والتقوى والبر سواء، فالبر من اتقى، والبر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين، وقام بما ورد في الآية التي أسلفنا.
وإذا كان القصد من الصوم ألا يثقل الجسم الروح، وألا تطغى ماديتنا على إنسانيتنا، فالوقوف به عند الإمساك من الفجر إلى الليل والإمعان بعد ذلك في الاستمتاع باللذات تفويت لهذا القصد. فالإمعان في الاستمتاع مفسدة لذاته ومن غير صيام، ما بالك به إذا صام المرء أو أمسك طيلة نهاره عن كل طعام وشراب ولذة، فإذا انقضى وقت الصيام أسلم نفسه لما يحسبها حرمته أثناء النهار من نعمة؟! إنه إذن ليشهد الله على أنه لم يصم تطهيرا لجسمه وسموا بإنسانيته، ولم يصم لذلك مختارا إيمانا منه بفائدة الصوم في حياتنا الروحية، بل صام أداء لفرض لا يدرك بعقله ضرورته، ويرى فيه حرمانا له من حرية سرعان ما يستردها آخر النهار حتى ينهمك في لذاته استعاضة عما حرم بالصوم منها. ومن يفعل ذلك فشأنه كشأن من لا يسرق لأن القانون يحرم عليه السرقة، لا لأنه يسمو بنفسه عنها ويحرمها على نفسه وعلى غيره مختارا.
وفي الحق أن النظر إلى الصيام على أنه حرمان وحد من حرية الإنسان نظر خاطئ يجعل الصيام عبثا لا محل له. إنما الصيام طهور للنفس يوجبه العقل عن اختيار من الصائم كي يسترد به حرية إرادته وحرية تفكيره. فإذا استردهما استطاع السمو بهما إلى عليا مراتب الإيمان الحق بالله. وهذا هو المقصود بقوله تعالى، بعد ذكره أن الصيام كتب على المؤمنين كما كتب على الذين من قبلهم:
أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون .
11
قد يبدو غريبا ما أقول من أنا نسترد بالصيام حرية الإرادة وحرية التفكير إذا قصدنا من الصيام إلى ما فيه من خير لحياتنا الروحية. وهو إنما يبدو غريبا لأن التفكير الحديث أفسد في أذهاننا صورة الحرية، حين هدم حدودها الروحية والنفسية، ثم استبقى حدودها المادية التي ينفذها الجندي بسيف القانون. فالإنسان ليس حرا بحكم هذا التفكير الحديث في أن يعتدي على مال غيره أو على شخصه، ولكنه حر في أمر نفسه وإن جاوز في ذلك كل ما يقره العقل أو تمليه قواعد الخلق. والواقع في الحياة غير هذا. والواقع أن الإنسان عبد العادة؛ فهو معتاد أن يتناول طعامه في الصباح وفي الظهيرة وفي المساء؛ فإذا قيل له: بل تناوله في الصباح وفي المساء فقط، اعتبر هذا اعتداء على حريته، في حين هو اعتداء على عبوديته لعادته، إن صح هذا التعبير. ومن اعتاد أن يدخن إلى حد استعباد التدخين إياه؛ فإذا قيل له: اقض نهارك لا تدخن، اعتبر هذا اعتداء على حريته، في حين هو لا يزيد على أنه اعتداء على عبوديته لعادته. ومنهم من اعتاد تناول القهوة أو الشاي أو غيرهما من ألوان الشراب في أوقات معينة له؛ فإذا قيل له اعدل عن هذه الأوقات إلى غيرها عد الاعتداء على عبوديته لعادته اعتداء على حريته. وهذه العبودية للعادة مفسدة للإرادة، مفسدة للفكرة الصحيحة من الحرية في صورتها الصادقة. وهي بعد مفسدة لسلامة التفكير؛ لأنها تخضعه للتأثر بضرورات الجسم المادية التي طبعتها العادة فيه. ولهذا يعكف كثيرون على ألوان مختلفة من الصوم يزاولونها في فترات من كل أسبوع أو من كل شهر. لكن الله أراد بالناس اليسر، إذ كتب عليهم الصيام أياما معدودات يكونون أثناءها جميعا سواء، وإذ جعل لهم الفدية وإذ أعفى من كان منهم مريضا أو على سفر على أن يؤدي هذا الصيام في أيام أخر.
ولفرض الصيام أياما معدودات من توطيد معنى الإخاء والمساواة أمام الله ما له من رياضة روحية. فالناس إذ يمسكون جميعا من مطلع الفجر إلى الليل، تتم بينهم المساواة كما تتم في صلاة الجماعة، ويشعرون خلال ذلك بإخائهم شعورا يضعفه تفاوتهم في الاستمتاع بما رزق الله كلا منهم من أسباب الاستمتاع في الحياة. ومن ثم كان الصيام موطدا لمعاني الحرية والإخاء والمساواة في نفس الإنسان مثلما توطدها الصلاة.
إذا أقبلنا على الصيام مختارين، مدركين أن أمر الله لا يمكن أن يختلف عن حكم العقل ما أدرك العقل أغراض الحياة في أسمى صورها قدرنا ما في الصيام من تحرير لنا من رق العادة، ومن رياضة لإرادتنا وحريتنا، وذكرنا أن ما يفرضه الإنسان على نفسه بإذن الله، من حدود روحية ونفسية لحريته بالتحرير من بعض عاداته وشهواته، هو خير ما يكفل لتفكيره أن يبلغ مراتب الإيمان العليا. وإذا كان التقليد في الإيمان ليس إيمانا بل هو إسلام من غير إيمان، فالتقليد في الصوم ليس صوما، ولذلك يعتبره المقلد حرمانا وحدا من حريته، بدل أن يدرك ما فيه من تحرير من قيود العادة ومن غذاء نفسي وروحي عظيم.
إذا بلغ الإنسان، من طريق هذه الرياضة الروحية، أن اهتدى إلى سنن الكون وأسراره، وأن عرف مكانه ومكان بني الإنسان منه، ازداد لإخوانه بني الإنسان حبا، وتحاب بنو الإنسان جميعا في الله، وتعاونوا على البر والتقوى، ورحم قويهم ضعيفهم، ونزل غنيهم لفقيرهم عن حظ من ماله، وهذه هي الزكاة والمزيد عليها هو الصدقة.
والقرآن يقرن الزكاة إلى الصلاة في كثير من المواضع. وقد تلوت قوله تعالى:
ناپیژندل شوی مخ