(97) ولما كان الأقدمون من القدماء يعملون في الفلسفة على ما يفهم من الألفاظ في بادئ الرأي، وكان قولنا " غير موجود " يفهم عنه ببادئ الرأي ما ليست له ماهية أصلا، وكان ما هو غير موجود هكذا لا يمكن أن يصير موجودا وأن يحصل عنه موجود بالفعل، ورأواما يحس أشياء تحدث وتحصل بالفعل وكان ما يحدث يسبق إلى النفس إنه يحدث عن غير موجود، وكان الأسبق إلى النفس عن غير الموجود أنه لا ماهية له أصلا، لزم عندهم محال، إذ كان يلزم أن يحدث موجود عن غير موجود. فاعتقد بعضهم أنه غير موجود. ورأى بعضهم أيضا أن هذا يلزم عنه أيضا محال، إذ كان يلزم أن يكون ما هو الآن موجود حادث الوجود قد كان موجودا قبل حدوثه. فأبطلوا الكون والحدوث. وقالوا إن الأشياء كلها لم تزل ولا تزال وليس فيها شيء يحدث ويبطل. وأبطلوا أن يتغير شيء أصلا بوجه من وجوه التغير، قالوا إنه لا ينبغي أن يعمل على ما يظهر للحس، وذلك مثل قول ماليسس. وهذا المعنى فهم فاسد من قولنا " غير موجود " . فقال: كل ما سوى الموجود فهو غير موجود، وما هو غير موجود فليس بشيء . وإنما حكم على ماهو لا موجود أنه ليس بشيء، إذ فهم عن ما هو لا موجود ما لا ماهية له أصلا.
(98) ولما لم يتميز أيضا للطبيعيين الأقدمين فرق ما بين الموجود بالقوة والموجود بالفعل كما تبين للإلاهيين، شنع عندهم أن يقال في شيء واحد " إنه موجود " و" إنه غير موجود " ، إذ كانوا يفهمون عن " الموجود " ما له ماهية بالفعل فقط - فإن هذا هو أسبق إلى النفوس في بادئ الرأي - وعن " غير الموجود " ما لا ماهية له أصلا - وهذا أيضا هو الأسبق إلى النفوس في بادئ الرأي. فاعتقد كثير من المنطقيين أن كل حادث الوجود حصل بالفعل فقد كان بالفعل قبل وجوده. فبعضهم قال إنه كان متفرقافاجتمع، وبعضهم قال كان مجتمعا مختلطا فافترق وتميز بعضه عن بعض، وبعضهم قال إنه كان عن لا موجود أصلا من كل الجهات. ثم أخذوا يحتالون في ما معنى أن يكون عن غير موجود أصلا ولا ماهية له أصلا.
(99) و" الموجود بذاته " هو على عدد أقسام ما يقال " بذاته " . فمن ذلك ما ماهيته مستغنية عن باقي المقولات ولا تحتاج إليه أن تتقوم أو تحصل أو تعقل إليها، وتلك هي المشار إليه الذي لا في موضوع ثم ما يعرف ما هو هذا المشار إليه، والمقابل لهذا هو الموجود في موضوع. ومنه ما ماهيته مستغنية عن أن تحتاج إلى أن تتقوم إلى نسبة بينه وبين غيره بوجه ما من الوجوه، وهو الذي لا سبب أصلا لماهيته في أن تحصل، والمقابل لهذا هو الموجود الذي له سبب ما. وأما الموجود بذاته المقابل لما هو موجود بالعرض، فإنه ليس يكون في ما يوصف بالموجود على الإطلاق وبالوجه الأعم. فإنه ليس شيء ماهيته بالعرض، بل إنما يقال ذلك عند مقايسة الموجودات بعضها إلى بعض وعندما يضاف بعضها إلى بعض - أي إضافة كانت وأي نسبة كانت - مثل أن يكون أحدهما أو كل واحد منهما بالآخر أو عنه أو إليه أو منه أو معه أو عنده أو منسوبا إليه نسبة أخرى - أي نسبة كانت. فإنه إذا كانت ماهية أحدهما أو كل واحد منهما هي ظان تكون له تلك النسبة إلى الآخر، قيل في كل واحد منهما " إنه منسوب إلى الآخر بذاته " . مثل إن كانت ماهية شيء ما أن يوصف بمحمول ما فيه قيل في ذلك المحمول " إنه محمول بذاته على ذلك الشيء " وقيل في ذلك الشيء " إنه بذاته يوصف بذلكالمحمول " . كذلك إن كانت ماهية أمر أن يكون محمولا على موضوع قيل فيه " إنه محمول بذاته على ذلك الموضوع " وقيل في ذلك الموضوع " إنه بذاته يحمل عليه ذلك المحمول " . وكذلك إن كانت ماهية شيء ما توجب دائما أو في أكثر الأمر أن يوصف بأمر ما قيل فيه " إنه محمول عليه بذاته " . وكذلك إن كان شيء كائنا أو قوامه بأمر ما كان سببا له. فإنه إن كانت ماهيته هي أن يكون عنه، أو ماهية ما هو سبب أن يكون عنه ذلك الشيء، قيل " إنه له بذاته " . وإن لم يكن ذلك ولا في ماهية واحد منهما قيل " إنه لذلك الأمر - أو فيه أو به أو عنه أو معه أو عنده - بالعرض " .
مخ ۳۲