وكثرت فيهم الدعابة، وروي لهم فيها الشيء الكثير في أخبار الجاحظ وغيره، وكان في بغداد كثير من المضحكين، وحفاظ النوادر كأبي العبر، وابن المغازي، من ذلك ما حكي أن ابن المغازي هذا وقف على باب دار الخلافة يوما يضحك الناس ويتنادر، وأخذ يوما في نوادر الخدم حتى ضحك الخادم، ودخل على الخليفة وهو يضحك، فأنكر الخليفة ذلك، وقال: «ويلك ما بك؟» فقال: «على الباب رجل يتكلم بحكايات ونوادر مضحكة» فأمر الخادم بإحضاره، فاشترط الخادم أن يكون له نصف الجائزة، فقال الخليفة: بلغني أنك مليح الفكاهة، وعندك نوادر مجونية مضحكة، فقال: «يا أمير المؤمنين الحاجة تفتق الحيلة» قال الخليفة: «هات ما عندك! فإن أضحكتني أعطيتك ألفي درهم، وإن لم تضحكني فما لي عليك؟» قال: «افعل بي ما أردت»، قال الخليفة: «أنصفت، أصفعك بهذا الجراب خمس صفعات»، وكان هذا الجراب من أديم لين، فظن المضحك أنه منفوخ، وليس فيه إلا هواء.
فقال: «قبلت » ثم أخذ في النوادر والحكايات، فما ترك حكاية إلا أتى بها، ولم يترك حكاية لعربي ولا نحوي ولا نبطي ولا زنجي ولا شاطر إلا قصها، والخدم يكادون يهلكون من الضحك، والخليفة مقطب لا يبتسم فقال المضحك: «قد نفد ما عندي» فقال: «أهذا كل ما عندك؟»
قال: «نعم ... بقيت نادرة واحدة، وهي أن تجعل الصفعات عشرا بدلا من خمس» فأراد الخليفة أن يضحك فأمسك، فمد المضحك قفاه فصفع صفعة كادت أن تقطع أنفاسه؛ إذ كان الجراب مملوءا بالحصى، فصاح المضحك: «يا سيدي نصيحة» قال الخليفة: «ما هي؟» قال: «ليس أحسن من الأمانة، ولا أقبح من الخيانة، إن لي شريكا في الجائزة قد ضمنت له نصفها، أرغب أن يحضره أمير المؤمنين.»
قال: «من هو شريكك؟» قال: «الخادم الذي أحضرني، وقد أخذت حقي فأعطوه حقه» ... فضحك الخليفة حتى استلقى على قفاه!
انتشار الزندقة
وانتشرت في هذا العصر الزندقة ... اشتدت في عهد المهدي، واشتهر بقتله للزنادقة، واستمرت إلى عهد الرشيد، وكانت كلمة الزندقة - ككلمة الشيوعية اليوم - غير محدودة المعنى عند العامة، وهي تهمة يتهم بها الشخص عدوه لينال السلطان منه، فكانوا يطلقونها على معان كثيرة: (1)
كانوا يطلقونها على المجان كحماد عجرد، وآدم بن عبد العزيز لإمعانهما في اللهو. (2)
وكانوا يطلقونها على المرشحين للخلافة حتى يكرههم الناس، وحتى يسهل للخليفة عزلهم، وتولية أولاده بدلهم، أو على الشخص العظيم الذي يريد الخلفاء أن يتخلصوا منه كما أطلقوها على أبي مسلم الخرساني، وعلى البرامكة. (3)
وكانوا يطلقونها أيضا بحق على الذين يلحدون في أقوالهم كقول أبي نواس:
فدعي الكلام لقد أطعت رواية
ناپیژندل شوی مخ