2
الصيادون برفق متبسمين تبسم القبول لمطابقة هذا المثل ما يرون في الغالب، ويستمر الرجل على الكلام، ويلقي الجميع أسماعهم إليه حين ذكره للزارع الذي يبذر بعض حبوبه على الطريق، وبعضها بين الأدغال
3
الشائكة، وبعضها بين الحجارة، وبعضها في الأرض الصالحة. ويدور حديث الرجل حول ملكوت السماوات، ويعي الحضور ما يقول في الدائنين والمدينين والمرابين، مشيرا إلى أهمية الحساب مع الله في آخر العمر، وتصغي إليه النسوة الجالسات خلف سياجهن مطرقات عند بحثه في قميص رث لا يمكن رقعه، وفي زجاجات قديمة قصفة غير نافعة لحفظ الخمر الجديدة، وفي أرملة تشتكي إلى القاضي، وفي ربة منزل تسأل في كل مكان عن دينار أضاعته. ولا غرو، فالرجل يعبر عن العالم الذي يعرفنه، وهن اللائي سئمن أدعية الكهان النمطية، ومواعظهم الصاخبة، والرجل يروقهن بلحيته الأنيقة، وشعره الممسوح بالزيت، وصوته العذب الرخيم وإن كان غريبا لم يولد على شاطئ البحيرة.
ولم يرق يسوع ثلاثة أو أربعة من الكتبة جالسين في الصف الأول؛ فقد ظهر لهم أنه لم يلازم مدرسة للكهنة، وأنه وإن كان ملما بالتوراة يجهل التفاسير التي هي أمر مهم، ويرون أنه لا خطر لأناس كيسوع تخرجوا على الطبيعة ما بقوا في قراهم؛ حيث يعرفهم أهلها فلا يعبئون بهم، فإذا ما تغربوا ظن الفلاحون أنهم أعلم من شيوخهم، فيخسر هؤلاء الشيوخ ما يتمتعون به من الثقة، ويرون أن يسوع ابتكر طريقة جديدة لحمل الناس على الإنصات له، فالمستمعون إذا ما أصغوا إليه خيل إليهم أنهم يسمعون حديثا زمنيا من أحاديث الأسواق، فبذلك يتقبلون يسوع بقبول حسن، فيرتع أسابيع على حساب البسطاء.
وإن أولئك لجالسون هنالك في غم منتظرين ختام كلام يسوع، وإن يسوع ليتكلم فيرسم بيديه ما يصفه بلسانه؛ إذ دوى صوت في الكنيس، فيقطع حديثه، وينهض ويلتفت القوم إلى الركن الذي صدر منه ذلك الصوت؛ فقد حدث أن رجع الحضور إلى الوراء أمام رجل سقط متشنجا وهو يقول: «آه، ما لنا ولك يا يسوع الناصري؟! أتيت لتهلكنا. أعرف أنك قدوس الله!»
بمثل تلك الكلمات يعبر شباه المجانين عن جميع الانطباعات الملائمة والمخالفة الناشئة عن فعل كلام ذلك الغريب في الأفئدة، فكأن أعصاب ذلك الأرعن قد سجلت ارتباك بعض الفريسيين الصامت، واستحسان الأميين الكثيرين الصامت، فكان ما رأيت من اختلاط التدنيس بالتقديس في كلمته تلك.
وجل يسوع، ويسوع، الذي جهر للمرة الأولى أمام جمع بأمور كان يتأملها طويل زمن، قد شعر بأن تلك القاعة الطويلة الشهباء تميد، وأن تلك الرءوس تتموج كالدخان فيعتريه غم من ينتظر قيامه بالأعمال، ويسوع الذي أعلن أمام الجمهور ما أخفاه في نفسه كبير وقت، قد أبعده من بلده إلى شواطئ تلك البحيرة، التي يعرف فيها كثيرا من المدن والقرى، ما أصابه من الفتور عندما كلمته أمه في ذلك العرس بقانا، وما وطن نفسه عليه من تبليغ الناس رسالته في عالم أوسع من منطقة الناصرة، وما عزم عليه من التأثير البالغ في الرجال. ويسوع الذي انقبض صدره في أوائل تلك الخطبة حينما التقى نظره وأنظار أولئك الكتبة التي تنم على معنى السؤال والاعتراض، لم يلبث أن وقع بصره على أبصار الحضور من الفلاحين والصيادين والفتيان والنساء، فأدرك كيف يخاطب عقولهم، ويلمس قلوبهم، ولكن صراخ ذلك الممسوس، ومنظر تلك القاعة التي استولى عليها الذعر والهيجان أعادت يسوع إلى مثل حالة التوتر التي استحوذت عليه في ذلك العرس حينما نفدت الخمر وكلمته أمه.
تقدم يسوع إلى الممسوس بخطى واسعة، وفسح الحضور له في القاعة كما لو كان طبيبا، فجثا بالقرب منه فأمسكه وجبذه قائلا: «اخرس يا شيطان، واخرج منه!» ويسقط المريض مرة أخرى على الأرض، ويتقلب ويتقلص ويدير نظره، ثم يسلم أمره إلى ذلك الحليم ذي الناظرين الثاقبين، فيرخي أعضاءه، ويغمض عينيه، ويهدأ تنفسه، ثم ينظر إلى ذلك الذي راضه، فيشعر معه بأن الشيطان غادر المكان، وهو يشعر بذلك؛ لأن ذلك الغريب قد حمله على اعتقاده ذلك، وهكذا هدأت الزوبعة، ونهض المريض مفرج الغم، تعبا قليلا، متعافيا كما يظهر.
رأى مئات الشهود هذه المعجزة فقالوا: إن ذلك الغريب من أولئك السحرة الذين يقدرون على طرد الشياطين كما كان يصنع قدماء الأنبياء، وغادر الغريب المكان محترما تعبا، فزالت منه لذة الوعظ التي زادت فيه كلما تقدم في خطبته تلك، وزالت منه قوة العزم التي تجلى فيها نشاطه عندما بدا طبيبا، ففر من الجمهور، وترك الشارع، وهجر المدينة، وهو حين وصل إلى الريف على شاطئ البحيرة، جلس على الرمل بين القصب مستجما جامعا لحواسه وأفكاره. •••
ناپیژندل شوی مخ