وهذا بعكس المجتمع الزراعي حيث ركود التاريخ والتقاليد، فإن مثل هذا المجتمع لا يربي المؤلف المجدد، بل هو قد يمنع الكتب التجديدية الأجنبية من الانتشار، ويحظر التفكير في ميادين دينية أو اقتصادية أو اجتماعية؛ إذ هو كالمريض يكره الحركة ولا يتمنى أكثر من الهدوء، ولو كان هدوء الموت؛ ذلك لأنه لا يجد في هذا التجديد ما ينبهه تنبيه الصحة، ولكنه يجد فيه ما يزعجه بل يزلزله.
وعلى القارئ أن يختار الكتب كما يختار المعلمين والأصدقاء الذين ينشد فيهم النور والنار معا. وهذه الكتب هي التي تخرج به عن مألوفه، وكما يخرج الفقير الذي يعيش في زقاق محدود إلى الحقول، فينتعش ويتنفس الهواء الجديد، كذلك يجب على القارئ أن يخرج عقله من المعارف المألوفة؛ أي من الطريق الدهس، إلى تلك الآفاق الرحبة حيث النور والهواء المنعشان. أجل، وحيث الوعورة في الطبيعة البكر التي تبعث على التفكير البكر الوعر.
ولكل عصر مناخه الثقافي، ولكننا نعيش في مصر في مناخ لا يلائم القرن العشرين، وإنما يلائم القرن العاشر! أجل نحن في عقم ثقافي، ومن هنا كان تخلفنا الاجتماعي والاقتصادي، ومن هنا أيضا تفاهة التفكير في المفكر التافه، حين يقول إن الطربوش شعار وطني، أو إن المكان الطبيعي للمرأة هو البيت، أو حين يتحدث عن الكم الطويل والكم القصير، كأن هذا الموضوع يرتفع في اعتباره إلى مقام المشكلة الفلسطينية.
ومرجع هذا أن هؤلاء المساكين لم يرتقوا بكتاب توجيهي ينقلهم من الركود إلى النشاط؛ ولذلك كثيرا ما أقعد إلى أحد هؤلاء فأجد أنه قد بلغ الستين من السن الزمنية، ولكنه لا يزيد على صبي في العاشرة من حيث النضج السيكلوجي.
ولا أستطيع أن أقول إن الكتب العربية ترتفع إلى مقام يتيح لها تخريج الرجل الناضج الذي يتساءل ويستطلع، وإن كان هناك قليل من الكتب المترجمة قد يؤدي هذه الخدمة. وقد كان في مقدورنا أن نترجم نحو مائة كتاب عالمي من تلك الكتب التي غيرت المجتمع ووجهته، ولكن مجتمعنا الزراعي الحاضر يكره هذا التغيير وهذا التوجيه؛ ولذلك أقول مرة أخرى إننا في عقم ثقافي لا نلد ولا نتوالد؛ ولذلك أقول أيضا في صراحة مؤلمة إن القارئ المصري لن يكون متمدينا على ذكاء نشيط وعلى ثقافة عصرية، إلا إذا درس لغة أوروبية واستمد منها حاجته من الكتب العظيمة والمؤلفين العظماء الذين يستنبطون الفكرة الخصبة من المعارف الخامة، فينعطف التاريخ ويتغير وجه الأرض، وهؤلاء هم المؤلفون الإيمائيون.
وقد قرأت في حياتي مئات الكتب التي زادت وجودي في الدنيا والتي نحوت وتربيت بها، وقد اخترت من مؤلفيها بضعة عشر كان لهم الأثر الأكبر في ترتيب ذهني وتنظيم ثقافتي، ولكن اختياري لهم لا يعني أني أشير على القارئ أن يقرأهم ويعرفهم؛ لأني إنما أردت أن أبسط له بعض الأسباب والنتائج في تكوين شخصيتي، وأن أشير إلى الأعلام البارزة في رحلتي الثقافية عبر عمر قد تجاوز السادسة والستين، وبعض هؤلاء المؤلفين قد عرفتهم قبل أربعين سنة، وإني بالطبع لا أذكرهم هنا إلا لأنهم كانوا اختبارا عميقا أثر في نفسي طوال هذه السنين. وللقارئ أن ينتقد، وأن يعرف من إصاباتي كيف أصبت، ومن أخطائي كيف أخطأت، ثم بعد ذلك عليه أن يستخرج العبرة ثم يستطلع ويتساءل ويختار، ثم يشق طريقه بنفسه.
فولتير
محطم الخرافات
يهفو الذهن إلى ذكرى فولتير كلما هبت على الأمة عواصف الظلام التي تقيد الحرية، وتسوغ الاعتقال، وتمنع الكتب، وتراقب الصحف، وتضع الحدود والسدود للعقول، وتنهك النفوس البشرية بأفظع مما ينهك الفاسق الأجسام البشرية.
ذلك لأن فولتير عاش من أجل الحرية، وكانت إيماءة حياته احترام الإنسان وكرامة الناس وحريتهم. ومن الأحسن أن نقرأ تاريخه، ومن الأحسن أن يقرأه أولئك الذين حملوا النيابة العامة في مصر على أن تقوم بأكثر من أربعمائة تحقيق مع الصحف في أقل من سنتين بين سنة 1944 و1946، ثم بعد ذلك منعوا بعض الكتب الأوروبية من الدخول إلى مصر، كما منعوا بعض المؤلفين من طبع مؤلفاتهم ونشرها.
ناپیژندل شوی مخ