169

(اتجاه نظر محمد إلى الشام - توجيهه ثلاثة آلاف لغزوها - لواؤهم لزيد بن حارثة، فإن أصيب فلجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فلعبد الله بن رواحة - الروم في مائة ألف أو مائتي ألف - التقاء الجيشين بمؤتة - موت الثلاثة أصحاب اللواء على التعاقب - الراية لخالد بن الوليد - مداورته وانسحابه) ***

لم يكن محمد يستعجل فتح مكة وهو يعلم أن الزمن في صفه، كما أن عهد الحديبية لم يكن قد مضى عليه غير عام واحد، ولم يكن قد جد ما يوجب نقضه. ومحمد رجل وفاء لا ينقض كلمة قال ولا عهدا عقد. لذلك ذهب إلى المدينة فأقام بضعة أشهر لم تقع خلالها غير مناوشات صغيرة؛ كإرسال خمسين رجلا إلى بني سليم ليدعوهم إلى الإسلام وغدر بني سليم بهم وقتلهم إياهم بغيا بغير حق، حتى لم ينج رئيسهم إلا بمحض المصادفة؛ وكغزو جماعة من بني الليث والظفر بهم والغنم منهم؛ وكمعاقبة بني مرة على ما غدروا من قبل، وكإرسال خمسة عشر رجلا إلى ذات الطلح على حدود الشام يدعون إلى الإسلام دعوة كان جزاؤهم عنها القتل لم ينج منهم إلا رئيسهم. وقد كانت ناحية الشام وهذه الجهات الشمالية متجه نظر النبي منذ أمن الجنوب بعهده مع قريش وبإذعان عامل اليمن لدعوته؛ ذلك أنه كان يتوسم طريق انتشار دعوته إلى الإسلام أول مغادرتها حدود شبه الجزيرة، فيرى الشام والبلاد المجاورة هي المنفذ الأول لهذه الدعوة. لذلك لم تمض أشهر على مقامه بالمدينة بعد عوده من عمرة القضاء حتى وجه ثلاثة آلاف هم الذين قاتلوا في مؤتة مائة ألف في رواية، ومائتي ألف في رواية أخرى.

ويختلف الرواة في سبب غزوة مؤتة هذه؛ فيذهب بعضهم إلى أن قتل أصحابه في ذات الطلح كان سبب الغزو لتأديب هؤلاء الغادرين، ويذهب آخرون إلى أن النبي أرسل رسولا من رسله إلى عامل هرقل على بصرى وأن أعرابيا من غسان قتل هذا الرسول باسم هرقل، فبعث محمد بالذين قاتلوا في مؤتة لتأديب هذا العامل ومن ينصره.

وكما كان عهد الحديبية مقدمة عمرة القضاء ففتح مكة، كانت غزوة مؤتة مقدمة تبوك وما كان بعد وفاة النبي من فتح الشام. وسواء أكان السبب الذي أدى إلى غزوة مؤتة هو قتل رسول النبي إلى عامل بصرى أم قتل رجاله الخمسة عشر في ذات الطلح، فإنه عليه السلام دعا إليه، في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة (سنة 629م)، ثلاثة آلاف من خيرة رجاله، واستعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: «فإن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، وإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس.» وخرج هذا الجيش وخرج معه خالد بن الوليد متطوعا ليدل بحسن بلائه في الحرب على حسن إسلامه. وودع الناس أمراء الجيش والجيش، وسار محمد معهم حتى ظاهر المدينة، يوصيهم ألا يقتلوا النساء ولا الأطفال ولا المكفوفين ولا الصبيان، ولا يهدموا المنازل ولا يقطعوا الأشجار.

ودعا عليه السلام ودعا المسلمون لهذا الجيش قائلين: صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا سالمين! وكان أمراء الجيش كلهم يفكرون في أخذ القوم من أهل الشام على غرة منهم، على عادة النبي في سابق غزواته، فيسرع إليهم النصر ويعودون بالغنيمة. وسار القوم حتى بلغوا معان من أرض الشام وهم لا يعلمون ما هو ملاقيهم. لكن أنباء مسيرتهم كانت قد سبقتهم. فقام شرحبيل عامل هرقل على الشام فجمع جموع القبائل ممن حوله، وأوفد من جعل هرقل يمده بجيوش من الإغريق ومن العرب. وتذهب بعض الروايات إلى أن هرقل نفسه تقدم بجيوشه حتى نزل مآب من أرض البلقاء على رأس مائة ألف من الروم، كما انضم إليه مائة ألف أخرى من لخم وجذام والقين وبهراء وبلي.

ويقال إن تيودور أخا هرقل هو الذي كان على رأس هذه الجيوش لا هرقل نفسه. وبلغ المسلمين وهم بمعان أمر هذه الجموع، فأقاموا بها ليلتين يفكرون ماذا يصنعون أمام هذا العدد الذي لا قبل لهم به. قال قائل منهم: نكتب إلى رسول الله

صلى الله عليه وسلم

فنخبره بعدد عدونا؛ فإما يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له. وكاد هذا الرأي يسود لولا أن تقدم عبد الله بن رواحة - وكان إلى جانب شهامته وفروسيته شاعرا - فقال: يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به؛ فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة. وامتدت عدوى النخوة من الشاعر الشجاع إلى الجيش كله؛ فقال الناس: فوالله صدق ابن رواحة! ومضوا، حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية يقال لها مشارف. فلما دنا العدو انحاز المسلمون إلى قرية مؤتة أن رأوها خيرا من مشارف لتحصنهم بها. وفي مؤتة بدأت المعركة حامية الوطيس بين مائة أو مائتي ألف من جيوش هرقل وثلاثة آلاف من المسلمين.

يا لجلال الإيمان وروعة قوته! حمل زيد بن حارثة راية النبي واندفع بها في صدر العدو وهو موقن أن ليس من موته مفر. لكن الموت في هذا المقام هو الاستشهاد في سبيل الله! وليس إلا الاستشهاد دون النصر والظفر مكانا. وحارب زيد حرب المستميت حتى مزقته رماح العدو فتناول الراية من يده جعفر بن أبي طالب، وهو يومئذ في الثالثة والثلاثين من عمره، وهو شاب تعدل وسامته شجاعته. وقاتل جعفر بالراية، حتى إذا أحاط العدو بفرسه اقتحم عنها فعقرها، واندفع بنفسه وسط القوم منطلقا انطلاقة السهم يهوي سيفه برءوسهم حيثما وقع. وكان اللواء بيمين جعفر فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل. يقال إن رجلا من الروم ضربه يومئذ ضربة قطعته نصفين. فلما قتل جعفر أخذ ابن رواحة الراية، ثم تقدم بها وهو على فرسه؛ فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ثم قال:

أقسمت يا نفس لتنزلنه

ناپیژندل شوی مخ