(168) وقد يقرن حرف " ما " بنوع من الأنواع عد أن فهمنا ما يدل عليه اسمه الذي وضع أولا دالا عليه. فنقول " الإنسان ما هو " و" النخلة ما هي " ، فيجاب عنه بجنس ذلك النوع أو حده. فإنه قد يقال لنا في الإنسان " إنه حيوان " أو " إنه حيوان ناطق " ، وفي النخلة " إنها شجرة تحمل الرطب " . ويقال " ما العباءة " ، فيقال " هي ثوب من الصوف " ، فالثوب جنسه، وقولنا " ثوب من صوف " حده. وما يفهم من القول ماهيته والأشياء التي بها قوامه وجزء ماهية جنسه، ثم ما يقيد به جنسه مما به قوامه. والذي يردف به جنسه، فليس يجاب به وحده في جواب " ما هو الشيء " ، بل إنما يكون جوابا عن " ما هو الشيء " متى أردف به أو قيد الجنس، فإنه في " ما هو الشيء " ينفرد جنسا ومقيدا بشيء آخر حينا. ولو أردف جنسه بشيء مما يوجد له غير أنه ليس به قوام ذاته ولا يعرف ما هو ذلك الشيء أصلا، لم يكن القول حدا، كما لو قيل في العباءة " إنها الثوب الذي يلبسه المترهبون وأهل الصنائع القشفة مثل الملاحين والفلاحين " لكان تعريفا للعباءة لكن لا يحد العباءة، ولا كان ما يدل عليه القول هو ماهية العباءة وإن كان مما يوصف به العباءة، بل كان صفة له لا محمولا عليه لا يعرف ما هو بل يعرف منه شيئا خارجا عن ذاته. وكذلك لو قيل في الإنسان " إنه الحيوان الذي يصلح أن يتجر ويبيع ويشتري " لكان تعريفا للإنسان لا يحده. والقدماء يسمون هذا الصنف من الأقاويل المعرفة للشيء " الرسم " ويسمون بالجملة صفاته ومحمولاته التي لا تعرف ما هو بل تعرف منه شيئا خارجا عن ذاته وشيئا ليس به قوامه " أعراض " ذلك الشيء. وكل واحد من هذه التي يليق أن يجاب بها في جواب " ما هو الشيء " يفهم الشيء المسؤول عنه ويفهم معناه في النفس، ويتصوره الإنسان به ويحصل له في النفس معقول ما. غير أن جنس الشيء يصوره في النفس ويفهمه بوجه يعمه وغيره، ونوعه يفهمه بوجه أخص من جنسه. وجنسه كلما كان أبعد وأعم كان تفهيمه للشيء وتصويره له في النفس بوجه أعم وأبعد عنه. وحده يصيره معقولا ويفهمه بأجزائه التي بها قوامه. فإن النوع المسؤول إذا عقل بما يدل عليه اسمه فإنما يعقل الشيء مجملا غير ملخص بأجزائه التي بها قوامه. وإذا عقل بما يدل عليه حده فقد عقل ملخصا بالأشياء التي قوامه بها، وذلك هو أكمل ما يعقل به الشيء الذي يمكن أن يعقل على هذه الأنحاء. ورسمه أيضا يفهم الشيء ملخصا بصفاته التي ليس بها قوام الشيء وبالتي هي خارجة عن ذات الشيء، وهي أعراضه. وأنقص ما يفهم به الشيء هو أن يفهم بأبعد أجناسه أو أن يفهم بأبعد محمولاته عن ماهيته أو جزء ماهيته. وأ كمل ما يفهم به الشيء هو حده. والأشياء الخارجة عن ذاته وصفاته التي لا تفهم ماهو والتي ليس بها قوام ذاته - وهي أعراضه - بعضها أقرب إلى ذاته وبعضها أبعد عن ذاته. مثل أن يقال في النخلة " إنها الشجرة التي تكتسي الليف والتي تورق الخوص " أو " التي أغصانها سعف " أو " التي تكون في البلدان الحارة " ، فإن بعض هذه أبعد عن ذاتها وبعضها أقرب إلى ذاتها، وكل ذلك يفهم الشيء ويصوره في النفس - بعضها أكمل وبعضها أنقص - لكن بما هي غريبة عن ذاته.
مخ ۵۲