حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
ژانرونه
وإذا كنا قد رأينا في كتاب رسل هذا ما يدل على أنه يحمل قدرا، على الأقل، من تحيزات الحضارة الغربية كلها، ففي استطاعتنا أن نجد في كتابه أمثلة لتحيزات أخرى أضيق نطاقا. فهو يضفي على الاتجاهات الفلسفية في بلاده - إنجلترا - أهمية ربما بدت مبالغا فيها بالنسبة إلى من تكونت لديه نظرة متوازنة إلى تاريخ الفلسفة. ويكفي دليلا على ذلك أن نرجع إلى العرض المفصل الذي قدمه مذهب المنفعة، والمقدمات التي مهدت له، والممثلين الرئيسيين له - وهو عرض شغل حجما لا تبرره مكانة هذا المذهب في التاريخ العام للفلسفة. ومع ذلك ينبغي أن نقول، إحقاقا للحق، إن هذه سمة يشترك فيها معظم مؤرخي الفلسفة من الأوروبيين : فالمؤرخ الفرنسي يعالج بالتفصيل شخصيات فرنسية ثانوية الأهمية، على حساب شخصيات أهم منها بكثير في الفلسفات الأخرى. وقل مثل هذا عن الألماني والإيطالي، والإسباني ... إلخ. وهكذا يبدو التحيز أمرا لا مفر منه في نفس الميدان الذي ظهر أصلا ليعلم الناس كيف يتحررون من التحيز!
ومن جهة أخرى فإن أحكام رسل على الفلاسفة قد تأثرت في بعض الأحيان باهتماماته الرياضية - وهي ملاحظة سبق أن أبديناها في تقديمنا للجزء الأول من هذا الكتاب، حيث أشرنا إلى تقليله من شأن أرسطو لأنه لم يبد اهتماما كافيا بالرياضيات. وفي هذا الجزء من كتابه نراه يتتبع، بتوسع زائد، تطور الاتجاهات الرياضية في الفلسفة، ولكن الأهم من ذلك أنه ينتقص من قدر بعض الفلاسفة لا لشيء إلا لأنهم لم يكونوا في الوقت ذاته يدركون الأهمية الخاصة للرياضيات. وأبرز مثل على ذلك حكمه على الفيلسوف الكبير فرانسس بيكن؛ إذ لا يكاد رسل يجد في منهج بيكن الاستقرائي، الذي كان في عصره جديدا، أي عنصر إيجابي، ويشعر المرء بأن رسل ينتقد بيكن من خلال قراءة لاحقة لأفكاره، لا على أساس فهم وتقدير للحظة التاريخية التي كان يمثلها بيكن. وهكذا فإن رسل لم يلتفت على الإطلاق إلى الصراع المرير الذي كان بيكن يخوضه ضد أنصار الفكر التأملي الاستنباطي، ممن يستدلون على قوانين الطبيعة من كتب الأقدمين، ولا يبذلون أدنى جهد لمتابعة خصائصها وملاحظتها بأنفسهم - أي إنه لم يلتفت إلى أهمية الإنجاز الذي حققه بيكن في عصر كانت فيه الروح المدرسية التقليدية لا تزال مسيطرة على الأوساط العلمية؛ أعني الدعوة إلى منهج جديد للعلم، مستمد من الاتصال المباشر بالطبيعة لا بالكتب، وإلى غاية جديدة للعلم، هي تحقيق سيطرة الإنسان على الطبيعة وإخضاعها لأهدافه، بدلا من الاكتفاء بالوقوف موقف المتفرج المتأمل إزاءها. ولا شك أن الكثيرين من دارسي الفلسفة سيترددون كثيرا قبل أن يوافقوا رسل على انحيازه الواضح إلى فلسفة هبز، التي رآها أكثر أهمية بكثير من فلسفة بيكن، لمجرد أن الأول قد أبدى اهتماما أكبر بالرياضيات.
على أننا، بعد أن نبهنا إلى بعض جوانب التحيز في العرض الذي قدمه رسل للفلسفة الحديثة والمعاصرة، ينبغي أن نذكر له جوانب أخرى كان فيها أكثر موضوعية وأوسع أفقا مما قد يتوقعه المرء من فيلسوف إنجليزي عاش في عصره.
ذلك لأن الحربين العالميتين اللتين خاضتهما إنجلترا ضد ألمانيا في النصف الأول من القرن العشرين، وما ترتب عليهما من تضحيات بشرية وخسائر مادية هائلة، قد تركت في نفوس عدد كبير من الإنجليز، حتى لو كانوا من أهل الفلسفة، نفورا شديدا من الفكر الألماني، ولا سيما تجاه أولئك الذين قيل عنهم إنهم شجعوا الروح العسكرية الألمانية وتغنوا بأمجاد الدولة والعنصر الجرماني. وهكذا كان هناك جيل كامل من المشتغلين بالفلسفة في إنجلترا، بل في الثقافة الأنجلوسكسونية بوجه عام، يتحامل على هيجل على أساس أن تمجيده للدولة البروسية كان أصلا من أصول النزعة العدوانية الألمانية، ويهاجم نيتشه بعنف بناء على تفسير خاص (غير موضوعي في الغالب) لمفاهيم الحرب والصراع وإرادة القوة لديه؛ ذلك لأن المرارة التي أحس بها الإنسان البريطاني العادي إزاء أعدائه الألمان، قد انعكست على كتابات المشتغلين بالفلسفة في الفترة التي نتحدث عنها بوضوح كامل.
أما برتراند رسل، فعلى الرغم من أنه قد عاصر الحربين العالميتين واتخذ منهما موقفا واضحا يدل على وعي سياسي ناضج، فينبغي أن نسجل له أنه في هذا الكتاب على الأقل، قد تجاوز إلى حد غير قليل تلك المرارة المنبعثة عن العداء بين الشعبين. ففي معالجته لفلسفة هيجل قدر غير قليل من التوازن والاعتدال، صحيح أنه هاجم فلسفته السياسية وسخر من تمجيده للدولة البروسية، ولكنه كان بوجه عام منصفا لفكر هيجل ومنهجه الجدلي.
وإذا كان قد ندد تنديدا قويا بفلسفة هيجل الطبيعية، التي تستنبط الحقائق العلمية عقليا، فقد كان في ذلك يسير في اتجاه يشاركه إياه عدد كبير من الباحثين، حتى من الألمان. وبالمثل فقد تجاوز رسل نظرة كثير من معاصريه الإنجليز إلى نيتشه على أنه واحد من المبشرين بالنازية وحكم القوة والطغيان، وعالج فلسفته معالجة فيها قدر معقول من الفهم والتعاطف . وينطبق ذلك أيضا على موقفه من الماركسية، حيث تجنب الهجوم المتشنج وتحدث، بروح المفكر الموضوعي، عن جوانب القوة والضعف فيها.
وفي مقابل ذلك أبدى رسل في هذا الكتاب نضوجا فكريا واضحا في موقفه إزاء الفلسفات التجريبية المنطقية المعاصرة التي كان هو ذاته واحدا من أهم الممهدين لها. فهو يفرد في كتابه صفحات طويلة للدفاع عن فكرة «الفرض» في المنهج العلمي، مخالفا بذلك التراث التجريبي الذي يميل إلى الالتزام بالشهادة المباشرة للوقائع ويرى في الفرض ضربا من الخيال غير المأمون. ويظهر نضوجه بوضوح في امتناعه عن مسايرة الوضعية المنطقية في هجومها الحاد على الميتافيزيقا. فهو ليس من أنصار موقف «تفنيد الميتافيزيقا» على الإطلاق وهو يرفض استبعاد القضايا الميتافيزيقية بحجة أنها قضايا بلا معنى. ويرى أن الاكتفاء بالقضايا القابلة للتحقيق التجريبي على أنها (إلى جانب قضايا المنطق والرياضة) هي التي تنطوي على معنى هذا الاكتفاء يؤدي إلى وجهة نظر شديدة الضيق والقصور؛ ومن هنا هاجم الوضعية المنطقية على هذا الأساس، كما هاجم مدارس التحليل اللغوي بوصفها تعبيرا عن نظرة محدودة إلى مهمة الفلسفة. وعلى العكس من ذلك أكد رسل أن الميتافيزيقا قد تكون في بعض الأحيان واحدا من الطرق الموصلة إلى العلم، وأن النظرية العلمية في سعيها إلى تفسير كلي للظواهر تقرب من الميتافيزيقا وهو موقف يدل على أن فكره قد قطع شوطا بعيدا في طريق الفهم الواسع الأفق للفلسفة، بعد أن كان في مراحله الأولى أقرب إلى التعاطف مع تلك الاتجاهات الضيقة التي يهاجمها الآن.
ولعل أبلغ تعبير عن ذلك هو إشارته العميقة في الصفحات الأخيرة من كتابه إلى حقيقة الانقسام الفلسفي الحاد الذي يسود الفكر الأوروبي، بين فكر يسيطر على معظم أرجاء القارة من الداخل، وتسوده فلسفات ترتبط، بشكل أو بآخر، بالتراث المثالي أو الوجودي أو غيرهما من الاتجاهات المستمرة في تاريخ الفلسفة، وفكر يسود في البلاد الأنجلوسكسونية، ويرتكز أساسا على التحليل اللغوي، ويمتنع عن إصدار الأحكام الفلسفية العامة ما دامت لا تصمد أمام هذا التحليل. ولقد كان رسل على حق حين علق على هذا الانفصال بقوله إنه وصل إلى حد أن «كل طرف لم يعد يعتقد بأن ما يقوم به الطرف الآخر يستحق اسم الفلسفة» (ص301 من الأصل الإنجليزي).
هذا بالفعل وضع جديد لم تعرفه الفلسفة، طوال تاريخها، إلا في القرن العشرين. فلم تعد المسألة خلافا بين مدارس فلسفية فحسب؛ إذ إن هذا الاختلاف كان «رحمة» على الفكر طوال تاريخه. بل إن الظاهرة الجديدة هي عدم الاعتراف المتبادل بين الطرفين. ففي أشد أيام الخلاف بين العقليين والتجريبيين في القرنين السابع عشر والثامن عشر، كان كل فريق يهاجم الآخر ويسعى إلى تفنيده، ولكنه كان يعترف به. وكان من أبرز الأدلة الواقعية والرمزية أيضا على هذا التعايش، أن يعترف فيلسوف ألماني كبير مثل كانت، كان من رواد المثالية الألمانية، بأن فيلسوفا تجريبيا كبيرا، مثل ديفيد هيوم، هو الذي أيقظه من سباته الفكري القطعي وغير النقدي. كان هناك إذن خلاف حاد، ولكنه كان يدور على أرض الفلسفة، وبين طرفين يسلم كل منهما بأن للآخر موقعا داخل هذه الأرض. أما اليوم فإن فيلسوف القارة الأوروبية يصف الفلسفة التحليلية بأنها - على حد تعبير «جان فال» - «ثرثرة تهدف إلى التخلص من الثرثرة.» على حين أن الفيلسوف الإنجليزي أو الأمريكي لا يرى في الميتافيزيقا أو فلسفة الوجود الأوروبية إلا مجموعة من القضايا الشديدة العمومية، الشديدة التساهل، التي تنهار أمام أي تحليل لغوي أو منطقي دقيق؛ أي أنها باختصار ليست «فلسفة».
هكذا تنعدم جسور التفاهم بين الطرفين، ويسير كل منهما في طريقه غير معترف بالآخر. والملفت للنظر أن هذا الانقسام الحاد لا يعبر عن الانقسام الأيديولوجي بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، لأنه يدور كله (باستثناءات قليلة) في قلب بلدان المعسكر الرأسمالي ذاته. فإذا أضفنا إلى ذلك أن المعسكر الاشتراكي يقدم فلسفته المادية الجدلية بطريقة مستقلة إلى حد بعيد عن هذين التيارين (إذا استثنينا اعترافه بالتأثير التاريخي لمثالية هيجل)، تجمعت لدينا صورة واضحة عن وضع جديد لم يعرفه تاريخ الفلسفة من قبل.
ناپیژندل شوی مخ