض.
وربما كان هذا المزاج العارض للرأس حادثا فيه حدوثا أوليا، وربما كان من عضو آخر، وأكثر ذلك إنما يكون عن المعدة، ويستدل على ذلك بالصداع الذي يهيج عند تهوع
9
المعدة أو خلوها عن الطعام أو فساد الأغذية فيها، وبالجملة إنه يزيد مرض الدماغ بتزيد مرضها وينقص بنقصانه.
وربما كان بمشاركة العرقين السباتيين كما يعترى في الصداع المسمى شقيقة، ويستدل عليه بالعلامات الدالة على امتلاء الرقبة.
وربما كان ذلك بمشاركة جميع البدن، ويستدل عليه بالعلامات الدالة على أحد صنفي الامتلاء.
ويحدث بالدماغ جميع أصناف الأورام الحارة والباردة، والاستدلال هنا على العضو الآلم وعلى المرض قد يكون من الأفعال الخاصة به؛ وذلك أن الدماغ إذا أصابته مثل هذه الآفة أصابه بسببها اختلاط ذهن ملازم، وإنما قلنا ملازم فرقا بينه وبين الاختلاط الذي يكون بمشاركة عضو آخر كالذي يعرض من ورم الحجاب.
فأما كيف يستدل من هذه الأمراض الداخلة على الأفعال على نوع المرض الفاعل لذلك؛ فإن الذي يكون منها صفراويا يعرض لصاحبه خيالات ردية، ويخيل إليه كأن زئيرا على ثيابه فهو يلتقطه، ويصيبهم سهر، وإذا انتبهوا انتبهوا مذعورين. وأما الذي يكون عن الدم؛ فإن السهر فيهم يكون أقل ويعرض لهم ضحك وانبساط، كما أن الذي يكون من الصفراء يكون مع غضب وسوء خلق. وأما الذي يكون من السوداء؛ فإن فساد الذهن فيه يكون مع جزع شديد وخوف وبكاء. وأما الذي يكون عن البلغم؛ فإنه يكون عنه تعطل في القوى النفسانية ... (3-4) بعض الأغذية
الفواكه
وأما الفواكه فأفضلها التين والعنب.
التين:
والتين في مزاجه حار رطب، يخمل بالمعدة ويلين البطن، وفيه جلاء بحسب ما فيه من اللبنية، وأفضله أتمه نضجا.
العنب:
وأما العنب فإنه حار، حرارته قليلة، رطب باعتدال، يخصب البدن بسرعة، إلا أنه يكون عنه رياح في الهضوم كلها، بخلاف التين فإن الرياح المتولدة عنه إنما هي في المعدة والأمعاء.
وأما الزبيب فحار رطب، منضج، نافع للكبد، وأما نبيذه فهو أضعف في أفعاله من الخمر، وهو بالجملة ينوب منابها.
التفاح:
التفاح الحلو حار باعتدال، رطب، والحامض بارد يابس، خاصته تقوية الأعضاء الرئيسية، وهو يقوي الدماغ بالشم، وهذا كله بعطريته، وهو مما يولد رياحا غليظة في الهضم الثاني والثالث، حتى إنهم زعموا أنه ربما كان سببا للسل؛ وذلك أنه يخرق الرياح المتولدة عنه شرايين الرئة ... هكذا حكاه أبو مروان بن زهر، ولكن شرابه ليس يتولد عنه هذه النفخة.
الكمثرى:
أما الذي لم يدرك منه نضج فبارد يابس، وأما الذي أدرك فمعتدل أو مائل إلى البرد قليلا؛ لأنه مركب من حلاوة وحمضة، وقبض أفعاله الثوالث قبض البطن، وخاصته قطع العطش.
السفرجل:
أغلظ جوهرا من الكمثرى وأكثر قبضا؛ ولذلك صار برده أكثر، وخاصته أنه يشد النفس وينفع من الخفقان شمه كما ينفع الكمثرى، وهو في ذلك أقوى.
الرمان:
منه الحلو ومنه الحامض، وكلاهما رطبان، إلا أن الحلو أرطب وأحر، ويكون منه نفحة يسيرة، وخاصته أنه يمنع الأغذية من أن تفسد في المعدة.
الخوخ:
بارد رطب يحدث أخلاطا زجاجية، خاصته أنه إذا شم نفع المغشي، ينفع أكله من بخر المعدة، وأما لب نواه فإنه يجلو الوجه، ودهنه ينفع من ثقل الصمم، وعصارته تقتل الديدان.
المشمش:
وأما المشمش فإن مزاجه يقرب من مزاج الخوخ، إلا أنه ليس فيه خواص الخوخ.
العبقر:
هذا نوعان أبيض وأسود، وكلاهما إذا أدرك بارد رطب، يكثر برد الصفراء ويرخي فم المعدة بعض إرخاء.
البقول والحبوب
الباقلى:
إما أن يكون معتدلا في الحر والبرد، وإما أن يكون مائلا إلى الحر قليلا، وبذلك صار يحلل الأورام بالجلاء الذي فيه وينضجه، وهو كثير الرطوبة؛ ولذلك يتولد عنه نفخ كثير، وليس في الطبخ قوة على إذهاب نفخته ولو طبخ كل الطبخ كما يقول جالينوس، وزعموا أن خاصته الإضرار بالفكر، وأن من تمادى عليه لا يرى رؤيا صادقة.
الحمص:
حار باعتدال، رطب ذو نفخة أيضا، وأفعاله الثوالث أنه يزيد في المني، ويدر البول والطمث، ويفتت الحصى الأسود منه، والذي يؤكل منه رطبا يولد في المعدة والأمعاء فضولا كثيرة، والمقلو منه ومن الباقلى أقل نفخة، إلا أنه أعسر هضما، اللهم إلا أن يخلخله الإنقاع قبل ذلك، وخاصته تحمير البشرة، وذلك ضرورة لكثرة ما يتولد عنه من الروح ولذلك يعين على الباه.
العدس:
بارد يابس، يولد دما أسود، ويطفئ الدم الملتهب، ولا سيما إذا طبخ بالخل، وأفعاله الثوالث أنه يقطع الباه ويولد ظلمة البصر، وهو إذا سلق بالماء حابس للبطن.
الترمس:
يابس أرضي مر، فإذا نقع في الماء حتى تذهب مرارته كان غذاء طيبا، وهو إذا استعمل مرا قتل الأجنة وأخرج الحيات من الجوف، ويدر البول، ويفتح أفواه البول.
الأرز:
غليظ الجوهر، قريب من الاعتدال في الحر والبرد، يقطع الإسهال، وهو غذاء لذيذ إذا طبخ باللبن.
اللوبياء:
إلى الحرارة ما هي، والرطوبة، تخصب البدن وتدر البول والطمث، وتلين البطن وخاصة الأحمر منه، وتري أحلاما وتغزر الرأس.
الدخن:
بارد يابس، عاقل للبطن، قليل الغذاء.
الذرة:
باردة يابسة، قليلة الغذاء.
الجلبان:
بارد يجفف، قليل الغذاء. (3-5) الرياضة
الرياضة هي حركة الأعضاء إرادة ما.
وذلك (أولا) للأعضاء التي شأنها أن تتحرك بهذه الحركة، وهي جميع الأعضاء التي لها حركة إرادية.
و(ثانيا) للأعضاء التي تجاوز هذه، وهي الأوردة وآلات الغذاء.
ولما كانت الرياضات هي حركات الأعضاء كان منها جزئي وكلي؛ وذلك أن منها ما هي رياضة لجميع البدن، وهي الحركة الكلية لجميع الحيوان، ومنها ما هي رياضة مخصوصة بعضو ما، مثل: أن الصوت رياضة الرئة، والقيام والقعود رياضة للصلب، ولن يخفى على من كان عالما بحركة الأعضاء أي رياضة تخص عضوا عضوا، فهذا أحد ما تنقسم إليه الرياضة من جهة الأعضاء أنفسها.
والرياضة منها قوية ومنها خفيفة، وكل واحد من هذين إما أن يكون عن نقلة المرتاض أعضاءه بعضا، وهو يوجد فيها السريعة والبطيئة.
وإما أن يكون مقاومة بينه وبين محرك آخر يثبت في مكان ويأمر غيره أن ينزعه منه، ومن هذا النوع إشالة الحجر وغير ذلك، وهذه ليس يوجد فيها السرعة والبطء، وربما اجتمع في الرياضة السرعة والقوة، كالذين يطفرون بالحراب.
والرياضة المعتدلة فعلها بالجملة تنمية الروح الغريزية، وتدفع الفضول عن آلات الغذاء وتحليلها وتطيب الأعضاء أنفسها، وهي في هذا المعنى أفضل شيء تنمى به الحرارة، ...
وهذه إذا استعملت بعد تمام الهضم نفعت هذه المنفعة التي ذكرنا، وأما متى استعملت والغذاء غير منهضم لن يؤمن عن استفراغ الأعضاء أنفسها أن تجتذب الغذاء إليها غير منهضم.
وبالجملة فالقوة الهاضمة إنما يكمل فعلها بالسكون، كما أن القوة الدافعة إنما يكمل فعلها بالحركة؛ ولهذا كان وقت الرياضة هذا الوقت، وعلامة هذا الوقت أن يكون البول منصبغا أترجيا
10
لا شديد الحمرة، ومقداره في القوة هو أن يبتدئ البدن يعرق والنفس يتصاعد.
وأما الرياضة القوية فإنما تستفرغ من البدن أكثر مما تحتاج إليه ، فهي بذلك تضعف كما نرى ذلك في أصحاب المهن القوية.
وأما الضعيفة فإنها لا تستفرغ كل ما يجب استفراغه؛ فلذلك كانت زائدة في الأعضاء ومنمية للأبدان.
وأما أن الرياضة بالجملة مصحة عظيمة، وأنها أشد من عدم الرياضة، فذلك بين من حال المقصورين في السجون؛ فإنها تصفر وجوههم وتفسد سحنهم وتخل أفعالهم الطبيعية كلها، وليس يظهر هذا في الإنسان فقط، بل وفي جميع الحيوانات المقصورة، كالطيور في الأقفاص وغير ذلك ... (3-6) شرح أرجوزة الرئيس
وفيما يلي مثال من شرحه في الطب، مقتبس من رسالته في التعقيب على أرجوزة ابن سينا، وهو من كلامه في تدبير الطفل في بطن أمه وبعد ولادته:
الطفل يحفظ في بطن أمه
كي لا تصيبه آفة في جسمه (كذا)
يريد أنه ينبغي أن تحفظ الأم كي لا تصيبها ضربة فينحل عضو من أعضاء الطفل.
والظئر أن تطعمه أو تسقيه
فاختر له مدة سن التربية
يقول: والظئر التي تطعمه أو تسقيه فأخير ما له من التربية أن تكون حسنة المزاج من أجل لبنها، إن كان يريد بالظئر المرضعة، وإن كان يريد غير المرضعة فمعناه أن تكون عارفة بتدبير الأطفال، أعني بتغذيتهم وإحمامهم وغير ذلك مما يحتاج إليه الطفل.
واحفظ على الحامل في معدتها
كي لا يرى الفساد في شهوتها
ولما كان الحوامل يعرض لهن كثيرا انقلاب المعدة، وذلك في أول حملهن، ويعرض لهن شهوات غير طبيعية، يقول: احفظ عليها في معدتها بأن تطعمها المقوية للمعدة القاطعة للشهوة الردية.
ويصلح الدم وينقى الفضل
ذاك الذي يكون منه الطفل
إن هاجها دم فلا تفصدها
بل بالبرود واللطاف اقصدها
يريد: واسقها ما يروق الدم ويصفيه، وإن هاج بها الدم فلا تفصدها واستعمل عوض ذلك المبردات للدم والمنظفة له، وإن أمر ذلك لأنه يخاف من الفصد أن يسقط الجنين.
تدبير الطفل في خاصته:
ادهنه بالقابض عند شده
حتى ترى صلابة في جلده
وحمه تنظفه من أخلاطه
ووسط الشد على قماطه
يقول: ادهنه بالأدهان القابضة عند شد قماطه، وحمه بالماء الحار المعتدل الحرارة، ولينظف من الأوساخ، واجعل شد القماط عليه متوسطا. وجالينوس يأمر بأن يسحق الملح ويذر على الأطفال حين يولدون.
ألزمه في يقظته الضياء
كيما يرى النجوم والسماء
كثر له الألوان بالنهار
لكي تقويه على الإبصار
هذه وصية في رياضة بصره وتقويته بالاستعمال؛ وذلك أن كل عضو يقوى بالاستعمال، وذلك أن يلزم في يقظته المواضع المضيئة، وأن يجعل بحيث يرى السماء والنجوم، وأن يكثر له الألوان الملونة.
ناغيه بالأصوات في تعليم
كيما تقويه على التكليم
هذه وصية باستعمال آلات السمع منه وإعداده لأن يتكلم؛ وذلك أن الأطفال من شأنهم أن يروضوا محاكاة المتكلم كما يفعل الطير الذي يقبل تعليم الكلام.
وامنعه أن يفصد أو أن يسهلا
حتى يرى أنفاعه قد اعتلا
وما اعترى من ورم أو حب
فلا تقابله له بجذب
يقول: والطفل لا ينبغي أن يفصد ولا أن يسهل، وإن اقتضت ذلك طبيعة المرض، حتى يتجاوز سن المنفعة، وهو أن يبلغ الرابع عشر من السنين أو الخامس عشر. وأما قوله:
وما اعترى من ورم أو حب
فلا تقابله له بجذب
فلا أدري ماذا يريد بالجذب، فإن كان يريد بالجذب تسييل المادة إلى غير جهة العضو الورم، وذلك بالفصد المضاد فهو منطو في نهيه عن الفصد، وإن كان يريد أنه لا ينبغي أن تجعل عليها الأدوية الجاذبة فهذه وصية تعم الأطفال وغيرهم من الأورام والحبوب، ولعل الأطفال بذلك أحق لرطوبة أمزجتهم.
وقد تناول ابن رشد شرح كلام ابن سينا في ذكر أمزجة الأزمنة، أي الفصول، فقال:
أقول في الزمان بالتقدير
إذ لا سبيل فيه للتحرير
فللشتاء قوة للبلغم
وللربيع هيجان للدم
والمرة الصفراء للمصيف
والمرة السوداء للخريف
لما تكلم في أصناف أمزجة الإنسان أراد أن يتكلم في أصناف أمزجة الزمان؛ فقوله: (فللشتاء قوة للبلغم) يريد أن مزاج الشتاء بارد رطب كمزاج البلغم، ولذلك البلغم يتولد فيه.
وقوله: (وللربيع هيجان للدم) يريد أن الربيع حار رطب على طبيعة الدم، ولذلك الدم يكثف فيه.
وقوله: (والمرة الصفراء للمصيف) يعني أنها تتولد فيه؛ لأنها حارة يابسة ، كما أنه حار يابس. (والمرة السوداء للخريف) يعني أن طبيعة الخريف هي طبيعة السوداء؛ ولذلك السوداء تتولد فيه.
وما قاله في الربيع من أنه حار رطب هو الحق، خلافا لرأي جالينوس في كتاب المزاج؛ لأنه صرح هناك أن الربيع معتدل بالمعنى الذي يقال عليه معتدل، أي الذي توجد فيه الكيفيات على السواء.
ولم توجد للموجودات فيه أفعال الحياة التي سببها الحرارة والرطوبة بأولى من فعل ضد الحياة، التي سببها البرد واليبس؛ لأنها لو تقاومت فيه القوى لم ينسب إليه توليد خلط من الأخلاط لا دم ولا غيره.
وبالجملة لا نشوء ولا كون لكل ما مزاجه شبيه بمزاجه كالدم. وجميع الكائنات التي توجد في هذا الوقت فقد يجب ضرورة أن يكون حارا رطبا، ويكون معتدلا؛ لأنه وسط بين الصيف والشتاء.
وكون الفصول لا توجد إلا أربعة وكذلك الأخلاط على أن الأمزجة أربعة، أعني المركبة.
ولو وجد مزاج معتدل بمعنى أن الأسطقسات (العناصر) فيه متساوية، لما وجد لهذا المزاج فعل منسوب إلى الكيفيات الأول، وكانت له صورة واحدة. (4) ابن رشد الفقيه
وابن رشد الفقيه كابن رشد الطبيب، وابن رشد الفيلسوف، محصل يحيط بموضوعه ويستقصي الأكثر الأهم من أصوله وفروعه، وقد كان على مذهب الإمام مالك كأكثر أهل المغرب، ولكنه كان يتتبع المذاهب في المسائل الخلافية، وله كتاب في الفقه سماه: «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» يدل اسمه على منحاه في التأليف؛ فإنه نافع للمبتدئين المجتهدين وللمحصلين المتوسعين، وقد ذكر ابن أبي أصيبعة وغيره كتاب المقدمات في الفقه بين كتب ابن رشد الحفيد، وهو خطأ يسهل التنبه إليه لمن ألقى نظره على الكتابين؛ إذ هما في موضوع واحد على نسق متقارب من التوسط بين الإسهاب والإيجاز، ومن المستبعد أن يشتغل مؤلف واحد بوضع كتابين في موضوع واحد على هذا المثال. وقد ترجم المقري لابن رشد الجد في كتاب «أزهار الرياض في أخبار عياض»، وذكر من تواليفه كتاب المقدمات لأوائل كتب المدونة، وكان ابن رشد الحفيد يشير في «بداية المجتهد» إلى كتاب المقدمات فيقول: «كما حكاه جدي رحمة الله عليه في المقدمات»، فهو على التحقيق من مؤلفات الجد لا من مؤلفات الحفيد.
ونحن ناقلون هنا كلامه في القضاء على سبيل المثال لإحاطته وتدوينه ورأيه في مهام عمله.
قال في كتاب «الأقضية» من «بداية المجتهد»:
والنظر في هذا الباب فيمن يجوز قضاؤه، وفيما يكون به أفضل، فأما الصفات المشترطة في الجواز فأن يكون حرا مسلما بالغا ذكرا عاقلا عدلا.
وقد قيل في المذهب: إن الفقه يوجب العزل ويمضي ما حكم به.
واختلفوا في كونه من أهل الاجتهاد؛ فقال الشافعي: يجب أن يكون من أهل الاجتهاد. ومثله حكى عبد الوهاب
11
عن المذهب، وقال أبو حنيفة: يجوز حكم العامي. قال القاضي: وهو ظاهر ما حكاه جدي رحمة الله عليه في المقدمات عن المذهب؛ لأنه جعل كون الاجتهاد فيه من الصفات المستحبة. وكذلك اختلفوا في اشتراط الذكورة؛ فقال الجمهور: هي شرط في صحة الحكم. وقال أبو حنيفة: يجوز أن تكون المرأة قاضيا في الأموال. قال الطبري: يجوز أن تكون المرأة حاكما على الإطلاق في كل شيء. قال عبد الوهاب: ولا أعلم بينهم اختلافا في اشتراط الحرية، فمن رد قضاء المرأة شبهه بقضاء الإمامة الكبرى، وقاسها أيضا على العبد؛ لنقصان حريتها، ومن أجاز حكمها في الأموال فتشبيها بجواز شهادتها في الأموال، ومن رأى حكمها نافذا في كل شيء قال: إن الأصل هو أن كل من يتأتى منه الفصل بين الناس فحكمه جائز، إلا ما خصصه الإجماع من الإمامة الكبرى.
وأما اشتراط الحرية فلا خلاف فيه، ولا خلاف في مذهب مالك أن السمع والبصر والكلام مشترطة في استمرار ولايته، وليست شرطا في جواز ولايته؛ وذلك أن من صفات القاضي في المذهب ما هي شرط في الجواز، فهذا إذا ولي عزل وفسخ جميع ما حكم به، ومنها ما هي شرط في الاستمرار وليست شرطا في الجواز، فهذا إذا ولي القضاء عزل ونفذ ما حكم به، إلا أن يكون جورا.
ومن هذا الجنس عندهم هذه الثلاث صفات.
ومن شرط القضاء عند مالك أن يكون واحدا، والشافعي يجيز أن يكون في المصر قاضيان اثنان إذا رسم لكل واحد منهما ما يحكم فيه، وإن شرط اتفاقهما في كل حكم لم يجز، وإن شرط الاستقلال لكل واحد منهما فوجهان: الجواز والمنع. قال: وإذا تنازع الخصمان في اختيار أحدهما وجب أن يقترعا عنده.
وأما فضائل القضاء فكثيرة، وقد ذكرها الناس في كتبهم، وقد اختلفوا في الأمي: هل يجوز أن يكون قاضيا؟ والأبين جوازه؛ لكونه - عليه الصلاة والسلام - أميا، وقال قوم: لا يجوز، وعن الشافعي القولان جميعا؛ لأنه يحتمل أن يكون ذلك خاصا به لموضع العجز، ولا خلاف في جواز حكم الإمام الأعظم، وتوليته للقاضي شرط في صحة قضائه، لا خلاف أعرف فيه.
واختلفوا من هذا الباب في نفوذ حكم من رضيه المتداعيان ممن ليس بوال على الأحكام؛ فقال مالك: يجوز، وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يجوز، وقال أبو حنيفة: يجوز إذا وافق حكمه حكم قاضي البلد.
وأما فيما يحكم فاتفقوا أن القاضي يحكم في كل شيء من الحقوق كان حقا لله أو حقا للآدميين، وأنه نائب عن الإمام الأعظم في هذا المعنى، وأنه يعقد الأنكحة ويقدم الأوصياء. وهل يقدم الأئمة في المساجد الجامعة؟ فيه خلاف. وكذلك هل يستخلف، فيه خلاف في المرض والسفر، إلا أن يؤذن له.
وليس ينظر في الجباة ولا في غير ذلك من الولاة، وينظر في التحجير على السفهاء عند من يرى التحجير عليهم.
ومن فروع هذا الباب: هل ما يحكم فيه الحاكم يحله للمحكوم له به، وإن لم يكن في نفسه حلالا؟ وذلك أنهم أجمعوا على أن حكم الحاكم الظاهر الذي يعتريه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا، وذلك في الأموال خاصة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار.»
واختلفوا في حل عصمة النكاح أو عقده بالظاهر الذي يظن الحاكم أنه حق ، وليس بحق؛ إذ لا يحل حرام ولا يحرم حلال بظاهر حكم الحاكم دون أن يكون الباطن كذلك. هل يحرم ذلك أم لا؟ فقال الجمهور: الأموال والفروج في ذلك سواء، لا يحل حكم الحاكم منها حراما ولا يحرم حلالا، وذلك مثل أن يشهد شاهدا زور في امرأة أجنبية أنها زوجة لرجل أجنبي ليست له بزوجة، فقال الجمهور: لا تحل، وإن أحلها الحاكم بظاهر الحكم، وقال أبو حنيفة وجمهور أصحابه: تحل له، فعمدة الجمهور عموم الحديث المتقدم، وشبهة الحنفية أن الحكم باللعان ثابت بالشرع، وقد علم أن أحد المتلاعنين كاذب، واللعان يوجب الفرقة ويحرم المرأة على زوجها الملاعن لها ويحلها لغيره، فإن كان هو الكاذب فلم تحرم عليه إلا بحكم الحاكم، وكذلك إن كانت هي الكاذبة؛ لأن زناها لا يوجب فرقتها على قول أكثر الفقهاء، والجمهور أن الفرقة هاهنا إنما وقعت عقوبة للعلم بأن أحدهما كاذب.
والقضاء يكون بأربع: بالشهادة واليمين والنكول والإقرار، أو بما تركب من هذه، ففي هذا الباب أربعة فصول.
هوامش
المراجع
أهم المراجع العربية
تهافت التهافت.
فصل المقال ...
الكشف عن مناهج الأدلة ...
بداية المجتهد ونهاية المقتصد.
تفسير ما بعد الطبيعة.
تلخيص كتاب المقولات.
تلخيص كتاب الخطابة لأرسطو.
شرح أرجوزة الطب لابن سينا.
الكليات.
مقدمة ابن خلدون.
نفح الطيب.
المعجب في تلخيص أخبار المغرب.
إخبار العلماء بأخبار الحكماء.
وفيات الأعيان.
جمهرة أنساب العرب.
قصة حي بن يقظان.
كتاب الأخلاق لأرسطو.
إلخ إلخ ...
أهم المراجع الأجنبية
Renan: A verroès et l’Averroisme .
Maurice de Wulf: History of Medievel
.
Joseph Maccabe: Splendour of Moorish Spain Legacy of Israel .
William James: Principles of
.
ناپیژندل شوی مخ