حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
ژانرونه
على أن نشوب الحرب العالمية الأولى قد حول اتجاه رسل بقوة إلى التفكير في المشكلات السياسية والاجتماعية للإنسان؛ إذ كانت هذه الحرب، بما جلبته من دمار إنساني ومادي شامل، وبما أثبتته من نزوع إلى الهدم متأصل في النفس البشرية، صدمة أليمة له، قللت من رغبته في متابعة المسائل الأكاديمية التجريدية في الوقت الذي كان يرى فيه ملايين البشر يساقون إلى المجزرة. وهكذا وقف رسل يدافع بقوة عن السلام ويهاجم الحرب في وقت كانت فيه بلاده متورطة في تلك الحرب بكل ما تملك من طاقات. وهكذا حوكم رسل على نزعته السلامية، وحكم عليه بالسجن ستة أشهر في عام 1918م.
وتوزعت اهتمامات رسل بعد الحرب الأولى بين المشاكل الفلسفية ذات الطابع الأعم، وخاصة مشكلة المعرفة، وبين المسائل الاجتماعية والأخلاقية والتربوية، وقد أبدى في هذا المجال الأخير آراء غير مألوفة أثارت عليه غضب الكثيرين من ذوي الميول المحافظة، ولكنه من جهة أخرى أعلن عداءه للبلشفية إثر زيارة قام بها للاتحاد السوفيتي بعد سنوات قليلة من ثورته الشيوعية، وقابل خلالها لينين وتروتسكي وجوركي، وعاد ليعيب على النظام الجديد شموليته وتسلطه. أما في ميدان التربية فقد تبنى رسل اتجاهات تحررية جديدة، حاول تطبيقها عمليا، فأنشأ لهذا الغرض مدرسة حرة في عام 1927م، بمساعدة زوجته (الثانية)، ثم أغلقت المدرسة بعد بضع سنوات عندما انفصل عن زوجته بالطلاق.
وفي عام 1938م انتقل رسل إلى الولايات المتحدة، حيث قام بتدريس الفلسفة في عدة جامعات في وسط أمريكا وغيرها، وعندما انتقل إلى التدريس في نيويورك هبت ضده عاصفة عاتية أثارتها آراؤه الاجتماعية والأخلاقية غير المألوفة، وشاركت فيها الصحافة والأجهزة السياسية والكنيسة، ولكنه كسب في النهاية حكما قضائيا ضد المعترضين عليه.
ولقد كان موقف رسل من الحرب العالمية الثانية مضادا لموقفه من الحرب الأولى؛ فقد كان يرى أن هذه حرب تستحق التضحية؛ لأنها موجهة ضد قوى شريرة لا إنسانية. غير أنه أعرب بعد الحرب مباشرة عن رأي لا يتمشى مع الاتجاهات التي ظل يدافع عنها طيلة حياته؛ إذ ألح على الولايات المتحدة، خلال الفترة التي كانت فيها محتكرة للسلاح الذري، أن تستخدم القنبلة الذرية ضد الاتحاد السوفياتي.
ولكن رسل سرعان ما تراجع بعد عام 1949م عن آرائه المتطرفة هذه، وأصبح منذ ذلك الحين من دعاة نزع السلاح النووي في العالم كله. وازداد اقتناعا بالموقف الجديد، حتى أصبح يشتهر عالميا بالدور الإيجابي الذي يلعبه من أجل ضمان عالم متحرر من سباق التسلح الجنوني، وعندما نشبت حرب فيتنام، لم يتردد رسل، حتى بعد أن تجاوز عمره التسعين، في أن يسير في مظاهرات، ويعقد اجتماعات شعبية حاشدة، ويؤلف لجانا عالمية للتفاهم بين الشرق والغرب، ويقيم محكمة للضمير العالمي، تحاكم مجرمي الحروب في كل مكان، وما زالت موجودة إلى يومنا هذا تحمل اسم مؤسسها العظيم، ولا أدل على إيجابيته الهائلة من أنه دخل السجن عام 1961م، وهو في التاسعة والثمانين، لمدة أسبوع بسبب نشاطه في محاربة التسلح النووي. وبموت رسل في عام 1970م، انتهى عهد أحد النماذج النادرة في تاريخ الفلسفة، وطويت صفحة قرن كامل من الكفاح الفكري والعملي الذي لا يمل.
ماذا تبقى لنا أن نقوله عن هذا الفيلسوف الكبير؟ لقد كان نمطا فريدا في ذاته؛ نشأ أرستقراطيا، ولكنه عمل الكثير من أجل الجماهير. وبدأ أكاديميا، ولكنه اندمج في نشاط عملي لا يجاريه فيه كبار الساسة المحترفين، وحارب أقوى المؤسسات القائمة في عصره، ولكنه فرض نفسه على ثقافة عصره إلى الحد الذي منح فيه جائزة نوبل للآداب عام 1950م، وهي الحالة الأولى التي تمنح فيها هذه الجائزة لفيلسوف (باستثناء كامي
Camus
الذي كان أديبا بقدر ما كان فيلسوفا)، وتربى تربية محافظة، ولكنه تزوج أربع مرات، واستفز مشاعر الناس بآرائه في الحب والزواج ، وكتب أعظم المؤلفات المنطقية والرياضية وأشدها صعوبة وجفافا في العصر الحديث، ولكنه كان يؤلف بكل اليسر والسلاسة والأسلوب المرح والجذاب في المسائل الاجتماعية والتربوية والسياسية والأخلاقية.
لقد كان أفلاطون، أعظم الفلاسفة أجمعين، هو الذي بدأ أسطورة فيلسوف البرج العاجي، حين سخر من ذلك الفيلسوف الذي يسير في الطريق محلقا بعيونه في السماء، فيسقط في أول حفرة تصادفه على الأرض، ولو تأمل المرء في نظرة واحدة شاملة حياة رسل الخصبة وكتاباته الشديدة التنوع، لبدت له من بدايتها إلى نهايتها، محاولة جبارة لتفنيد هذه الأسطورة.
بقيت لنا كلمة عن الكتاب الذي نقدم ها هنا ترجمته؛ ففي الطبعة الإنجليزية لهذا الكتاب بذلت محاولة لتقديم عدد كبير من الصور والأشكال التي اختارها أحد زملاء رسل من أجل تقديم إيضاح ملموس لأفكاره الفلسفية. ولم يكن رسل ذاته على ثقة من أن هذه المحاولة ستنجح، ولذا أشار إليها في المقدمة على أنها تجربة أولى فحسب، وفي رأيي الخاص، الذي يرتكز على سنوات طويلة من الخبرة في تعليم الفلسفة، أن هذه المحاولة لا تستحق الجهد الذي بذل من أجلها، وأن الكتاب قادر على توصيل أفكاره دون الاستعانة بمثل هذه الرسوم الملموسة، ومن هنا فقد آثرت الاستغناء عن الجانب الأكبر منها، وحذف السطور التي أشارت إليها في مقدمة المؤلف.
ناپیژندل شوی مخ