(106) " والذي من أجله " يقال على أنحاء. الأول في مثل قولنا " الأساسهو من أجل الحائط والحائط هو الذي من أجله الأساس " ، فإنه يدل على أن الكل هو الذي من أجله الجزء. والثاني يدل على الآلة والذي فيه تستعمل الآلة، فإن الذي يطلب بلوغه باستعمال الآلة هو الذي لأجله الآلة، مثل المبضع والفصاد. والثالث هو الفعل الذي يؤدي إلى غاية وغرض، فإن الغاية هو الذي لأجله الفعل، مثل التعليم والعلم الحاصل عنه، فإن العلم هو الذي لأجله التعليم. وفي جميع هذه يلزم ضرورة أن يكون الذي لأجله الشيء يتأخر بالزمان عن الشيء وأن يتقدمه الشيء بالزمان. والرابع المقتني، مثل الصحة والإنسان. فإن الإنسان هو الذي لأجله التمست الصحة، والسرير الذي يعمله النجار هو الذي لأجل زيد، والمال لأجل مقتني المال. والخامس يدل على المستعمل للآلة والخادم، فإن المبضع إنما التمس لأجل الطبيب والمثقب لأجل النجار، فإن النجار هو الذي لأجله عمل المثقب. والسادس يدل على الذي يقتدىبه ويجعل مثالا وإماما ودستورا، وهو يسمى به فيما يعمل ويلتمس رضاه ويتبع أمره، مثل ضرب الحيد لأجل الملك، والجهاد هو من أجل الله، والله هو الذي من أجله الجهاد والصلاة وأعمال البر والتمسك بالنواميس التي يشرعها. فهذه الثلاثة يلزم فيها أن يتقدم بالزمان الأشياء التي التمست لأجله هذه. فإن هذه الأصناف التي لأجلها الشيء تتقدم بالزمان الشيء ويتأخر عنها الشيء بالزمان.
(107) عن يدل على فاعل، وعلى هذه الجهة يقال " عن شتم فلان لفلان كانت الخصومة " .ويدل على المادة وعلى هذه الجهة يقال " الإبريق عن النحاس " . ويدل على " بعد " كقولنا " عن قليل تعلم ذلك " ، وعلى هذه الجهة يقال " كان الموجود عن لاموجود " أو عن العدم " أو " وجد الشيء عن ضده " .
الباب الثاني
حدوث الألفاظ والفلسفة والملة
الفصل التاسع عشر:
الملة والفلسفة تقال بتقديم وتأخير
(108) ولما كان سبيل البراهين أن يشعر بها بعد هذه لزم أن تكون القوى الجدلية والسوفسطائية والفلسفة المظنونة أو الفلسفة المموهة تقدمت بالزمان الفلسفة اليقينية، وهي البرهانية. والملة إذا جعلت إنسانية فهي متأخرة بالزمان عن الفلسفة، وبالجملة، إذ كانت إنما يلتمس بها تعليم الجمهور الأشياء النظرية والعملية التي استنبطت في الفلسفة بالوجوه التي يتأتى لهم فهم ذلك، بإقناع أو تخييل أو بهما جميعا.
(109) وصناعة الكلام والفقه متأخرتان بالزمان عنها وتابعتان لها. فإن كانت الملة تابعة لفلسفة قديمة مظنونة أو مموهة كان الكلام والفقه التابعان لها بحسب ذلك بل دونهما، وخاصة إذا كانت قد خلت الأشياء ألتي أخذتها عنهما أو عن إحداهما وأبدلت مكانها خيالاتها ومثالاتها، فأخذت صناعة الكلام تلك المثالات والخيالات على أنها هي الحق اليقين والتمست تصحيحها بالأقاويل. وإن اتفق أيضا أن يكون واضع نواميس متأخر حاكىفيما شرعه من الأشياء النظرية واضع نواميس متقدما قبله كان أخذ الأمور النظرية عن فلسفة مظنونةأو مموهة، وأخذ المثالات والخيالات التي تخيل بها الأول ما كان أخذه عن تلك الفلسفة على أنها هي الحق لا أنها مثالات، فالتمس تخييلها أيضا بمثالات تخيل تلك الأشياء، فأخذ صاحب الكلام في ملته مثالاته تلك على أنها هي الحق، صار ما تنظر فيه صناعة الكلام في هذه الملة أبعد عن الحق من الأولى، إذ كان إنما تصحيح مثال مثالالشيء الذي ظن حق أو مموه أنه حق.
(110) وبين أن صناعة الكلام والفقه متأخرتان عن الملة، والملة متأخرة عن الفلسفة، وأن القوة الجدلية والسوفسطائية تتقدمان الفلسفة، والفلسفة الجدلية والفلسفة السوفسطائية تتقدمان الفلسفة البرهانية، فالفلسفة بالجملة تتقدم الملة على مثال ما يتقدم بالزمان المستعمل الآلات الآلات. والجدلية والسوفسطائية تتقدمان الفلسفة على مثال تقدم غذاء الشجرة للثمرة، أوعلى مثال ما تتقدم زهرة الشجرة الثمرة. والملة تتقدم الكلام والفقه على مثال ما يتقدم الرئيس المستعمل للخادم الخادم المستعمل للآلة الآلة.
مخ ۳۵