170

لتنزلن أو لتكرهنه

إن أجلب الناس وشدوا الرنة

ما لي أراك تكرهين الجنة

ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل.

هؤلاء زيد وجعفر وابن رواحة استشهدوا ثلاثتهم في سبيل الله في موقعة واحدة. لكن النبي لما علم بخبرهم كان على زيد وجعفر أكبر أسى، وقال: لقد رفعوا إلي الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سرير صاحبيه؛ فسأل: لم هذا؟ فقيل: مضيا، وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى. أترى إلى هذه العبرة والموعظة الحسنة؟! فإنما معناها أن المؤمن لا يجوز له أن يتردد أو يخاف الموت في سبيل الله؛ بل يجب عليه، كلما مضى في أمر يؤمن بأنه لله والوطن، أن يحمل حياته على كفه، وأن يلقي بها في وجه من يقف في سبيله؛ فإما فاز وظفر فبلغ ما يؤمن به من حق الله والوطن، وإما استشهد فكان المثل الحي لمن بعده والذكر الباقي لروح عظيم عرف أن قيمة الحياة ما يضحى بالحياة في سبيله، وأن الإمساك على الحياة في مذلة إهدار للحياة، فما يستحق صاحبها بعد ذلك في الحياة ذكرا؛ وأن الرجل يلقي بيديه إلى التهلكة إذا هو عرض حياته تعريضا تذهب معه ضحية غرض وضيع، وأنه كذلك يلقي بيديه إلى التهلكة إذا هو أمسك على حياته حين يدعوه داعي الحق جل شأنه ليقذف بها في وجه الباطل ليسحقه، فيواريها هو بالحجاب ويخاف عليها الموت خوفا هو شر من الموت.

وإذا كان التردد القليل من ابن رواحة مع إقدامه بعد ذلك واستشهاده، قد جعله في غير مكانة زيد وجعفر اللذين اقتحما صفوف الموت اقتحاما وطارا للاستشهاد فرحا، فما بالك بالذي ينكص على عقبيه طمعا في جاه أو مال أو غرض من أغراض الحياة؟! إنه إذن للحشرة الحقيرة وإن عرض عند السواد جاهه، وإن بز مال قارون ماله. وهل لنفس إنسانية أن تغتبط حقا لشيء اغتباطها للتضحية في جانب ما تؤمن بأنه الحق، حتى تنتهي من ذلك إلى الاستشهاد في سبيل الحق، أو إلى تمليك الحق الحياة؟!

قتل ابن رواحة بعد تردد ثم إقدام، فأخذ الراية ثابت بن أرقم أحد بني العجلان، فقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل. فاصطلح الناس على خالد بن الوليد. فأخذ خالد الراية مع ما رأى من تفرق صفوف المسلمين وتضعضع قوتهم المعنوية. وكان خالد قائدا ماهرا ومحركا للجيوش قل نظيره. لذلك أصدر أوامره، فداور بالمسلمين حتى ضم صفوفهم، ووقف من محاربة العدو عند مناوشات امتدت به حتى أرخى الليل سدوله، ووضع الجيشان السلاح إلى الصباح. أثناء ذلك أحكم خالد تدبير خطته، فوزع عددا غير قليل من رجاله في خط طويل من مؤخرة جيشه أحدثوا، إذا أصبح الناس، من الجلبة ما أدخل في روع عدوه أن مددا جاءه من عند النبي. وإذا كان ثلاثة آلاف قد فعلوا بالروم الأفاعيل في اليوم الأول وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وإن لم يستطيعوا أن يثبتوا، فما عسى أن يصنع هذا المدد الذي جاء لا يدري أحد عدته! لذلك تقاعس الروم عن مهاجمة خالد وسروا بعدم مهاجمته إياهم، وكانوا أكثر سرورا بانسحابه ومن معه راجعين إلى المدينة، بعد معركة لم ينتصر فيها المسلمون وإن كان حقا كذلك أن عدوهم لم ينتصر عليهم فيها.

لذلك ما كاد خالد والجيش معه يدنون من المدينة حتى تلقاهم محمد والمسلمون معه. وطلب محمد فأتي بعبد الله بن جعفر فأخذه وحمله بين يديه. أما الناس فجعلوا يحثون على الجيش التراب ويقولون. يا فرار، فررتم في سبيل الله! فيقول رسول الله: ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله. ومع هذه التأسية من محمد للعائدين من مؤتة فقد ظل المسلمون لا يغفرون لهم انسحابهم وعودهم، حتى كان سلمة بن هشام لا يحضر الصلاة مع المسلمين خشية أن يسمع من كل من رآه: يا فرار فررتم في سبيل الله. ولولا ما كان بعد ذلك من فعال هؤلاء الذين حضروا مؤتة، ومن فعال خالد بنوع خاص، لظلت مؤتة معتبرة بعض ما لطخ به إخوانهم في الدين جبينهم من عار الفرار.

وقد بلغ الألم من نفس محمد منذ علم بقتل زيد وجعفر، وحز الأسى في نفسه من أجلهما. لما أصيب جعفر ذهب محمد إلى منزله ودخل على زوجه أسماء بنت عميس، وكانت قد عجنت عجينها وغسلت بنيها ودهنتهم ونظفتهم، فقال لها: ائتيني ببني جعفر. فلما أتته بهم تشممهم وذرفت عيناه الدمع. قالت أسماء في لهف وقد أدركت ما أصابها: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: نعم أصيبوا هذا اليوم! وازدادت عيناه بالدمع تهتانا. فقامت أسماء تصيح حتى اجتمع النساء إليها. أما محمد فخرج إلى أهله فقال: لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاما فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم. ورأى ابنة مولاه زيد قادمة فربت على كتفيها وبكى. وأظهر بعضهم دهشة لبكاء الرسول على من استشهد؛ فقال ما معناه: إنما هي عبرات الصديق يفقد صديقه.

وفي رواية أن جثة جعفر حملت إلى المدينة ودفنت بها بعد ثلاثة أيام من وصول خالد والجيش إليها. ومن يومئذ أمر الرسول الناس أن يكفوا عن البكاء؛ فقد أبدل الله جعفرا من يديه اللتين قطعتا جناحين طار بهما إلى الجنة.

ناپیژندل شوی مخ