حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
ژانرونه
Beccaria . فالأخلاق عند بنتام هي قبل كل شيء أساس لدراسات عن الأساليب التشريعية الكفيلة بإدخال أفضل التحسينات على الأوضاع. ولقد كان بنتام زعيما لمجموعة أطلق عليها اسم «الراديكاليون الفلسفيون»، كان أفرادها يبدون اهتماما كبيرا بالإصلاح الاجتماعي والتعليم، وكانوا معارضين بوجه عام لسلطة الكنيسة والامتيازات التي تحتكرها الطبقة الحاكمة في المجتمع. أما بنتام نفسه فكان ذا مزاج انطوائي هادئ، وبدأ بآراء لم تكن متطرفة بصورة واضحة، ولكنه في حياته اللاحقة أصبح، على الرغم من خجله الشديد، ينكر الدين بعدوانية شديدة.
كان بنتام شديد الاهتمام بالتعليم، وكان يتفق مع زملائه من الراديكاليين في إبداء ثقة مطلقة بالقدرة غير المحدودة للتعليم على مداواة عيوب المجتمع. وينبغي أن نتذكر أنه لم تكن توجد في إنجلترا، في عصره، سوى الجامعتين،
2
وكان دخولهما مقتصرا على أصحاب العقيدة الأنجليكانية الصريحة. ولم يتم تصحيح هذا الوضع الشاذ إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد أخذ بنتام على عاتقه مهمة إتاحة فرص التعليم الجامعي لمن لم تتوافر فيهم الشروط الصارمة التي كانت تفرضها المؤسسات القائمة. وكان واحدا من أفراد المجموعة التي ساعدت على إنشاء الكلية الجامعية في لندن عام 1825م. وفي هذه الكلية لم تكن تفرض على الطلاب أية اختبارات دينية، ولم يكن في الكلية أي مكان للعبادة. وكان بنتام ذاته في ذلك الحين قد خرج تماما عن الدين ، وعندما مات اشترط أن يبقى في الكلية هيكله العظمي، بعد أن يكسى بغطاء من الشمع ويرتدي الملابس المناسبة، وما زال تمثاله الجالس هذا معروضا ليكون فيه ذكرى دائمة لأحد مؤسسي هذه الكلية.
كانت فلسفة بنتام مبنية على فكرتين رئيسيتين ترجعان إلى القرن الثامن عشر، أولاهما هي مبدأ التداعي الذي أكده هارتلي
Hartley . وينبثق هذا المبدأ آخر الأمر، من نظرية السببية عند هيوم، حيث يستخدم في تفسير فكرة الاعتماد السببي عن طريق تداعي المعاني. وعند هارتلي، وكذلك عند بنتام فيما بعد، يصبح مبدأ التداعي هو الآلية الرئيسية في علم النفس. وهكذا وضع بنتام مبدأه الواحد هذا، الذي يمارس عمله على المادة الخام المقدمة من التجربة، محل الجهاز التقليدي للتصورات المنتمية إلى الذهن وفاعليته، وقد أتاح له ذلك أن يقدم تفسيرا حتميا لعلم النفس، لا يتضمن تصورات ذهنية على الإطلاق ، وكأن هذه قد اجتثتها «سكين أوكام» من جذورها، وفيما بعد، أصبحت نظرية الفعل المنعكس المكيف (الشرطي)، التي وضعها بافلوف
مبنية على نفس الموقف الذي يرتكز عليه علم النفس القائم على فكرة التداعي.
أما المبدأ الثاني فهو القاعدة النفعية التي تدعو إلى البحث عن أكبر قدر من السعادة والتي أشرنا إليها من قبل، وترتبط هذه القاعدة بعلم النفس من حيث إن ما يسعى الناس إلى بلوغه هو في رأي بنتام تحصيل أكبر قدر من السعادة لأنفسهم، وكلمة السعادة مساوية في معناها هذا لكلمة اللذة. فمهمة القانون هي التأكد من أن أي شخص، في سعيه إلى سعادته القصوى، لن يمس حق الآخرين في السعي إلى نفس الهدف. وعلى هذا النحو يتحقق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، ولقد كان هذا هو الهدف المشترك لأصحاب مذهب المنفعة جميعا، مهما اختلفوا فيما بينهم، ويبدو هذا الهدف، في صيغته الرديئة هذه، مبدأ فاترا لا يثير حماسا، غير أن النوايا التي تكمن من ورائه بعيدة عن ذلك كل البعد، ذلك لأن مذهب المنفعة، من حيث هو حركة تستهدف الإصلاح، قد حقق قطعا أكثر مما حققته الفلسفات المثالية مجتمعة، وقد فعل ذلك دون ضجة كبيرة، وفي الوقت ذاته فإن مبدأ أعظم قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس كان يقبل التفسير على نحو آخر، فقد أصبح في أيدي رجال الاقتصاد الليبراليين مبررا لحرية التبادل التجاري ومبدأ «دعه يعمل». إذ كان يفترض أن سعي كل إنسان، بجدية وبلا عوائق، إلى أعظم قدر من اللذة لنفسه، لا بد - مع وجود التشريع السليم - أن يحقق أكبر قدر من السعادة للمجتمع، غير أن الليبراليين كانوا في هذا مسرفين في التفاؤل. صحيح أن المرء قد يقبل، بروح سقراطية، الفكرة القائلة إن الناس إذا ما حرصوا على الاستزادة من المعرفة وحسبوا نتائج أفعالهم، يتوصلون عادة إلى أن إيذاء المجتمع سيؤدي في النهاية إلى إيذائهم هم أنفسهم، ولكن الناس لا يفكرون دائما في هذه الأمور بعناية، وكثيرا ما يتصرفون باندفاع وجهل، لذلك فإن نظرية «دعه يعمل» أصبحت في أيامنا هذه مقيدة بضمانات معينة تحد من طابعها المطلق.
وإذن فالقانون يعد جهازا يضمن سعي كل فرد إلى تحقيق أهدافه دون أن يلحق ضررا بأقرانه، وهكذا فإن وظيفة العقوبة ليست الانتقام، بل منع الجريمة، والشيء الهام هو أن تكون هناك تعديات معينة ينبغي أن تعاقب، إلا أن يكون القصاص فادحا، كما كان الاتجاه السائد في إنجلترا في ذلك الحين، وقد عارض بنتام توقيع عقوبة الإعدام بلا تمييز، في الوقت الذي كانت تفرض فيه بتوسع شديد، وعلى جرائم بسيطة.
إن هناك نتيجتين هامتين تترتبان على الأخلاق النفعية. الأولى هي أن من الواضح أن لدى الناس جميعا، في نواح معينة، ميولا بنفس القدر من القوة إلى السعادة، وعلى ذلك فلا بد أن يتمتعوا بحقوق وفرص متساوية. هذا الرأي كان في وقته تجديدا، وكان من البنود الأساسية في البرنامج الإصلاحي لمجموعة الراديكاليين، أما النتيجة الثانية التي يمكن استخلاصها فهي أن أكبر قدر من السعادة لا يمكن بلوغه إلا إذا ظلت الأوضاع ثابتة. وهكذا فإن الاعتبارين اللذين تكون لهما الأولوية بالنسبة إلى غيرهما هما المساواة والأمن، أما الحرية فقد رآها بنتام أقل أهمية. ذلك لأن الحرية، شأنها شأن «حقوق الإنسان»، قد بدت له ميتافيزيقية ورومانتيكية على نحو ما، ولقد كان من الوجهة السياسية يؤيد الاستبداد العادل، لا الديمقراطية. وبالطبع فإن هذا يشكل إحدى صعوبات مذهبه في المنفعة؛ إذ إن من الواضح أنه ليست هناك وسيلة تضمن أن يسير المشرع بالفعل في طريق عادل، بل إن هذا يقتضي، في ضوء نظريته النفسية ذاتها، أن يسلك المشرعون دائما ببعد نظر شديد، على أساس معرفة كاملة. غير أن هذا الافتراض، كما قلنا من قبل، ليس صحيحا كل الصحة. فهذه الصعوبة، من حيث هي مسألة متعلقة بالسياسة العملية، لا يمكن أن تزاح مرة واحدة وإلى الأبد، وأقصى ما يمكن محاولته هو التأكد من أن المشرعين لن يترك لهم الحبل على الغارب إلا بقدر معين في كل حالة.
ناپیژندل شوی مخ