39
فيرجع إلى أن الله برأ للكون سننا لا تحويل لها ويجب أن تنشأ عنها آثارها. وإذا كان العلماء يذهبون إلى ما قدمنا من أن العلم الواقعي يستطيع إذا عرف أسرار الحياة الإنسانية وسننها، أن يعرف ما قدر لكل فرد ولكل أمة على وجه اليقين، كما يعرف مواقيت الكسوف والخسوف، فإن الإيمان بالله يقتضي حتما الإيمان بعلمه بكل شيء من قبل أن يبرأ العالم. وإذا كان المهندس الذي يصنع «تصميم» دار أو قصر ويراقب تنفيذ هذا التصميم، يستطيع أن يعلم مدى ما يعيش هذا البناء وما قد تتعرض له أجزاؤه المختلفة على مضي السنين، وكان علماء الاقتصاد يذهبون إلى أن السنن الاقتصادية تهديهم على سبيل القطع إلى معرفة ما ينشأ في حياة العالم الاقتصادية من أزمة أو رخاء، فإن مناقشة علم الله بكل صغيرة وكبيرة مما خلق في الكون تجديف لا يقبله عقل منطقي. وهذا العلم لا يصح أن يقف الناس عن التفكير في مآلهم، والعمل جهد الطاقة لاتباع جادة الحق وتنكب طريق الضلال؛ فعلم الله غيب عليهم وهم مهتدون آخر الأمر إلى الحق ولو بعد حين. والله قد كتب على نفسه الرحمة، وهو يقبل توبة التائب من عباده ويعفو عن كثير. وما دامت رحمته وسعت كل شيء فليس لإنسان أن ييأس من الاهتداء إلى الحق والخير ما دام ينظر في الكون ويتدبر ما فيه. وليس لإنسان أن يقنط من رحمة الله إذا هداه نظره آخر الأمر إلى سبيل الله. وإنما الويل لمن ينكر إنسانيته ويستكبر عن النظر والتفكير ابتغاء الهدى. أولئك يعاندون الله ولا يبتغون وجهه، وأولئك ختم الله على قلوبهم، فلهم جهنم ولهم سوء الدار.
أفيرى أولئك المستشرقون سمو الجبرية الإسلامية وانفساح مداها؟! وهل يرون فساد ما يزعمونه من أنها تدعو إلى القعود عن السعي أو قبول المذلة أو الرضا بالخضوع لغير الله؟! ثم هي من بعد تجعل باب الرجاء في مغفرة الله ورحمته مفتوحا دائما لمن تاب وأناب. فما يزعمونه من أنها تدعو المسلم إلى النظر لما يصيبه من خير أو شر على أنه بعض ما كتب الله فيقعد لذلك صابرا محتملا الضر والمذلة، بعيد عن الحقيقة في أمر هذه الجبرية التي تدعو إلى دوام الدأب ابتغاء رضا الله، وإلى عزم الأمر قبل التوكل على الله. فإذا لم يوفق الإنسان للخير اليوم، فليعمل لعله يوفق له غدا؛ وله من دائم الرجاء في الله أن يسدد خطاه أو يتوب عليه وأن يغفر له، خير حافز إلى التفكير المتصل والسعي الدائب لبلوغ الغاية من رضا الله، إياه يعبد وإياه يستعين، منه جل شأنه الهدى، وإليه يرجع الأمر كله.
ما أعظم القوة التي تبعثها هذه التعاليم السامية إلى النفس! وما أوسع أفق الرجاء الذي تفتتحه أمامها! فأنت موفق للخير ما ابتغيت بعملك وجه الله. وأنت إن أضلك الشيطان مقبولة توبتك ما غالب عقلك هواك فغلبه وعاد بك إلى الصراط المستقيم. والصراط المستقيم هو سنة الله في خلقه، سنة نهتدي إليها بقلوبنا وعقولنا، وبتفكيرنا فيما خلق الله، وبدأبنا في السعي لمعرفة أسراره. فإذا ظل من الناس بعد ذلك من يشرك بالله، ومن يبغي الفساد في الأرض، ومن يعميه الاستئثار عن كل معنى من معاني الأخوة، فإنما هو المثل الذي يضربه الله للناس ليروا عاقبة أمر الله فيه لتكون لهم العبرة من مثله. وهذا عدل الله في الناس ورحمته بهم جميعا، لا يحول دونهما ولا يحد منهما أن يضل ضال فيناله العذاب جزاء ما قدمت يداه.
ولكن! لماذا يفكر الناس ولماذا يعملون والموت لهم بالمرصاد، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون؟ ولماذا يفكر الناس ولماذا يعملون وقد كتب للسعيد منهم أن يكون سعيدا وعلى الشقي منهم أن يكون شقيا؟ هذا تكرار للسؤال الذي أجبنا عنه سقناه قصدا، لننظر في مسألة كتاب الأجل من ناحية أخرى: فما كتب الله إنما هو سنة الكون من قبل أن يبرأ الكون، ومن قبل أن يقول له كن فيكون، ولا أدل على دقة هذا التصوير من قوله تعالى:
كتب ربكم على نفسه الرحمة . ومعنى هذا أن الرحمة صفة لله وسنة من سننه في الكون وليست فرضا فرضه على نفسه؛ فالفرض لا يجوز عليه جل شأنه. ويقول الله تعالى:
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا . فإذا ضل قوم لم يبعث الله لهم رسولا قضت سنة الله ألا يعذب منهم أحدا. وعلم الله بآثار سنته في الكون بديهي لكل من آمن بأن الله هو الذي خلق الكون. فإذا بعث الله لقوم رسولا ثم قضت سنة الكون ومشيئة الله فيه أن يصر إنسان من هؤلاء القوم على الضلال بعد إذ دعي إلى الهدى، فإساءته على نفسه وهو لغيره عبرة ومثل.
ومن السذاجة القول بأن هذا الذي ضل فجوزي بضلاله قد ظلم ما دام الضلال قد كتب عليه. نقول من السذاجة بدل أن نقول من التجديف؛ لأن أبسط قسط من التفكير يهدينا إلى أن من ضل يظلم نفسه ولا يظلمه الله. وقد يكفينا في بيان ذلك مثل الأب البار العطوف يدني النار من طفله، فإذا أراد أن يمسكها بعد بها عنه مشيرا إليه أنها تحرقه. ثم هو يدنيها منه مرة بعد مرة، ولا بأس بأن تحترق إصبع الطفل كي يكون له من حسه الذاتي ما ينبهه إلى الحقيقة الملموسة التي تظل ماثلة أمامه طيلة حياته. فإذا أقدم بعد رشاده فأمسك بالنار أو ألقى بنفسه فيها فجزاؤه ما يصيبه منها، ولا تثريب على أبيه، ولا يطلب أحد إلى هذا الأب أن يحول بينه وبينها.
كذلك مثل الأب الذي يدل ابنه على مضرة القمار أو الخمر، فإذا بلغ الابن رشاده واجترح ما نهاه عنه أبوه فأصابه الشر لم يكن أبوه ظالما إياه، وإن كان في مقدوره أن يحول بينه وبين ما يصنع. وأبوه أبعد عن ظلمه إن كان قد ترك الابن يجترح من ذلك ما يجترح مزدجر وعبرة لأهله وإخوته، فإذا كان الأهل والإخوة يعدون بالمئات أو بالألوف في مدينة كثرت فيها أسباب الغواية بطبيعة نواميسها، فمن الخير ومن العدل أن يكون فيما يصيب بعض هؤلاء من الآثار المحتومة جزاء أعمالهم ما تستقيم به أمور هذه الجماعة على أسف منها لما أصاب الظالمين من أبنائها. وهذه أبسط صور العدل على ما نتصوره في جماعتنا الإنسانية، فما بالك بها حين نتصورها بالنسبة للعالم كله وملايين الملايين من خلائقه في لا نهايات الزمان والمكان؟! إن ما يصيب فردا أو جماعة بظلمهم، في هذه الصورة التي يكاد يعجز عن تصورها خيالنا، إنما هو العدل في أبسط صوره.
لو أننا نسبنا الظلم لأب ترك ابنه الذي ضل يلقى جزاء ضلاله ما دام الضلال قد كتب عليه، لحق علينا أن ننسب الظلم لأنفسنا لأننا نقتل برغوثا يؤذينا اتقاء وخوفا من عدوى ينقلها إلينا قد تكون وبالا علينا وعلى الجماعة إذا انتقلت منا إلى غيرنا، أو لأننا نفتت حصاة في المرارة أو الكلى خيفة ما تجره علينا من آلام وشقوة، أو لأننا نبتر عضوا من أعضائنا مخافة أن يستشري منه الفساد إلى سائر الجسم فيقتله، ولو أننا لم نفعل؛ لأن ذلك قد كتب علينا، ثم شقينا أو هلكنا فلا نلومن إلا أنفسنا بما يصيبنا من السوء ما دام الله قد فتح لنا باب الشفاء كما فتح للمذنب باب التوبة. والجاهلون وحدهم هم الذين يقبلون الألم والشقاء زعما منهم أنه كتب عليهم؛ وذلك حماقة منهم وسخف. فكيف بنا ونحن نرى قتل البرغوث واستئصال الحصاة وبتر العضو المريض عدلا كل العدل، وإن كان قد كتب في سنة الكون أن يؤذي البرغوث وأن ينقل إلى الإنسان العدوى وأن تفسد الحصاة وأن يفسد العضو المريض سائر الجسد فيقضي عليه؛ كيف بنا ونحن نرى هذا ألا نعتبر سذاجة بلهاء لا مسوغ لها إلا الاستئثار الضيق الأفق أن نقف من أمر هذه العدالة عند ذواتنا، وألا نعديها إلى الجماعة الإنسانية كلها، وألا نعديها أكثر من ذلك إلى الكون كله؟!
ناپیژندل شوی مخ