حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
ژانرونه
ها نحن الآن قد وصلنا إلى نهاية العرض الذي قدمناه للفلسفة القديمة، وخلال هذا العرض مررنا بما يقرب من تسعة قرون، من عصر طاليس حتى عصر أفلوطين. وإذا كنا قد حددنا خط التقسيم على هذا النحو، فهذا لا يعني أنه لم يكن هناك مفكرون لاحقون يمكن النظر إليهم على أنهم ينتمون بحق إلى تراث القدماء؛ فهذا الانتماء يصدق بمعنى معين على الفلسفة كلها في واقع الأمر. ومع ذلك فمن الممكن إدراك حالات انقطاع رئيسية في تطور التراث الثقافي، من هذه الحالات تلك النقطة التي بلغتها الفلسفة مع أفلوطين؛ فمنذ ذلك الحين أصبحت الفلسفة في الغرب على الأقل منطوية تحت جناح الكنيسة، وظلت هذه الحقيقة قائمة حتى مع وجود استثناءات، مثل بويتيوس
Boethius ، وفي الوقت ذاته فإن من المفيد أن نذكر أنفسنا بأنه عندما سقطت روما، استمر في المناطق الشرقية، تحت حكم بيزنطة أولا ثم في ظل الحكم الإسلامي، تراث فلسفي متحرر من الروابط الدينية (المسيحية).
إن المرء حين يعود بأنظاره إلى الإنجازات الفلسفية للعالم القديم، يشعر بالانبهار إزاء القوة غير العادية التي أبداها العقل اليوناني في إدراكه للمشكلات العامة.
وإذا كان أفلاطون قد قال إن بداية الفلسفة تكمن في الحيرة، فإن هذه القدرة على التعجب والدهشة قد توافرت لدى اليونانيين الأوائل بدرجة غير عادية، والواقع أن الفكرة العامة للبحث والتمحيص هي من الاختراعات اليونانية الكبرى التي أضفت على العالم الغربي طابعه الخاص. وبطبيعة الحال، فإن من غير المستحب في جميع الأحوال أن يجري المرء مقارنات بين ثقافات مختلفة، ولكن المرء لو شاء أن يلخص الحضارة الغربية في جملة واحدة قصيرة، لأمكن القول إنها مبنية على نزوع أخلاقي إلى بذل الجهد العقلي، وهو نزوع يوناني في المحل الأول.
أما السمة الأخرى الحيوية للفلسفة اليونانية، فهي أنها تستهدف العلانية أساسا؛ فحقائقها، على النحو الذي وجدت عليه، لا تدعي لنفسها هالة العصمة من الخطأ، ومنذ البداية أبدت تلك الفلسفة اهتماما كبيرا باللغة والاتصال. صحيح أنها تنطوي أيضا على بعض العناصر الصوفية، وذلك منذ أقدم عهودها، تتمثل في ذلك التيار الصوفي الفيثاغوري الذي يمتد طوال مجرى الفلسفة القديمة.
غير أن هذه الصوفية هي في واقع الأمر خارجة عن البحث العقلي ذاته. فهدفها هو في الواقع توجيه أخلاق الباحث نفسه، ولم يصبح للتصوف دور أهم من ذلك إلا عندما دب الانحلال، فالتصوف كما قلنا عند مناقشتنا لأفلوطين مضاد لروح الفلسفة اليونانية.
ومن أبرز المشكلات التي واجهت المفكرين القدامى بحدة تفوق مواجهة المحدثين لها بكثير أن الفلاسفة اليونانيين الأوائل لم يكونوا يرتكزون على دعامة من التراث الماضي، على حين أننا اليوم نستطيع أن نعود دوما إلى هذا التراث، فنحن نستمد الجانب الأكبر من مصطلحنا الفلسفي والعلمي والتكنولوجي من مصادر كلاسيكية، وكثيرا ما يفوتنا أن نقدر أهميتها حق قدرها. أما بالنسبة إلى الباحث اليوناني فقد كان لزاما عليه أن يبدأ كل شيء من البداية، وأن يصطنع طرقا جديدة للتعبير، وينحت مصطلحات فنية جديدة، بنيت على أساس المادة التي تقدمها لغة الحديث اليومي، فإذا بدا أحيانا أن طريقتهم في التعبير غير موفقة، فلا بد أن نتذكر أنهم كانوا في أحيان كثيرة يتلمسون طريق التعبير عن أنفسهم في وقت كانت فيه الأدوات اللازمة ما تزال في طور الإعداد. ولا بد للمرء من جهد عقلي لكي يعود بذهنه إلى تصور موقف كهذا، هو في الواقع أشبه بموقف الإنجليز الذين يجدون أنفسهم مضطرين إلى التفلسف بلغة أنجلوسكسونية، منفصلة عن اليونانية واللاتينية. وكان لا بد أن ينقضي اثنا عشر قرنا منذ العصر الذي وصلنا إليه حتى عهد إحياء المعرفة، وظهور العلم الحديث على أساس العودة إلى المصادر القديمة، وربما كان من قبيل إضاعة الوقت أن نتساءل: لماذا كان ينبغي أن تحدث فترة توقف النمو هذه؟ لأن أية محاولة للإجابة عن هذا السؤال لا بد أن تكون مفرطة في التبسيط، ومع ذلك فمن الصحيح بلا شك أن مفكري اليونان وروما لم ينجحوا في تطوير نظرية سياسية صالحة للتطبيق.
وإذا كان سبب إخفاق اليونانيين هو نوع من الغرور الذي ولدته قدراتهم العقلية المتفوقة، فإن الرومان أخفقوا بسبب افتقارهما إلى الخيال فحسب. ويتمثل هذا الجمود الذهني على أنحاء شتى؛ من أبرزها العمارة الضخمة في عصور الإمبراطورية. فمن الممكن أن نرمز للفرق بين الروح اليونانية والروح الرومانية عن طريق تأمل معبد يوناني في مقابل كنيسة رومانية، وسنجد عندئذ أن التراث العقلي اليوناني قد تحول على أيدي الرومان إلى شيء أقل رقة ورشاقة بكثير.
لقد كان التراث الفلسفي اليوناني في أساسه حركة تنوير وتحرر؛ ذلك لأنه يستهدف تحرير العقل من نير الجهل، والتخلص من الخوف من المجهول عن طريق تصوير العالم على أنه قابل لأن يعرف بالعقل. وكانت أداة هذا التراث هي اللوجوس (العقل أو الكلمة)، وهدفه هو السعي إلى المعرفة في إطار مثال الخير. ولقد نظروا إلى البحث المنزه على أنه غير أخلاقي، يوصل الناس إلى الحياة الصالحة بدلا من أن يصلوا إليها عن طريق الأسرار الدينية. وإلى جانب تراث البحث العقلي، نجد نوعا من النظرة المتفائلة التي تخلو من المشاعر الزائفة؛ ففي رأي سقراط أن الحياة التي لا تخضع للنقد لا تستحق أن تعاش، وفي رأي أرسطو أن المهم ليس أن يعيش الإنسان طويلا، بل أن يعيش جيدا. ومن الصحيح أن جانبا من هذه النضارة قد فقد في العصور الهلينستية والرومانية، عندما توطدت أقدام مذهب رواقي كان وعيه بذاته أقوى. ولكن يظل من الصحيح أيضا أن أفضل ما في التكوين العقلي للحضارة الغربية يرجع إلى تراث المفكرين اليونانيين.
الفصل الرابع
ناپیژندل شوی مخ