وأحسبه إلى ذلك قد تأثر كثيرا في صدر أيامه بما كان يكتب الشيخ إبراهيم اليازجي صاحب مجلتي «الضياء والبيان».
ومما لا يفوتني إثباته في هذا المجال أن مجلة «الهلال» قد استفتت أدباء العربية يوما منذ سنوات، في أي الكتب العربية تعين الأديب الناشئ على مادته؟ وكان للرافعي في هذا الاستفتاء جواب لا أذكره، أحسبه يفيد الباحث عن المصدر لأدب الرافعي.
وسمعته مرة يقول: إن كلمة قرأتها لفكتور هوجو كان لها أثر في الأسلوب الأدبي الذي اصطنعته لنفسي، قال لي الأستاذ فرح أنطون مرة: إن لهوجو تعبيرا جميلا يعجب به الفرنسيون كل الإعجاب، قوله يصف السماء ذات صباح: «وأصبحت السماء صافية كأنما غسلتها الملائكة بالليل.»
قال الرافعي: «وأعجبتني بساطة التعبير وسهولة المعنى، فكان ذلك حذوي من بعد في الإنشاء.»
أفيحق لنا بهذا أن نزعم أننا عرفنا واحدا من شيوخ الرافعي في الأدب والإنشاء ...!
في سنوات الحرب
كان الرافعي - رحمه الله - شاعر النفس، مرهف الحس، رقيق القلب، قوي العاطفة؛ يرى المنظر الأليم فتنفعل به نفسه ويتحرك خاطره ويتفطر قلبه، وتقص عليه نبأ الفاجعة فلا تلبث وأنت تحكي له أن تلمح في عينيه بريق الدمع يحبسه الحياء، وقد كان الرافعي يقرأ فيما يرد إليه من بريد قرائه كثيرا من المآسي الفاجعة يسأله أصحابه الرأي أو المعونة، فما يقرؤها إذ يقرؤها كلاما مكتوبا، ولكنها تحت عينيه حادثة يشهدها ويرى ضحاياها، فما تبرح ذاكرته من بعد إلا مع الزمن الطويل.
ولقد وقعت الحرب العالمية الأولى واستعرت نارها في الميادين البعيدة لا يبلغ إلينا منها نار ولا دخان ولا يراق دم، ولكنها أرسلت إلى مصر الفقر والجوع والغلاء، فلم يكن ضحاياها في مصر بالجوع والمتربة أقل عديدا من ضحاياها هناك في الميدان ... كيف كان يعيش العامل المسكين في تلك الأيام؟ رباه! إنني ما أزال أذكر يوم أرسلني والدي - وأنا غلام بعد - أستدعي النجار لعمل عندنا، فوجدته جالسا في أهله يأكلون، كانوا ستة قد تحلقوا حول قصعة سوداء فيها كومة من فتات الخبز إدامه الماء، تتسابق أيديهم إليه في نهم كأنما يخشى كل واحد أن تعود يده إلى القصعة بعد الأوان فلا يجد اللقمة الثانية ...!
هكذا كان يعيش نصف الشعب في تلك الأيام السود مما فعل القحط والغلاء؛ لأن أقوات الشعب قد حملت إلى الميدان لتخزن في دار المؤن وقتا ما، ثم تقذفها من بعد قنابل المحاربين وتذروها رمادا في الهواء ...!
ونظر الرافعي حواليه فارتد إليه البصر حسيرا مما يرى ويسمع، فاحتبس الدمع في عينيه، ولكن قلبه ظل يتحدث بمعانيه.
ناپیژندل شوی مخ