غير أن ابن رشد يقول إن الوصول إلى المعرفة إن تم لأناس بالكشف والرياضة الصوفية فتلك مزية خاصة وسائلها لا تعم جميع الناس، وإنما معرفة العقل هي المعرفة الإنسانية التي تسمو بالعارفين إلى منزلة الوصول وإدراك الحقائق والماهيات، وهو أعلى ما يقدر للإنسان من مراتب الكمال، وعنده أن البرهان وحي إلهي ولكنه ليس كوحي النبوة؛ إذ كل نبي حكيم، وليس كل حكيم معدودا من الأنبياء. •••
ولم يمض بحث ابن رشد في الحقيقتين صفوا عفوا بغير ضجة في القرون الوسطى؛ لأن الباحثين المتمردين تذرعوا به إلى التفرد بمباحث الفلسفة، وإن خالفت النصوص التي يفسرها آباء الكنيسة على حسب المتواتر عندهم، فجاء زمن كان فيه القول بالحقيقتين من المحرمات أو دلائل الزندقة والهرطقة التي تجر على صاحبها لعنة الحرمان. •••
هذه خلاصة عاجلة لفلسفة ابن رشد فيما بعد الطبيعة وفي طرف من النفسيات، وقد كانت له - كما تقدم - مشاركات في الرياضة والطبيعيات، وكان يقول إن هذه العلوم مما يعين على معرفة الموجد والموجودات. ومن أمثلة كلامه في فضل الرياضة قوله: «... لو فرضنا صناعة الهندسة في وقتنا هذا معدومة، وكذلك صناعة علم الهيئة، ورام إنسان واحد من تلقاء نفسه أن يدرك مقادير الأجرام السماوية وأشكالها وأبعاد بعضها عن بعض لما أمكنه ذلك، مثل أن يعرف قدر الشمس من الأرض وغير ذلك من مقادير الكواكب، ولو كان أذكى الناس طبعا إلا بوحي أو شيء يشبه الوحي، بل لو قيل له إن الشمس أعظم من الأرض بنحو مائة وخمسين ضعفا أو ستين، لعد هذا القول جنونا من قائله ...»
13
وله في المسائل الطبيعية تقريرات نعرض لها فيما سنختاره له من مباحثه الطبية، وكل هذه المعلومات عنده: «حكمة الله تعالى في الموجودات وسنته في المصنوعات ولن تجد لسنة الله تبديلا، وبإدراك هذه الحكمة كان العقل عقلا في الإنسان، ووجودها هكذا في العقل الأزلي كان علة وجودها في الموجودات ...»
14 •••
ونحسب أن إنصاف الحكمة الإنسانية القديمة يتقاضانا هنا أن نعقب على الآراء التي عرضناها بكلمة لعلها لازمة لتقويم الفكر الإنساني في العصر الحاضر وفي كل زمن، ولعلها إنصاف لمداركنا قبل أن تكون إنصافا لمدارك الأقدمين.
فالذين يبسمون سخرية من كلام الأقدمين في العقول المفارقة، عليهم أن يذكروا أننا صنعنا مثل صنعهم، فزعمنا وجود الأثير في الفضاء لنعلل به مسير الشعاع وسريان النور، ولا دليل عليه غير الفرض والتقدير، ولعل سيأتي يوم يبسم فيه الخالفون من فرضنا للأثير كما يبسم بعضنا اليوم من فرض الأقدمين للعقول المفارقة، تفسيرا للصلة بين الكائنات العلوية وبين الموجودات على هذه الغبراء.
والذين يبسمون سخرية من كلام الأقدمين عن سيطرة العقول على الأفلاك، عليهم أن يصطنعوا كثيرا من الأناة والحياء، فإن أقطابا من علماء الرياضة والطبيعة اليوم يقررون أن الموجودات كلها معادلات رياضية في عقل الخالق جل وعلا؛ لأن عناصر المادة كلها تنحل إلى ذرات، والذرات كلها تنحل إلى شعاع، وكل أولئك ليس له من مادة غير النسب والأعداد، وهي في باب التجريد أشد إمعانا من العقول المفارقة التي تصورها الأقدمون.
ولسنا نستبعد أن يعود الخالفون يوما إلى فلاسفة الأقدمين ليتخذوا من تفكيرهم قواعد للإدراك الصحيح في عالم الجواهر والماهيات، أو في عالم الحقائق الأبدية التي لا ينقضي البحث فيها بانقضاء زمانهم وانقضاء هذا الزمان. (3) أثر الفلسفة الرشدية
ناپیژندل شوی مخ