95

فالشاعر ملتون كان من المتدينين المتطهرين، وكان أمين السر اللاتيني في حكومة الثورة، وكان وثيق الصلة بالقائد كرومويل الذي قاد الثورة على الملك شارل الأول، وقد عمي في أواخر أيامه، وشمت به شارل الثاني فقال له: ألا ترى يا مستر ملتون أن الله عاقبك بفقد بصرك على ما كتبته في أبي؟ وكان ملتون مشهورا بسرعة الجواب، وأجوبته في قصيدة الفردوس المفقود تعرض لقارئها أمثلة كثيرة على هذه القدرة في حوار الشيطان والملائكة، فأسرع إلى الجواب قائلا: وعلى أي ذنب عوقب أبوك بفقد رأسه؟

وملتون لم يبدع قصيدته كل الإبداع، بل استعار من جليوم دي بارتاس “Bartas” (1578) في قصيدته أسبوع الخليقة، واستعار من أفيتوس “Avitus”

في قصيدته عن الخليفة والسقوط والنفي من الفردوس، واستعار من القصص الشعبي الذي كان يدور حول مأساة آدم وحواء، ولكن هذه القصص جميعا نسيت أو كادت وبقيت قصته؛ لبلاغتها ودلالة صورها وتشبيهاتها، واتساعها لتلك الدراسات المنوعة التي أشرنا إليها.

يقول الشاعر دريدن: إن الشيطان هو بطل ملحمة «الفردوس المفقود» دون من فيها من الشخصيات العلوية والسفلية، ويرى النقاد الأدبيون رأي دريدن في هذه الملاحظة؛ فإن ملتون قد حول التفات القراء إلى الشيطان بما ألقاه على لسانه، وما شرحه من مزاعمه ومواقفه. وهو لا يعفيه من الذم واللعن والاستنكار، ولكن عباراته التي يذمه بها، ويستنكر بها فعاله، إنما تأتي مجاراة للعرف الشائع الذي يتشابه فيه كل قائل، على حين تبرز الأعمال والأقوال التي ينسبها إليه، أو يضعها على لسانه بروزا قويا موفور النصيب من عناية الشاعر وإعجابه.

وسر ذلك - مع تشيع ملتون للمتطهرين الدينيين - أنه كان ثائرا، ووجد في تمرد الشيطان فرصة للإفصاح عن حجج الثورة ودواعيها، وربما ظهر من دراسة الشيطان في قصيدة ملتون أنه يمثل شارل الأول في بعض الخلال، كما يمثل كرومويل في حالات أخرى، غير أنه كان يمثل شارل الأول في الخلال التي يعيبها الشاعر ويضيفها إلى خبائث الشيطان ومساوئه، ويمثل كرومويل في الصلابة والجرأة والاعتزاز بالنفس، وفي مجموعة تلك الخلائق التي جعلته يطلب المكان الأول في جهنم، ولا يقنع بالمكان الثاني في السماء.

ويلقي ملتون على لسان الشيطان أنه يرثي للملائكة الذين يحاربونه في صف الإله، وهو الذي غضب لهم، وأنف من المهانة التي تلحقهم بتفضيل بني آدم عليهم، وأنه لولا صواعق السماء لما طمعت جنود السماء في الغلبة عليه، وتخيل ملتون شيطانه في بعض مواقفه كأنه سلطان شرقي يستوي على ديوانه، ويحيط عرشه بوزرائه وأعوانه، وتخيله في أكثر المواقف على هيئة المغلوب الذي يؤسف على هزيمته، ولا تراد له إلا لأنه قضاء لا مرد له من الله.

وقد تضطرب صور الشيطان بين موقف وموقف إلا صورة واحدة تثبت له في جميع مواقفه، وهي الصورة التي ترضي الشاعر حين يتخذه لسانا ناطقا بحجج المتمردين، وحين يتخذه شبحا يحمله أوزار الطغاة وذوي الجبروت، فإن ملتون هو ملتون في الحالتين، وإن بدا الشيطان في صورة مضطربة كلما سامه أن يمثل الحالتين، ولا يندر أن تتقابلا مقابلة النقيضين.

ولعل القول الأصح أن الاختلاف بينهما إنما هو اختلاف دورين لا اختلاف شخصيتين، فقد كان الفرق بين كرومويل وشارل الأول فرق الطرفين المتقابلين، والعدوين المتقاتلين، ولكنهما في الطبائع الشخصية لا يتقابلان هذا التقابل على طرفي الميدان، بل يتقاربان تقارب الأشياء والنظراء. •••

وفي هذه الأسطر محل لأديب من معاصري ملتون يقتحمه اقتحاما بحكم المعاصرة، والاشتراك في الحرب الأهلية، والكلام عن الشيطان، ولا محل له إلى جوار ملتون بغير هذه المعاصرة وهذه المناسبة، ونعني بهذا الأديب جون بنيام “Bunyam”

مؤلف رحلة الحاج والحرب التي شنها شداي على إبليس. وإبليسه غاصب محتل لمدينة الروح الإنسانية، يحاصره عمانويل ابن باني المدينة شداي - اسم من أسماء الله عند العبريين - ثم يستولي عمانويل على المدينة، ويتغلغل فيها إبليس وجنوده بالمكر والدسيسة، ويستردها جميعا ما عدا قلعتها المحصنة، وهي ضمير الإنسان المؤمن بكفارة الخلاص. •••

ناپیژندل شوی مخ