ذكرتك يا ولدي ليلة أمس، حين جلست وحدي وأوقدت شمعة لترمز أمامي لخمسين عاما قضيتها كاتبا؛ فلقد نشرت لي مقالتي الأولى في مجلة السياسة الأسبوعية في مثل هذا الوقت من سنة 1928م، وها هي ذي مقالتي الأخيرة أنشرها بجريدة الأهرام بعد نصف قرن كامل ، كانت الأولى عن بعض الأغنيات التي شاعت عندئذ فشاعت بها موجة من التحلل، ولقد أردت لهذه الأخيرة أن تكون خطابا إليك، والله وحده أعلم يا ولدي بما أنفقت من جهد بين تلك الأولى وهذه الأخيرة.
كنت عند المقالة الأولى ذا عينين وأذنين فلم يبق لي عند المقالة الأخيرة إلا جزء من عين وجزء من أذن، وبات ما يربطني بالعالم من حولي خيوط متقطعة من الضوء وأسلاك متهتكة من الصوت، ولولا حصيلة غزيرة اختزنتها مع الزمن لعشت اليوم في داخل من خواء وخارج من هواء، ولقد ذكرتك يا ولدي والشمعة موقدة أمامي، أنا المحتفل (بكسر الفاء) وأنا المحتفل به، فيما يسمونه باليوبيل الذهبي.
وإني لأعلم يا ولدي أنك - مثل أوزيريس - موجود في كل ركن من أركان الوادي، فإذا خاطبتك فكأنما أخاطب جيلا بأسره.
أتدري ماذا كان أول خاطر خطر لي عندما اتجهت ببصري نحو الشمعة الموقدة؟ كان خاطرا مشحونا بالسخرية من غفلتي، ما دمت قد أنفقت في عالم الكتابة خمسين عاما ولم أتعلم ألف باء هذا العالم السحري العجيب؛ وذلك أني لبثت تلك الأعوام الطوال على ظن مني أن أسماء المجاهدين «تلمع» من تلقاء نفسها، بما في طبيعتها من جوهر مضيء، وإذا بي أسمع متحدثا منذ أيام قلائل، يحدثني عن «تلميع» الأسماء في دنيا الفكر والعلم والفن والأدب! واستعدت المتحدث ما يقول لأستيقن مما أسمعه، فأعاد على سمعي لفظة «التلميع» مرة أخرى، ولقد أعادها هذه المرة بنطق بطيء ليصبها في أذني حرفا حرفا. وإذن فلم تعد الأسماء تلمع بذواتها لضوء في طبيعتها، كما عهدناها، أو كما توهمت أننا عهدناها، وإنما هي اليوم من مادة الصفيح الذي يعلوه الصدأ، لا بد له من «تلميع» يأتيه من خارج طبيعته، ما دام باطنها لا يبعث من الضياء شيئا. - وكيف يكون هذا التلميع يا أخي؟
هكذا سألت محدثي.
فأجابني بأن للتلميع طرقا عديدة تستطيع أن تتعقبها - إذا شئت - في حياتنا المنشورة على الورق، وهو في كل أشكاله ضرب من تبادل المنفعة، تماما كما يحدث في الأسواق والمصارف. المسألة عندهم حسابها بسيط؛ فليست هي بالعمق الذي ظنه ديكارت حين زعم لنفسه أنه موجود ما دام يفكر؟ كلا؛ لأن الوجود في يومنا مرهون بمقدار ما يتردد في أسماع الناس اسم الموجود؛ أي إن المبدأ اليوم هو هذا: اسمي يتردد ذكره فأنا موجود، وإذا بدأت سيرك من هذا المبدأ البسيط انبسط أمامك الطريق؛ لأن عملية التبادل تصبح واضحة المعالم؛ فما عليك سوى أن تعطي القائمين على النشر شيئا مما عندك ليبادلوك به شيئا مما عندهم، وإذا تيسر هذا فلماذا تشقي نفسك بمقالة تكتبها، أو تسهر لياليك على كتاب؟ إن القائمين على النشر قادرون على ذكر اسمك بحساب وبغير حساب، فيتحقق لك الوجود الذي تريد.
هذا هو شيء من فن «التلميع» - يا ولدي - فهل تصدق أن أباك قد أقام في دنيا القلم خمسين عاما، دون أن يسمع بهذا الفن العجيب إلا منذ أيام؟ ولكني أعلم فيك الكد والكدح يا ولدي، فلا تنخدع بهذا السراب؛ لأن الأيام من شأنها أن تغربل وتغربل ما تركه الذاهبون، وغرابيلها متدرجة الثقوب؛ فهي تبدأ بغربال ضيق الثقوب بحيث يبقى للواحد منا عقب غيابه شيء كثير في ذاكرات الناس، ولا يضيع إلا القليل، خصوصا إذا كان الغائب قد ملأ الأبصار والأسماع إبان حياته، لكن الزمن بعد ذلك يمضي مسرع الخطى، وتتبدل في يده الغرابيل، بحيث ينتهي إلى غربال ثقوبه واسعة، يسقط منها الزور كله والخداع كله، ولا يبقى في الغربال إلا القليل النافع، وعندئذ يا ولدي ستنظر في غرابيل الذين عنوا في حياتهم بالتلميع لا باللمعان الطبيعي، فلا تجد مما ضجوا به في حياتهم شيئا.
لم تكن حياتنا على هذه الصورة الزائفة؛ إذ كانت الحضارة العربية في عزها؛ فلم تكن أسماء العظماء بحاجة إلى تلميع لأنها لمعت بذواتها، لم يطلب ابن سينا أو أبو العلاء أو ابن خلدون من أحد أن يتولى «تلميع» اسمه؛ لأن قلمه قد جرى بما كان يكفل له أن يلمع بطبيعته؛ ولماذا نذهب بعيدا في تاريخنا وأمامنا رعيل من الأئمة في الثلث الأول من هذا القرن، لم يدفعوا أثمانا في سبيل تلميع أسمائهم بهتانا وزورا، لكنهم لمعوا في سمائنا لمعان النجوم.
ولست أرى يا ولدي هذه الرغبة الجامحة في أيامنا الراهنة نحو «التلميع» المصطنع، إلا جزءا واحدا من موقف شامل تجاه الحياة كلها؛ فشعار الناس الآن هو هذا: «أقل جهد ممكن للحصول على أضخم كسب ممكن.» وعلى أساس هذه القاعدة نفسها، التي يريد بها الرجل أن يكون عالما بغير علم وأديبا بغير أدب ومفكرا بغير فكر؛ إذ يكفيه في سوق التبادل التي أشرنا إليها، أن ترسم الخطة المحكمة في توزيع اسمه هنا وهنا وهناك؛ فمرة تحت جملة قالها، ومرة تحت صورة، وثالثة وهو مسافر أو قادم من سفر، يكفيه هذا ليكون في بنائنا الثقافي اليوم أي شيء أراده لنفسه من علم وأدب وفكر وفن، أقول إنه على أساس هذه القاعدة نفسها طغت موجات الرشوة والاختلاس ونهب أموال الدولة بمثل ما طغت؛ لأن الدافع إليها جميعا هو الشعار نفسه، الذي يريد به صاحبه أن يبلغ القمة دون أن يمر بخطوات الصعود.
كان هذا كله في ذهني حين طالبت أكثر من مرة بأن يعاد تقويم الأسماء؛ فكما يطالب الشعب حينا بعد حين بتطبيق قانون «من أين لك هذا؟» في مجال الثراء بالمال، ينبغي أن يطالب المثقفون بتطبيق قانون مثله في مجال الثقافة، فيسأل كيف جاءت الريادة الثقافية لمن يرودها؟ أجاءته عن طريق التلميع، أم جاءته عن طريق اللمع الفطري؟
ناپیژندل شوی مخ