حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
ژانرونه
ومن السمات التي تشترك فيها هذه التطورات الرياضية، أنها كلها تهم المشتغل بالمنطق. بل لقد بدا هنا أن المنطق والرياضة سيندمجان عند أطرافهما. والواقع أنه منذ أيام «كانت» الذي كان يرى أن المنطق تام ومكتمل، حدثت تغيرات هائلة في دراسة النظرية المنطقية، واستحدثت بوجه خاص طرق جديدة لمعالجة البراهين المنطقية بصيغ رياضية. وكان أول عرض منهجي لهذه الطريقة الجديدة في معالجة المنطق هو ذلك الذي قدمه فريجه
Frege (1848-1925م)، وإن كانت أعماله قد ظلت مجهولة لمدة عشرين عاما، حتى لفت كاتب هذه السطور الأنظار إليها في عام 1903م. وقد ظل فريجه في بلده أستاذا مغمورا للرياضيات، ولم يتم الاعتراف بأهميته من حيث هو فيلسوف إلا في السنوات الأخيرة.
كان ظهور المنطق الرياضي عند فريجه يرجع إلى عام 1879م، وفي عام 1884م نشر كتابه «أسس علم الحساب»، الذي طبق فيه المنهج من خلال معالجة أكثر جذرية لمشكلة بيانو. ذلك لأن بديهيات بيانو، على الرغم من كل ما اتسمت به من اقتصاد، كانت مع ذلك غير مرضية من وجهة النظر المنطقية؛ إذ كان اختيار هذه القضايا بالذات أساسا للعلم الرياضي، بدلا من غيرها، يبدو اختيارا عشوائيا إلى حد ما. والواقع أن بيانو نفسه لم يذهب في أي وقت إلى حد البحث في هذه المسائل. وهكذا كان حل هذه المسألة بأعم صورة ممكنة هو المهمة التي أخذها فريجه على عاتقه.
كان ما أخذه فريجه على عاتقه هو عرض بديهيات بيانو بوصفها نتيجة منطقية لنسقه الرمزي، وهذا يؤدي على الفور إلى تخليصها من تهمة العشوائية، ويثبت أن الرياضة البحتة ما هي إلا امتداد للمنطق. ويبدو من الضروري بوجه خاص استخلاص تعريف منطقي ما للعدد ذاته. والواقع أن فكرة إرجاع الرياضة إلى المنطق تستوحى بوضوح من بديهيات بيانو. ذلك لأن هذه البديهيات تقصر المفردات الأساسية للرياضة على لفظي «العدد» و«التالي»، واللفظ الثاني من هذين هو لفظ منطقي عام، بحيث إن كل ما يلزمنا لتحويل مفرداتنا كلها إلى مصطلحات منطقية هو أن نقدم عرضا منطقيا للفظ الأول (العدد). وهذا ما فعله فريجه، إذ عرف العدد من خلال تصورات منطقية بحتة. ويقترب تعريفه كثيرا من ذلك الذي قدمه هويتهد وكاتب هذه السطور في كتابهما «المبادئ الرياضية»، حيث يذكران أن العدد هو فئة كل الفئات المماثلة لفئة معينة. وهكذا فكل فئة من ثلاثة أشياء هي مثل للعدد ثلاثة، الذي هو نفسه فئة كل هذه الفئات. أما عن العدد بوجه عام، فإنه فئة كل الأعداد الخاصة، وبذلك يتبين أنه فئة من المرتبة الثالثة.
5
ومن السمات التي ربما كانت غير متوقعة، والتي تترتب على هذا التعريف، أن الأعداد لا يمكن جمعها سويا. فبينما تستطيع جمع ثلاث تفاحات وبرتقالتين فيكون الحاصل خمس قطع من الفواكه فإنك لا تستطيع جمع فئة كل ما هو ثلاثة وفئة كل ما هو اثنان. ولكن هذا، كما رأينا من قبل، ليس كشفا جديدا على أية حال. فقد سبق لأفلاطون أن قال إن الأعداد لا يمكن جمعها.
لقد أدت طريقة فريجه في معالجة الرياضة إلى وضعه للتمييز بين معنى أية جملة وإشارتها، وهو أمر لازم لتفسير حقيقة أن المعادلات ليست مجرد تكرارات فارغة. فطرفا المعادلة يشيران إلى نفس الشيء، ولكنهما يختلفان في المعنى.
على أن العرض الذي قدمه فريجه لم يقدر له أن يمارس تأثيرا كبيرا، بوصفه نسقا في المنطق الرمزي، لأسباب من بينها قطعا طريقته المعقدة في التدوين. أما الرمزية المستخدمة في كتاب «المبادئ الرياضية» فتدين ببعض عناصرها لتلك التي استخدمها بيانو، وقد تبين أنها اكثر مرونة وأسهل قبولا. ومنذ ذلك الحين أصبح عدد كبير من أساليب التدوين يستخدم في ميدان المنطق الرياضي. من أشدها إحكاما ذلك الذي وضعته المدرسة البولندية المشهورة في المنطق، التي تشتتت خلال الحرب العالمية الثانية. وبالمثل أدخلت تحسينات كبيرة على طريقة الاقتصاد في التدوين وعلى عدد البديهيات الأساسية في النسق. وقد استحدث المنطقي الأمريكي شيفر
Sheffer
ثابتا منطقيا واحدا، يمكن من خلاله تعريف ثوابت حساب القضايا بدورها. وبفضل هذا الثابت المنطقي الجديد أمكن إقامة نسق المنطق الرمزي على بديهية واحدة. ولكن هذه كلها مسائل فنية شديدة التعقيد، لا يمكن شرحها هنا بالتفصيل.
ناپیژندل شوی مخ