وكان لعمر بن الخطاب في الجيش أجير يقود فرسه، فازدحم بعد انتهاء الموقعة مع أحد رجال الخزرج على الماء فاقتتلا فتصايحا، يقول الخزرجي: يا معشر الأنصار، ويقول أجير عمر: يا معشر المهاجرين. وسمع عبد الله بن أبي النداء، وكان قد خرج مع المنافقين في هذه الغزوة ابتغاء الغنيمة، فثار ما في نفسه على المهاجرين وعلى محمد حفيظة، وقال لجلسائه: «لقد كاثرنا المهاجرون في ديارنا والله ما أعدنا وإياهم إلا كما قال الأول: «سمن كلبك يأكلك.» أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.» ثم قال لمن حضر من قومه: «هذا ما فعلتم بأنفسكم: أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم. أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم.» ومشى بحديثه هذا ماش إلى رسول الله بعد فراغه من عدوه، وكان عنده عمر بن الخطاب، فهاج عمر لما سمع وقال: مر به بلالا فليقتله. هنا ظهر النبي كدأبه مظهر القائد المحنك والحكيم البعيد النظر؛ إذ التفت إلى عمر وقال: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس وقالوا إن محمدا يقتل أصحابه؟
لكنه قدر في الوقت نفسه أنه إن لم يتخذ خطة حازمة فقد يستفحل الأمر؛ لذلك أمر أن يؤذن في الناس بالرحيل في ساعة لم يكن يرتحل المسلمون فيها، وترامى إلى ابن أبي ما بلغ النبي عنه، فأسرع إلى حضرته ينفي ما نسب إليه، ويحلف بالله ما قاله ولا تكلم به. ولم يغير ذلك من قرار محمد الرحيل شيئا، بل انطلق بالناس طيلة يومهم حتى أمسوا، وطيلة ليلتهم حتى أصبحوا، وصدر يومهم الثاني حتى آذتهم الشمس. فلما نزل الناس لم يلبثوا حين مست جنوبهم الأرض أن وقعوا من فرط تعبهم نياما، وأنسى التعب الناس حديث ابن أبي وعادوا بعد ذلك إلى المدينة ومعهم ما حملوا من غنائم بني المصطلق وأسراهم وسبيهم، ومعهم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار قائد الحي المهزوم وزعيمه.
بلغ المسلمون المدينة، وأقام ابن أبي بها، لا تهدأ له نفس حسدا لمحمد وللمسلمين، وإن تظاهر بالإسلام بل بالإيمان؛ وإن أصر على إنكار ما نقل عنه لرسول الله عند المريسيع. أثناء ذلك نزلت سورة المنافقين وفيها قوله تعالى:
هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون * يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون .
6
هنالك حسب قوم أن في هذه الآيات قضاء على ابن أبي، وأن محمدا لا ريب آمر بقتله، فذهب عبد الله بن عبد الله بن أبي، وكان مسلما حسن الإسلام، فقال: «يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرني به أنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده مني. وإني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس، فأقتله فأقتل رجلا مؤمنا بكافر فأدخل النار.» كذلك قال عبد الله بن عبد الله بن أبي لمحمد. وما أحسب عبارة أبلغ من عبارته على إيجازها في قوة التعبير عن حالة نفسية تضطرب فيها أقوى العوامل في النفس أثرا: تضطرب فيها عوامل البر بالأب وصدق الإيمان والنخوة العربية والحرص على سكينة المسلمين حتى لا تتواتر الثارات بينهم!
فهذا ابن يرى أباه سيقتل، فلا يطلب إلى النبي ألا يقتله، لأنه يؤمن بأن النبي إنما يصدع بأمر ربه، ويوقن بكفر أبيه. وهو، من خيفة ما يقتضيه البر بأبيه وما تقتضيه الكرامة والنخوة أن يثأر له ممن قتله، يريد أن يحمل على نفسه وأن يقتل هو أباه، وأن يحمل هو بنفسه إلى النبي رأسه، وإن قطع ذلك قلبه وفرى كبده! وهو يجد في إيمانه بعض العزاء عن هذا الشطط الذي يكلف نفسه، مخافة أن يدخل النار إن هو قتل المؤمن الذي يأمره النبي بقتل أبيه. أي جلاد بين الإيمان والعاطفة والخلق أشد من هذا الجلاد؟! وأية مأساة نفسية أفتك بصاحبها من هذه المأساة؟! أفتدري بم أجاب النبي عبد الله بعد أن سمع قوله: «إنا لا نقتله بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا.»
يا لروعة العفو وجلاله! محمد يترفق بهذا الذي يؤلب أهل المدينة عليه وعلى أصحابه، فيكون رفقه ويكون عفوه أبعد أثرا من عقوبته لو أنه أنزلها به. فقد كان عبد الله بن أبي بعد ذلك إذا أحدث الحدث يعاتبه قومه ويعنفونه ويشعرونه أن حياته بعض هبات محمد له. وتذاكر النبي مع عمر يوما شئون المسلمين وجاء ذكر ابن أبي وما يعاتبه قومه وما يعنفونه؛ فقال محمد: كيف ترى يا عمر؟! أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أعظم بركة من أمري.
ناپیژندل شوی مخ