72

Ibn Hanbal: His Life and Era – His Opinions and Jurisprudence

ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه

ولقد وجدناه إذا اشتد به الأمر، واشتدت عليه الفاقة يرد كل عطاء عالماً بأن ما فيه من منة أغلظ مما هو فيه من عسرة، فيقبل ما هو فيه من شدة متفادياً بهذا من العطاء وأذاه.

وكان يحتال على سد رمقه وحاجة عياله بإحدى طرائق ثلاث:

أولاها-أن يدفعه بالتقاط بقايا الزرع ما يكون في حكم المباح، فكان ذلك العالم الجليل، المحدث يحمل حبله على عاتقه، ويذهب، فيجمع بقايا الزرع الذي يترك في الأرض مباحاً، وقد كان حريصاً على ألا ينزل في أرض أحد إلا بإذنه، وألا يفسد زرع أحد، ولذلك روي عنه أنه قال: ((خرجت إلى الثغر على قدمي، فالتقطنا، وقد رأيت قوماً يفسدون مزارع للناس، لا ينبغي لأحد أن يدخل مزرعة رجل إلا بإذنه))(١)

ويظهر أن ذلك إنما كان يلجأ إليه إذا لم يجد عملاً يعمله ويقتات منه، ويسد حاجته. فإن وجد عملاً يعمله لجأ إليه، وتلك هي الطريقة الثانية، ولا يجد غضاضة في أن يعمل مهما يكن نوع العمل مادام فيه نفع للناس وسد لحاجته، فكل عمل شريف في ذاته، مادامت النفس تعلو به، ولا تكون يد صاحبها اليد السفلى، فلا صغار في عمل يحله الدين ما دامت ترفع الإنسان عن خسة المتناول من إفضال الناس، والمتساقط من أموالهم.

وقد كان يؤجر نفسه للحمل في الطريق، إن لم يجد ما ينفقه سوى هذه الأجرة، وكان يكتب بأجرة إن لم يجد ما ينفق منه، ولقد جاء في تاريخ الذهبي في ترجمة أحمد، عن علي بن الجهم ما نصه:

((كان لنا جار، فأخرج إلينا كتاباً، فقال أتعرفون هذا الخط؟ قلنا هذا خط أحمد بن حنبل، فكيف كتب لك؟ قال كنا بمكة مقيمين عند سفيان بن عيينة، ففقدنا أحمد أياماً، ثم جئنا لنسأل عنه، فإذا الباب مردود عليه فقلت ما خبرك؟ قال سرقت ثيابي، فقلت معي دنانير، فإن شئت صلة، وإن شئت قرضاً، فأبى، فقلت: تكتب لي بأجرة؟ قال: نعم، فأخرجت ديناراً، فقال لي اشتر لي ثوباً، واقطعه

(١) المناقب لابن الجوزي ص ٢٢٤

71