قلت: إن الرافعي بطبعه كان شاعرا، ولكن شعره كان أقوى من أداته، وكانت قوالبه الشعرية تضيق عن شعوره، فنزع إلى النثر الفني، وقلت: إنه كان يرمي إلى أن يعيد «الجملة القرآنية» إلى مكانها مما يكتب الكتاب وينشئ الأدباء؛ لتعود اللغة على أولها فصيحة جزلة مبينة، وإنه أخذ على نفسه أن يكون نموذجا في هذا الأدب الجديد يحتذيه أدباء العربية، وقدمت في أول هذا الفصل أن الرافعي كان على نية إصدار كتاب مدرسي سماه «ملكة الإنشاء» يكون عونا للمتأدبين وطلاب المدارس على الاقتباس لإجادة الإنشاء. فذلك بعض ما دفعه إلى إصدار كتابه «حديث القمر» من بعد.
وقد أنشأ هذا الكتاب بعد رحلة إلى لبنان في سنة 1912، عرف فيها شاعرة من شواعر لبنان، وكان بينها وبين قلبه حديث طويل في الحب،
9
فلما عاد من رحلته، وجد في نفسه حاجة إلى أن يقول فقال، فكان حديث القمر!
وهو أول ما نشر الرافعي من أدب الإنشاء، أصدره بعد كتابيه: تاريخ آداب العرب، وإعجاز القرآن، وما بي أن أصفه لقراء العربية، فهو مشهور متداول وهو أسلوب رمزي في الحب، على ضرب من النثر الشعري، أو الشعر النثري، يصف من عواطف الشباب وخواطر العاشق وما إليهما في أسلوب فني مصنوع لا أحسبه مما يطرب الناشئين من قراء العربية في هذه الأيام، إلا أن يقرءوه على أنه زاد من اللغة، وذخر من التعبير الجميل، ومادة لتوليد المعاني وتشقيق الكلام في لفظ جزل وأسلوب بليغ.
ومن هذا الكتاب كانت أول التهمة للرافعي بالغموض والإبهام واستغلاق المعنى عند فريق من المتأدبين، ومنه كان أول زادي وزاد فريق كبير من القراء الذي نشئوا على غرار في الأدب لا يعرفه ناشئة المتأدبين اليوم.
شيوخه في الأدب
أما إذا وصلت إلى هذا المكان من تاريخ الرافعي فإني أسأل نفسي: عمن أخذ الرافعي هذا المذهب في الكتابة، وبمن تأثر من كتاب العربية القدامى والمحدثين؟
هذا سؤال لا أجد جوابه فيما حدثني به الرافعي أو أحد من أهله وصحابته، وما أستطيع أن أثبت شيئا في هذا المقام يعتمد عليه الباحث، وأكبر ظني أن الرافعي نفسه كان لا يعرف أستاذه في الأدب والإنشاء، فما كان همه أول همه أن يكون كاتبا أو منشئا، ولكن تطورات الزمن هي ردته من هدف إلى هدف، وألزمته أن يكون ما كان، وقد قرأ الرافعي كثيرا وأخذ عن كثير، فمذهبه في الكتابة من صنع نفسه، هو ثمرة درس طويل وجهاد شاق، اختلطت فيه مذاهب بمذاهب، وتداول عليه أدباء وأدباء من كتاب العربية الأولين.
ولكني أجد من الفائدة هنا أن أشير إلى اثنين من أدباء العربية كان يقرأ لهما الرافعي أكثر ما يقرأ إلى آخر أيامه، هما: الجاحظ، وصاحب الأغاني، وكان يعجب بأدبهما ويعجب لإحاطتهما عجبا لا ينقضي وإعجابا لا ينتهي، وكان لا بد له حين يهم بالكتابة بعد أن يجمع عناصر موضوعه في فكره أو في مذكرته، أن يفتح جزءا من الأغاني، أو كتابا من كتب الجاحظ يقرأ فيه شيئا مما يتفق، ليعيش فترة ما قبل الكتابة في جو عربي فصيح.
ناپیژندل شوی مخ