ما أشقى المرأة يا موريس! متى اطلعت على تاريخ حياتي أدركت أن بنت حواء مظلومة مع ابن آدم، فهل لك أن تكون رسول الإنسانية العادلة، وتبلغ رسالتها مخبرا أن المرأة مظلومة؟ لا أظن أن أحدا سواك يعلم البشر بهذا الحق.
كنت أحسب أن الحب الحقيقي، والإخلاص القلبي يشفعان بي عند العالم، ولكني وجدت الناس لا يحسبون لهما قيمة، فكيف يحسبونهما لامرأة ساقطة في عرفهم؟ إنك وحدك تحسبهما لي. •••
كنت ابنة لأبوين فاضلين تقيين، فربيت في حجر التقوى والفضيلة، توفي أبي وأنا حديثة السن فقام أخي الوحيد مقامه في السيادة على البيت، وكان هو وأمي يدللانني جدا تدليل أهل اليسار، ويعدانني لزوج موسر عريض الجاه كما يفعل جميع الأهل لبناتهم.
وكان لعهد حداثتي بيننا وبين أسرة أخرى ألفة شديدة - لعل سببها الأول المجاورة - وكان من أفراد تلك الأسرة فتى جميل الطلعة يكبرني بضع سنين، فكنت أجتمع به كثيرا تارة في منزلنا، وطورا في منزل أهله، ولما ناهزت الرابعة عشرة كان يتردد علينا كثيرا، ويبالغ في إكرامي والتودد إلي، وكنت أرى أمي وأخي يحتفيان به كثيرا ويلاطفانه، ففهمت أنهما لا يحظران علي عشرته.
في ذلك العام انفتحت عينا قلبي، وصرت أشعر أن ذلك الشاب ينبوع سروري لا أستلذ الحياة إلا بقربه، وما استتممت الخامسة عشرة حتى رأيت نفسي سيدة بين السيدات، وقد مضى نهار الصبوة، واتضح صبح الشبيبة وصرت أميز بين هناء الحياة وشقائها، فإذا كان فتاي حاضرا معي كنت فرحة، وإن كان غائبا كنت كئيبة، صار شغل قلبي الشاغل بل موضوع حياتي، بل مصدر غبطتي وينبوع هنائي.
ما صحوت من غفلة حداثتي إلا على صوت الحب يناديني في صباح شبيبتي أن أنهض لأناجي الحبيب المؤمل، أحببت ذلك الفتى جدا؛ ولكي تعلم يا موريس مقدار حبي له أقول: أحببته كل هذا الحب؛ لأني لم أكن بعد قد فهمت شيئا من أكاذيب هذا العالم، كنت أظن أن الناس جميعهم طاهرو القلب أنقياء الضمير متفقون على إحقاق الحق وتقلد الفضيلة، متمسكون بحبل الأمانة والاستقامة.
أخلصت حبي لذلك الفتى، واستخلصت حبه وصرت أحسب أنه أوفى لي مني له إن كان وفائي يفضله وفاء، كان شغلي الشاغل أن أفتكر بما يبتغيه وأفعل ما يسره ويرضيه، وما ادخرت جهدا في أن أكيف نفسي حسب رغبته وهواه.
إن علمت أنه يأبى أن أجامل زيدا من الناس تجنبت مجاملة زيد، وإن شعرت أنه يرغب أن أفعل أمرا فعلته، وإن استاء لأمر استرضيته، كان أغلى الأمور عندي رخيصا له وأعزها مبذولا لأجله، وبالجملة فإني كنت له كما يشاء، ملكته قلبي ونفسي وإرادتي، وكنت سعيدة بهذا التمليك؛ لأني كنت أرى منه مثل هذا الحب، وأعتقد فيه مثل هذا الإخلاص.
وقد اتضح لأمي وأخي حبنا فكانا يفسحان لخطواته السبيل على أمل أن يطلب يدي ويكون لي بعلا، الآن أفهم ذلك وأما حينئذ فلم أكن لأفتكر أن هذه هي بغيتهما، وإنما حسبت أنهما يتسامحان له؛ لأن أهله أصدقاء قدماء أوداء فيسوغ له ما لا يسوغ لسواه.
لذلك كنت أخلو به كثيرا في القاعة وفي غرفتي وفي الحديقة، وفي المتنزهات، ولم يخطر لأمي أو لأخي أن يحسبا حسابا لخلواتنا، والذي يلوح لي الآن أنهما لم يتوقعا مغبة سيئة لتلك الخلوات؛ لأنهما كانا واثقين تمام الثقة من حشمتي، ومن حسن مبادئ ذلك الشاب.
ناپیژندل شوی مخ