والحكومة التي تجترئ على مثل هذه الخيانة، فتمنع كتابا قيما من الدخول إلى بلادنا، أو من الطبع أو التداول، هي حكومة تخون الإنسانية وتنتهك الفكر البشري المقدس. وهي بهذا الانتهاك تقاوم الفهم والذكاء عند أبناء الشعب كأنها تحاول أن تجعلهم بلداء أغبياء. •••
من الأسئلة التي يضعها كاتب سخيف لقراء سخفاء هذا السؤال:
لو أنه حكم عليك بالانفراد سائر عمرك في جزيرة أو سجن، أي كتاب كنت ترغب في اقتنائه حتى تأنس أو تنتفع به؟
وسخف هذا السؤال يرجع إلى أن العقل العصري الراقي قد أصبح عقلا مركبا يحتاج إلى التناقض والتناسق، وإلى المنطق والإيمان، وإلى الخيال والتعقل، وإلى التحليل والتركيب، وإلى الحقائق الموضوعية والأفكار الذاتية. وكل هذا لا يمكن أن يحويه كتاب واحد.
ونحن نختار الكتاب في العادة كي نتزيد في معارفنا، ولكن المعارف الموضوعية هي المادة الخامة للثقافة؛ إذ ليست الثقافة معارف فقط، وإنما هي موقف واتجاه وعواطف وعادات في الحياة والممارسة الفلسفية. وصحيح أن كل هذا ينبني على المعارف الموضوعية، ولكن هذه المعارف هي الدرجات الأولى أو الأسس التي نبني عليها حياتنا الفلسفية.
وهناك من الأذكياء من حظوا بمركبات نفسية تبعثهم على الاستطلاع، فيجدون فيها الإيحاء والتوجيه دون الحاجة إلى من يرشدهم. ولكن معظم القراء يحتاجون إلى المؤلف الذي يثير الاستطلاع ويبعث إليهم بالخسائر ويوجه ويرشد؛ إما لأنهم ليسوا على درجة عالية من الذكاء المتسائل، وإما لأنهم قد خلوا من تلك المركبات النفسية التي صادفت غيرهم لاختبارات أو كوارث وقعت بهم فكانت المنبه والمحرك لنشاطهم الذهني.
والمؤلف العظيم الذي يعلمنا هو ذلك الذي يستنبط من المعارف موقفا فلسفيا جديدا، أو خطة واتجاها جديدين للفكر البشري. والكاتب هو الذي يوجهنا أو يغيرنا. وأحيانا يتغير القارئ لأنه انساق في موجة جديدة قد أحدثها كاتب عظيم قد لا يعرفه هذا القارئ، ولكن الموجة التي مست غيره قد انتهت إليه فأثرت فيه وأحدثت وقعا جديدا في نفسه وعقله.
وليس كل منا كما قلنا قادرا على الاستنباط الفلسفي من المعارف، أو ليس قادرا على الاستنباط الأمثل؛ ولذلك نحن نحتاج إلى المؤلفين المستنبطين الذين يبسطون أمامنا آفاقا جديدة، أو يرشدوننا إلى دلالات أخرى غير ما تعودنا، أو يبرزون لنا الفكرة الإيمائية من بين العشرات من الفكرات المألوفة.
وقد تغيرت الثقافة بهؤلاء الكتاب الإيمائيين من عصر لآخر، وبعض العصور يساعد على هذا التغيير؛ لأنه بمركباته الاجتماعية المتغيرة ينشط الذهن بل أحيانا يلهبه، في حين أن العصر الزراعي مثلا يعمم الركود، فلا ينبه المؤلف؛ ولذلك يكثر مؤلفو التاريخ ودعاة التقاليد في المجتمع الزراعي الراكد، أما المجتمع الصناعي أو التجاري المتغير فإنه يبعث المؤلف على بحث الأخلاق والعقائد والأفكار، وقد يهتدي في هذا البحث إلى ما يلائم من خطة أو فلسفة أو وجهة جديدة، وهذه هي النهضة.
وحيث تكون النهضات، كما في إيطاليا في القرن السادس عشر، أو فرنسا في القرن الثامن عشر، نجد التساؤل والاستطلاع، ثم الاستنباط تحليلا وتركيبا. فالمؤلف يسلط النور والحرارة معا على المجتمع المتغير الذي يعيش فيه، فيؤلف عن وجدان اجتماعي وإحساس روحي واختلاق فني، وقد يحدث من ذلك أحيانا اختلاط وفوضى، ولكنهما ليسا أمارة الانحلال، وإنما هما علامة النشاط في مجتمع يمرح مرح الطفولة التي تزخر بالحياة.
ناپیژندل شوی مخ