لهو الرشيد
صورتان
هناك فرق كبير بين صورة الرشيد التي يمثلها المؤرخون أمثال: الطبري وابن خلدون وأبي يوسف - في الخراج - وصورته التي يصورها ألف ليلة ليلة، والأغاني، وإعلام الناس فيما وقع للبرامكة مع بني العباس ... إلخ.
فصورة المؤرخين تصور الرشيد رجل جد فيه شيء من اللهو، والكتب الأخيرة تمثله رجل لهو فيه شيء من الجد.
وربما كانت صورة المؤرخين أعدل؛ لأن الآخرين أكثر حرية وتساهلا في الرواية، وأميل إلى اللهو، ودعوة الناس إليه، وأميل إلى التزايد من ذكر عطاءات الرشيد والبرامكة ونحوهم، لعلهم يستفيدون من أمراء عصرهم بعض ما أعطي من يحكون عنه، فإنا لو حسبنا حساب المال الذي أعطاه الرشيد والبرامكة - على قولهم - لما كفت الدنيا لتحقيق ما قالوا ... فكيف ومالهم محدود!
على كل حال كان للرشيد - من غير شك - جانب من اللهو، وللهو ذلك العصر تاريخ طويل يبتدئ من الدولة الأموية، ولكن الأمويين كانوا يعملون الملاهي لأذواقهم البسيطة العربية ... كالذي روي أن الحجاج أولم في اختتان بعض ولده؛ فاستحضر بعض الدهاقين يسأله عن ولائم الفرس، وقال له: «أخبرني بأعظم صنيع شهدته»، فقال له: «نعم أيها الأمير ... شهدت بعض مرازبة كسرى، وقد صنع لأهل فارس صنيعا، وأحضر فيه صحاف الذهب على أخونة الفضة ... أربعا على واحد، وتحمله أربع وصائف، ويجلس عليه أربعة من الناس، فإذا طعموا أتبعوا أربعتهم المائدة بصحائفها ووصائفها.»
فقال الحجاج: يا غلام انحر الجزور؛ كأنه كره هذا الوصف واستعظمه.
وكان الأمويون - على كل حال - يعدلون العادات الفارسية، والأغاني الفارسية، ونحو ذلك بذوقهم العربي، أما العباسيون فكانوا يأخذون عادات الفرس كما هي بحذافيرها ... اتخذوا النيروز لهم عيدا، ولم يكن له في عصر الأمويين شأن له بال، وفي عصر العباسيين كانت تهدى فيه الهدايا، وتوزع فيه اللطائف، ويحتفلون به كما يحتفلون بالعيد الكبير والصغير ... فلما جاءت الدولة العباسية كانت الأمور تحتاج إلى جد لا لهو فيه، ولولاه لضاعت الدولة من أيديهم، فكان أبو العباس السفاح - مثلا - أول الخلفاء العباسيين جادا لا يلهو، ولما تزوج أم سلمة حلف لها أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى.
وحاول بعض المقربين إليه أن يحملوه على اللهو فأبى وأبعدهم؛ لأنه شعر بكثرة ما عليه من تبعات لا تمكنه من أن يلهو ساعة.
وجاء بعده رجل الدولة أبو جعفر المنصور، فكان مثل أخيه جادا لا يلهو؛ فيروي الطبري أنه لم ير في دار المنصور لهو قط، ولا شيء يشبه اللهو واللعب والعبث، ولما سمع شعر طريف بن تميم العنبري:
ناپیژندل شوی مخ