الصلاة هي هذا الاتصال بالله إيمانا به والتماسا للعون منه. وليس القصد منها حركات الركوع والسجود، وتلاوة ما يتلى من القرآن، أو تلاوة التكبير والتعظيم لله جل شأنه، دون أن تمتلئ النفس إيمانا به والقلب تقديسا له والفؤاد سموا إليه، وإنما القصد منها، ومما فيها من تكبير وتلاوة وركوع وسجود إلى هذا السمو والتقديس والإيمان وإلى عبادته عبادة خالصة لوجهه نور السموات والأرض. يقول تعالى:
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون .
9
فالمؤمن الصادق الإيمان هو من يتوجه بقلبه إلى الله ساعة الصلاة، يشهد على تقواه ويستعينه على أداء واجب الحياة، ويستمد منه هدايته، ويستلهمه توفيقه لإدراك سر الكون وسننه ونظامه.
والمؤمن الصادق الإيمان بالله يشعر بنفسه أثناء صلاته، ويشعر بها دائما شيئا ضئيلا أمام عظمة الله العلي الكبير. إننا إذ نرتفع في طائرة من الطائرات ألفا أو بضعة آلاف من الأمتار، نرى الجبال والأنهار والمدن مظاهر صغيرة على هذه الأرض، ونراها ترتسي أمام باصرتنا وكأنها خطوط مرسومة على خريطة من الورق، وكأنها قد تساوى سطحها فلا ارتفاع لجبل ولا لبناء، ولا انخفاض لبئر ولا لنهر. ولا شيء أكثر من ألوان تتوالى وتتمازج وتزداد تمازجا كلما ازددنا نحن ارتفاعا. وأرضنا كلها ليست إلا كوكبا صغيرا في عالم ألوف الأفلاك والكواكب، وليست إلا كما ضئيلا جدا في لا نهاية هذا الكون. فما أصغرنا وما أضعفنا شأنا أمام بارئ هذا الوجود ومدبره جلت عن أفهامنا عظمته! وما أجدرنا ونحن نتوجه بقلوب خالصة إلى جلال قدسه الأسمى نلتمس منه العون لتقوية ضعفنا وهدايتنا إلى الحق، أن نرى مبلغ تساوي الناس جميعا في الضعف الذي لا يشد من أزره أمام الله مال ولا جاه، وإنما يشد من أزره الإيمان الصادق والخضوع لله والبر والتقوى.
شتان ما بين هذه المساواة التامة الصحيحة أمام الله، وبين ما كانت تتحدث عنه الحضارة الغربية في العصور الأخيرة من المساواة أمام القانون. ولقد بلغت هذه الحضارة الآن أن كادت تنكر هذه المساواة أمام القانون، ولا توجب احترامه على طائفة من الناس. شتان ما بين هذه المساواة أمام الله، مساواة تمسها حقيقة ملموسة في ساعة الصلاة وتهتدي إليها برأيك الحر، وبين مساواة في النضال لكسب المال نضالا يبيح الخديعة والنفاق، ثم ينجو صاحبه من سلطان القانون ما مهر في التحايل عليه وبرع في حسن العبث به .
هذه المساواة أمام الله تدعو إلى الإخاء الصادق؛ لأنها تشعر الناس جميعا بأنهم إخوة في العبودية لخالقهم والعبودية له وحده. وهذا إخاء يقوم على تقدير سليم ونظر حر وتدبر فرضه القرآن. وهل حرية وإخاء ومساواة أعظم من وقوف هذا الجمع أمام الله تعنو له جميعا جباههم، إياه يكبرون وله يركعون ويسجدون، لا تفاوت في ذلك بين أحدهم وأخيه، وكلهم مستغفر تائب مستعين، وليس بين أحدهم وبين الله إلا عمله الصالح وما قدم من بر وتقوى؟! إخاء هذا شأنه يصفي القلوب ويطهرها من قذى المادة، ويكفل للناس السعادة كما يؤدي بهم إلى إدراك سنة الله في الكون ما هداهم الله بنوره إلى هذا الهدى.
الناس جميعا ليسوا سواء في القدرة على ما أمر الله به من التقوى. فقد يثقل جسمنا روحنا وتغطى ماديتنا على إنسانيتنا إذا لم ندم رياضة الروح ولم نتوجه بقلوبنا لله أثناء صلواتنا، واكتفينا بأوضاع الصلاة من ركون وسجود وتلاوة؛ لذلك وجب جهد الطاقة أن نكف عما يجعل الجسم يثقل الروح ويجعل المادية تطغى على الإنسانية. ولذلك فرض الإسلام الصوم وسيلة لبلوغ مرتبة التقوى. قال تعالى:
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون .
10
ناپیژندل شوی مخ