ويمتطي ابن زيدون بغلته ويحيط به الأعوان فيسألهم: من عند مولاي أبي الحزم؟ فيجيب أحدهم؟ - إنه منذ باكورة الصباح في مجلس حافل بوزراء الدولة وعظمائها. - هل سمعته يضحك؟ فيدهش العون ويخالجه شك في عقل من يخاطبه ويقول: يضحك؟ ماذا يريد سيدي بهذا؟ - يضحك يعني يضحك. الضحك يا شيخ ألا تعرفه؟ - أعرفه، ولكن مولانا أبا الحزم قليل الابتسام بله الضحك، وهو في هذا اليوم أشد خلق الله جهومة. - هل زارته امرأة بالأمس في دار الرياسة؟ فتزيد دهشة العون ويقول: ماذا يقصد سيدي؟ - امرأة ... امرأة ... هل جاءت بالأمس امرأة وطلبت مقابلة ابن جهور في شكاية أو رفع مظلمة؟ - نعم، وهذا يحصل كثيرا يا سيدي.
وبلغ ابن زيدون دار الرياسة، وكان أول من قابله ابن عبدوس فحياه ضاحكا وهو يقول: إن لهذا اليوم ما بعده يا أبا الوليد! ثم رأى محمد بن عباس يمر به مقطبا لا يخاطبه بكلمة. وقد كان في هذه اللحظات القليلة هدفا للهواجس، فكان يؤول الابتسامة بالسخرية والشماتة، والعبوس بالاشمئزاز والإهانة، ويفسر كل كلمة تلقى إليه بما يملأ نفسه من خوف وإحساس بالخطر، وأخيرا جاءه الإذن بالمثول أمام ابن جهور.
كان ابن جهور في نحو الثالثة والستين، ضخم الجسم، وسيم الوجه، يركد فوق وجهه عبوس قاتم لا يكاد يفارقه. وكان عظيم اللحية يصبغها بالحناء، شديد بريق العينين، له نظرات نافذة كأنها تحاول أن تصل إلى ما في القلوب. وكان جليل المهابة مخوفا، ليس فيه جانب للهو، ولا مكان للإغضاء عن عيب، وهو رجل قديم الرياسة، شريف البيت، كان آباؤه وزراء في دولة الحكم بن الناصر لدين الله، ثم استوزرهم المنصور بن أبي عامر. وهو باقعة
5
بعيد الغور، حصيف العقل، نأى به دهاؤه عن أن يدخل في الفتن التي اشتعلت نيرانها بالأندلس بعد انقضاء الدولة العامرية، فلما خلا له الجو، وأقفر النادي من الرؤساء، وثب إلى الحكم فتولى أمره، وقام على رعايته. ذلك أنه في منتصف ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، بعد خلع هشام ومقتل وزيره، اجتمع الملأ من أهل قرطبة على تقديمه، وعددوا من خصاله ما لم يختلف فيه أحد، فأبى عليهم ذلك، فألحوا وألحفوا، فقبل بعد أن اشترط أن يحكم البلد جماعة فيهم الشيخان محمد بن عباس وعبد العزيز بن حسن، وأن يكتفي هو بالإشراف على هذه الجماعة وتوجيهها إلى الخير والسداد.
دخل ابن زيدون فحيا عميد الجماعة وجلا مهولا، فمد إليه ابن جهور يده قائلا: كانت ليلتك بالأمس في دار نائلة الدمشقية ليلة ماجنة!
فانحلت أوصال ابن زيدون، وعلم أن الزوبعة تتجمع لتثور، وأن الصاعقة توشك أن تنقض فقال: إنها جمعت يا سيدي أدباء قرطبة وشعراءها، وكان السمر فيها عفا لا يخمش وجه الأدب. - وكانت الألحان! وكان الرقص! وكانت الخمر! فقال ابن زيدون في نفسه: هذه بداية الشر. إنه سيخرج من هذا إلى مسألة الرسائل.
فجمع قوة جأشه المبددة وقال: ولكني كنت أقول يا مولانا كما قال الرسول الكريم: «اللهم حوالينا ولا علينا».
فنظر إليه ابن جهور نظرة حائرة وقال: أخشى أنك تخدعني يا فتى. - كيف أخدعك يا سيدي وقد زانني قديم خدمتك، وزهاني وسم نعمتك، وأبليت البلاء الجميل في سماطك،
6
ناپیژندل شوی مخ