147

4

وكما نزلت هذه الآية حديثا للمؤمنين وإرشادا لهم إلى واجبهم إزاء النبي وأزواجه، نزلت الآيتان الآتيتان كذلك موجهتين إلى أزواج النبي في هذا الشأن نفسه. قال تعالى:

يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا * وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا .

5

هذا هو التمهيد الاجتماعي الجديد الذي أراده الإسلام للجماعة الإنسانية. أقام أساسه على تغيير نظرة الجماعة إلى ما بين الرجل والمرأة من صلات، وأراد أن يمحو من النفوس تسلط فكرة الجنس واعتبارها وحدها المتغلبة على كل اعتبار، وأراد بذلك أن يوجه الجماعة وجهتها الإنسانية العليا التي لا تنكر على الإنسان استمتاعه بالحياة استمتاعا لا يضعف من حريته في أن يريد - ومن باب أولى لا يسلبه هذه الحرية في أن يريد - والتي تجعل من الإنسان صلة ما بين الكائنات جميعا، فيرتفع به من مراتب زراعة الأرض ومن الصناعة ومن تجارة الحياة أيا كانت، لتسمو به إلى مجاورة القديسين والاتصال بالملائكة المقربين. وقد جعل الإسلام من الصوم والصلاة والزكاة وسائل لهذا السمو؛ بما تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وبما تطهر النفس والقلب من شوائب الخضوع لغير الله، وبما تقوي من أسباب الأخوة بين المؤمنين، ومن الاتصال بين الإنسان وسائر ما في الكون.

هذا التنظيم للحياة الاجتماعية رويدا رويدا، تمهيدا للانتقال العظيم الذي أعد الإسلام له الإنسانية، لم يمنع قريشا والعرب أن تتربص بمحمد الدوائر، ولم يمنع محمدا أن يكون دائم الحذر، سريعا إلى النشاط لإلقاء الرعب في قلوب خصومه عند الحاجة. من ذلك أنه، بعد ستة أشهر من القضاء على بني قريظة - شعر بشيء من الحركة في ناحية مكة، ففكر في أن ينتقم لخبيب بن عدي وأصحابه ممن قتل بنو لحيان عند ماء الرجيع منذ سنتين. على أنه لم يجهر بقصده خيفة أن يتخذ العدو الحيطة لنفسه. فأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة، فأخذ قواته ويمم بها شمالا. فلما اطمأن إلى أن قريشا وجيرانها لم يبق منهم من يفطن لمقاصده، انتقل راجعا إلى ناحية مكة وأغذ السير مسرعا حتى بلغ منازل بني لحيان بعران. لكن قوما رأوه أول انحداره إلى الجنوب فعرف منهم بنو لحيان قصده إياهم. فاعتصموا برءوس الجبال هم ومتاعهم. وفات النبي أن يصيبهم، فبعث أبا بكر في مائة راكب حتى بلغوا عسفان على مقربة من مكة. ثم كر رسول الله قافلا إلى المدينة في يوم قائظ بلغ من قيظه أن كان النبي يقول: «آئبون تائبون إن شاء الله لربنا حامدون. أعوذ بالله من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال.»

ولم يكد محمد يقيم بالمدينة ليالي بعد أوبته إليها حتى أغار عيينة بن حصن على أطرافها، وكان بظاهرها إبل ترعى يحرسها رجل وامرأته فقتل عيينة وأصحابه الرجل وساقوا الإبل واحتملوا المرأة وانصرفوا يحسبون أنهم من اللحاق بمنجاة. لكن سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي قد غدا يريد الغابة متوشحا قوسه ونبله؛ فلما مر على ثنية الوداع وأشرف على ناحية من سلع، وأبصر القوم قد اقتادوا الإبل واحتملوا المرأة، فصاح: واصباحاه! وجعل يشتد في أثر القوم حتى إذا اقترب منهم رماهم بالنبل، وهو في أثناء ذلك لا ينفك يصيح. وبلغ محمدا صياح سلمة. فنادى في أهل المدينة: الفزع الفزع؛ فترامى الفرسان إليه من مختلف النواحي، فأمرهم فانطلقوا في أثر القوم، وجهز هو قواته وسار على رأسها يتبعهم حتى نزل بالجبل من ذي قرد.

كان عيينة ومن معه قد أغذوا السير مسرعين يريدون اللحاق بغطفان نجاة من المسلمين. ولكن فرسان المدينة أدركوا مؤخرتهم واستخلصوا شطر الإبل منهم ولحق بهم محمد فأعانهم؛ ونجت المرأة المؤمنة التي كان العرب قد احتملوها. وأراد جماعة من أصحاب النبي أخذت منهم الحماسة كل مأخذ أن يتأثروا عيينة، فردهم رسول الله، أن علم أن عيينة وأصحابه قد أدركوا غطفان واحتموا بهم. ورجع المسلمون إلى المدينة، وجاءت امرأة الحارس في آثارهم على ناقة المسلمين. وكانت المرأة قد نذرت إن أنجتها الناقة لتنحرنها قربانا إلى الله، فلما أخبرت النبي بنذرها قال: «بئس ما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها. إنه لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين.»

وأقام محمد بعد ذلك قرابة شهرين. ثم كانت غزوة بني المصطلق بالمريسيع، هذه الغزوة التي يقف عندها كل كاتب وكل مؤرخ لسيرة النبي العربي؛ لا لأنها غزوة ذات قيمة، أو لأن المسلمين أو عدوهم أبلوا فيها بلاء خارقا للعادة، بل لأن الشقاق كاد يفشو بعدها في صفوف المسلمين، فحسمه الرسول بأحسن ما يكون عزيمة وحزما، ولأن من أثرها أن تزوج الرسول من جويرية بن الحارث، ولأن هذه الغزوة أثمرت حديث الإفك عن عائشة حديثا كان موقفها منه - وهي لما تزل في السادسة عشرة - موقف إيمان وقوة تحطمت على جنباتها وعنت لجلالهما كل الوجوه.

فقد بلغ محمدا أن بني المصطلق وهم فرع من خزاعة، يجمعون في حيهم على مقربة من مكة، وأنهم يحرضون عليه يريدون قتله، وعلى رأسهم قائدهم الحارث بن أبي ضرار. ووقف محمد من أحد البدو على سر جمعهم فأسرع في الخروج ليأخذهم على غرة، كعادته في أخذ أعدائه. وجعل لواء المهاجرين لأبي بكر، ولواء الأنصار لسعد بن عبادة. ونزل المسلمون على ماء قريب من بني المصطلق يقال له المريسيع، ثم أحاطوا ببني المصطلق ففر من جاءوا لنصرتهم. وقد قتل من بني المصطلق عشرة ولم يقتل من المسلمين إلا رجل يقال له هشام بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار وهو يحسبه خطأ من العدو. ولم يجد بنو المصطلق، بعد قليل من التراشق بالنبال، مفرا من التسليم تحت ضغط المسلمين القوي السريع، فأخذوا أسرى هم ونساؤهم وإبلهم وماشيتهم.

ناپیژندل شوی مخ