172

وبينما خزاعة ذات ليلة على ماء لهم يدعى الوتير إذ فاجأتهم بنو بكر فقتلوا منهم، ففرت خزاعة إلى مكة ولجئوا إلى دار بديل بن ورقاء، وشكوا إليه نقض قريش ونقض بني بكر عهدهم مع رسول الله، وسارع عمرو بن سالم الخزاعي فغدا متوجها إلى المدينة حتى وقف بين يدي محمد وهو جالس في المسجد بين الناس، وجعل يقص ما حدث ويستنصره. قال رسول الله: «نصرت يا عمرو بن سالم.» ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا المدينة، فأخبروا النبي بما أصابهم وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم. عند ذلك رأى النبي أن ما قامت به قريش من نقض عهده لا مقابل له إلا فتح مكة، وأنه لذلك يجب أن يرسل إلى المسلمين في أنحاء شبه الجزيرة ليكونوا على أهبة لإجابة ندائه من غير أن يعرفوا وجهته بعد هذا النداء.

أما حكماء قريش وذوو الرأي فيها فما لبثوا أن قدروا ما عرضهم له عكرمة ومن معه من الشبان من خطر. فهذا عهد الحديبية قد نقض، وهذا سلطان محمد في شبه الجزيرة يزداد بأسا وقوة. ولئن فكر بعد الذي حدث في أن ينتقم لخزاعة من أهل مكة لتتعرضن المدينة المقدسة لأشد الخطر. فماذا تراهم يصنعون؟ أوفدوا أبا سفيان إلى المدينة ليثبت العقد وليزيد في المدة. ولعل المدة كانت سنتين فكانوا يريدونها عشرا. وخرج أبو سفيان قائدهم وحكيمهم يريد المدينة فلما بلغ من طريقه عسفان، لقيه بديل بن ورقاء وأصحابه، فخاف أن يكون قد جاء محمدا وأخبره بما حدث، فيزيد ذلك مهمته تعقيدا. وقد نفى بديل مقابلته محمدا لكنه عرف من بعر راحلة بديل أنه كان بالمدينة؛ لذلك آثر ألا يكون محمد أول من يلقى، فجعل وجهته بيت ابنته أم حبيبة زوج النبي.

ولعلها كانت قد عرفت عواطف النبي إزاء قريش وإن لم تكن تعلم ما اعتزمه في أمر مكة. ولعل ذلك كان شأن المسلمين بالمدينة جميعا. فقد أراد أبو سفيان أن يجلس على فراش النبي فطوته أم حبيبة. فلما سألها أبوها: أطوته رغبة بأبيها عن الفراش، أم رغبة بالفراش عن أبيها؟ كان جوابها: هو فراش رسول الله

صلى الله عليه وسلم

وأنت رجل مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس عليه. قال أبو سفيان: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر! وخرج مغضبا. ثم كلم محمدا في العهد وإطالة مدته، فلم يرد بشيء. فكلم أبا بكر ليكلم له النبي، فأبى. فكلم عمر بن الخطاب فأغلظ له في الرد وقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله! فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به.

ودخل أبو سفيان على علي بن أبي طالب وعنده فاطمة، فعرض عليه ما جاء فيه واستشفعه إلى الرسول؛ فأنبأه علي في رفق أنه لا يستطيع أحد أن يرد محمدا عن أمر إذا هو اعتزمه. واستشفع رسول قريش فاطمة أن يجير ابنها الحسن بين الناس. فقالت: ما يجير أحد على رسول الله. واشتدت الأمور على أبي سفيان فاستنصح عليا؛ فقال له: والله ما أعلم شيئا يغني عنك شيئا. لكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك؛ وما أظن ذلك مغنيا، ولكني لا أجد لك غيره. فذهب أبو سفيان إلى المسجد وهناك أعلن أنه أجار بين الناس. ثم ركب راحلته وانطلق ذاهبا إلى مكة وقلبه يفيض أسى مما لقي من هوان على يد ابنته وعلى يد أولئك الذين كانوا قبل هجرتهم من مكة يرتجون منه نظرة عطف أو رضا.

عاد أبو سفيان إلى مكة؛ فقص على قومه ما لقي بالمدينة وما أجار بين الناس في المسجد بمشورة علي، وأن محمدا لم يجز جواره. قال قومه: ويلك! والله إن زاد الرجل على أن لعب بك. وعادوا فيما بينهم يتشاورون.

أما محمد فقد رأى ألا يترك لهم الفرصة حتى يتجهزوا للقائه. ولئن كان واثقا من قوته ومن نصر الله إياه، لقد كان يرجو أن يبغت القوم في غرة منهم، فلا يجدوا له دفعا، فيسلموا من غير أن تراق الدماء؛ لذلك أمر الناس بالتجهيز، فلما تجهزوا أعلمهم أنه سائر إلى مكة وأمرهم بالجد، ودعا الله أن يأخذ العيون الأخبار عن قريش حتى لا تقف من سيرهم على نبأ.

وبينما الجيش على أهبة السير كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا أعطاه امرأة من مكة مولاة لبعض بني عبد المطلب تسمى سارة، وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا ليقفوا على ما أعد محمد لهم، وحاطب كان من كبار المسلمين، ولكن في النفس الإنسانية جوانب ضعف تطغى في بعض الأحيان عليها، وتهوي بها إلى ما لا ترضاه هي لنفسها. وما لبث محمد أن أحيط بالأمر خبرا. فسارع فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام فأدركا سارة فاستنزلاها، فالتمسا في رحلها فلم يجدا شيئا. فأنذرها علي إن لم تخرج الكتاب ليكشفنها. فلما رأت المرأة الجد منه قالت: أعرض. فحلت ذوائب شعرها فأخرجت الكتاب منها، فرداها إلى المدينة.

ودعا محمد حاطبا يسأله ما حمله على ذلك؟ قال حاطب: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله وما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ ليس له في القوم من أهل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم. قال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق. قال رسول الله: وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. وكان حاطب من أصحاب بدر. وإذ ذاك نزل قوله تعالى:

ناپیژندل شوی مخ