ولسنا أول من أصيب بمثل هذا الضلال، ولكنه ضلال يعاود الظهور في أي شعب إذا ما ظهرت فيه بوادر الضعف في نواحي حياته الأخرى، وأقرب مثل أسوقه لذلك هو ما حدث لعلم من أعلام الحياة الثقافية في إنجلترا اليوم، وأعني به الدكتور ليفس (وقد توفي في أبريل الماضي، 1978م)؛ فهو معروف بكتاب له مشهور عنوانه «إعادة التقويم»، تناول فيه مراجعة الإنتاج الأدبي في بلاده، ليقيم الموازين من جديد، فإذا أسماء تصعد وأسماء تهوي، وربما أخطأ «ليفس» في موازينه وربما أصاب، لكن مراجعة الموازين في حد ذاتها أمر لا مفر منه، لكثرة ما تضل الأحكام بسبب المجاملات أو غير المجاملات.
على أننا نذكر الدكتور ليفس هنا؛ لأنه عانى من الاضطهاد - وكان أستاذا للأدب الإنجليزي في جامعة كيمبردج - ما عانى، ويكفي أن نقول إن رئيس القسم الذي كان يعمل فيه، قد وقف له بالمرصاد، وأيده في وقفته الظالمة كل من أراد عنده نفعا، بما في ذلك الناشرون وأصحاب المكتبات، ويكفي في ذلك أن نذكر بأن الدكتور ليفس كان يصدر مجلة في النقد الأدبي لمدة عشرين عاما، يمكن ترجمة عنوانها بعبارة «الفاحص الأدبي»، فكان رئيسه - واسمه «تليارد» - يطلب من المكتبات ألا تعرضها، ومن الطلاب ألا يقرءوها، مع أنها كانت، بغير شك، من أعمق ما صدر على الإطلاق في النقد الأدبي، ولكن ليفس أخذ يصعد الجبل بجهده الجبار، صعودا بطيئا بطيئا، حتى لقد كان يستغرق السنوات في كل نقلة ينتقلها في طريق الصعود، ثم أصبح ما أصبح فيه من شهرة نالها بالجهد الذي لم ينقطع.
أقول لك ذلك - يا ولدي - حتى لا تظن بأن الخبث قد اختص إقليما دون إقليم، والمسألة بعد ذلك درجات، وثق أن الباقيات دائما هن الصالحات، إنني لمؤمن أشد الإيمان بقدراتنا لو أخلصنا النفوس للعمل، وإذا كانت حياتنا الثقافية قد انهارت كل هذا الانهيار الذي نراه، فليس ذلك لأن القدرة قد أصابها شلل، بل لأن الشعار الفاسد الذي أشرت لك إليه منذ حين، قد ساد وطغى، وأعني به الشعار الذي يدعو إلى «بذل الجهد الأقل للحصول على العائد الأكبر»، فمن ذا يغيرنا نحو الأفضل إلا جيل جديد يستأنف إخلاص الأقدمين؟ لقد ملأتني حسرة عندما قرأت لأحد المؤلفين الأجانب (وقد كان يمكن أن يكون من ألد أعدائنا) تحليلا مستفيضا عن الفكر العربي، فما وسعه إلا أن يشيد بمجهود أسلافنا في عالم الثقافية، وأخذ يذكر لهم المعجزات، ثم عقب على ذلك بحديث عنا، نحن العرب المعاصرين؛ فبعد أن استعرض جهودنا العلمية والأدبية والفنية ، انتهى به الرأي إلى أننا ما زلنا على قدرة أسلافنا، لكنها قدرة - في رأيه - قد أفسدتها علينا ضروب من الخيانة العقلية؛ فمن مظهرية جوفاء كاذبة تفوت علينا المضمون الثقافي الصحيح، إلى حب للتسلط قبل حبنا للحياة الفكرية في ذاتها، مما دعا بعضنا - نحن المثقفين - أن يتشبه في سلوكه بأصحاب المناصب الحاكمة، فأراد أن تكون له حاشية من الأتباع ينفخون له في أبواق الصحف وغير الصحف، نفخا يعطيه الصولجان وهو متكئ على الأرائك.
ذكرتك يا ولدي ليلة أمس، وشمعة اليوبيل الذهبي موقدة أمامي، فذكرت كم باتت ثقالا على كتفيك الهموم؛ لأن الخيانة الفكرية قد ولدت فينا خيانة، وهذه الثانية ولدت ثالثة، حتى أصبحنا لا ندري في تلك الحياة الفكرية كلها أين الرعاة وأين الغنم، فأردت أن أوجه إليك هذا الخطاب لئلا يخدعك زيف الخيانة عن الحد الذي يدوم، فهو عند الله وعند الناس خير وأبقى.
ناپیژندل شوی مخ