وهذه من مسائله التي غلط فيها؛ لأن سمعت لو كان مما يتعدى إلى مفعولين لم يخل أن يكون من باب ما يتعدى إلى مفعولين، لا يجوز السكوت على أحدهما، وهو من باب ظننت وأخواتها، أو يكون من باب ما يجوز فيه السكوت على أحد المفعولين، وليس في العربية باب آخر له حكم ثالث.
فلا يجوز أن يكون من باب ظننت؛ لأنهم قد عدوه إلى مفعول واحد، فقالوا: سمعت كلام زيد.
ولا يجوز أن يكون من باب أعطيت، لن باب أعطيت لا يجوز أن يكون المفعول الثاني فيه إلا اسما محضًا، ولا يجوز أن يقع موقعه فعل، ولا جملة، وأنت تقول: سمعت زيدًا يتكلم، وسمعت زيدًا وهو يتكلم، فتأتى بعده بفعل، أو بجملة.
فإذا بطل أن يكون سمعت من باب ظننت، ومن باب أعطيت، ثبت أنه مما يتعدى إلى مفعول واحد، وأنك إذا قلت: سمعت زيدًا يقول، فيقول في موضع الحال، لا في موضع المفعول الثاني، وإن تقديره: سمعت كلام زيد يقول، فتكون حاسة السمع بمنزلة الحواس الخمس في تعديها إلى مفعول واحد، كقولك: أبصرت الرجل، وشممت الطيب، وذقت الطعام، ولمست الشيء، وبعد بيت ذي الرمة:
تُنَاخِيِ عِندَ خَيْر فَتىً يمانٍ ... إذَا النَّكبَاءُ نَاوَحْت الشَّمَالاَ
والنكباء ريح تهب بين مهبي ريحين.
ومعنى ناوحت: قابلت، والشمال: الريح الجوفية، وإنما تناوح النكباء في أيام البرد والشتاء، فمدحه بالكرم في ذلك الوقت.! وأنشد أبو القاسم في باب: حكايات النكرات بمن:
أَتَوْا نَارِي، فقلْتُ: مَنُونَ أنتُم؟ ... فَقَالُوا: الجنّ، قلتُ: عِمُوا ظَلاَمًا
ثم ذكر أن بعض الناس يغلطون في هذا الشعر، ويوونه: عموا صباحًا وجعل دليله على ذلك ما رواه، عن أبي دريد، عن أبي حاتم، عن أبي زيد، ثم أنشد القطعة:
وَنارٍ قَد حَضَأْتُ بُعَيدَوهنٍ ... بدار ما أُريدُ بها مُقَامًا
سِوَى تَرحِيل راحلةٍ وَعَينٍ ... أُكَالِؤها مَخَافَةَ أن تَنَامَا
أتَوا نَارِي فقلتُ: مَنُونَ أنتُم ... فقالوا: الجنُّ، قلت: عِمو ظَلاَمَا
فقلتُ: إلى الطعام، فقال منهم ... زعيمُ: تحسُدُ الإنَّسُ الطعَامَا
لقد فُضِّلتُمُ بالأكل فِينَا ... ولسكن ذاك يُعقبكُم سِقَامَا
ولم يقع هذا البيت الأخير في جميع النسخ، ويروى:
أَمِطْ عنَّا الطّعامَ؛ فإنَّ فيه ... لآكِلهِ النَّغَاصَة والسِّقَامَا
وقد صدق أبو القاسم ﵀ فيما رواه، عن ابن دريد، ولكنه أخطأ في تخئته رواية من روى عمو صباحا، لأن هذا الشعر الذي أنكره، وقع في كتاب سد مأرب، ونسبه واضع الكتاب إلى جذع بن سنان الغساني في حكاية طويلة، وزعم أنها جرت له مع الجن، وكلا الشعرين أكذبة من أكاذيب العرب، لم تقع قط!! فمنهم من يرويه على الصفة التي ذكرها أبو القاسم - رحمه الله تعالى - عن ابن دريد. ومنهم من يرويه على ما وقع في كتاب سد مأرب.
والشعر الذي على قافية الميم، ينسب إلى شمير بن الحارث، وينسب إلى تأبط شرًا، وأما الشعر الذي على قافية الحاء، فلا خلاف أنه لجذع بن سنان الغساني، وهو:
أَتَوْا نَارِي، فقُلْتُ: مَنُونَ أنتم؟ ... فقالوا: الجنُّ، فقلت عِمُوا صباحا!
نزلتُ بِشِعْبِ وادِي الجنِّ لَمَّا ... رأيتُ الليلَ قد نَشَرَ الجنَاحا
أَتَيْتُهمُ، وللأقدارِ حَتْمٌ ... يُلاقي المرءَ: صُبْحًا أو رَواحَا
أتيتُهُمُ، غريبا مستغيثا ... رأوْا قَتْلى إذا فَعَلوا جُنَاحا
أتوني سافِرين فقلت: أَهْلًا ... رأيتُ وجوهَهم وُسْمًا صِبَاحَا
أتاني قَاشِر وبَنُو بَنِيهِ ... وقد جَنَّ الدُّجَى والنَّجْم لاَحا
نحْرت لهم وقلتُ أَلاَ هَلمُّوا ... كُلُوا مِمَّا طَهَيْتُ لكم سَماحَا!
فنازعني الزُّجَاجة بَعْدَ وَهْنٍ ... مَزَجتُ لهم بها عَسَلًا وَرَاحَا
وحَذَّرَني أُمورًا سَوْف تَأُتى ... أَهُزُّ لَهَا الصَّوارِم والرِّمَاحَا
1 / 73