ودرسا خامسا في الزهور والورد، وكيف تنظم الطاقات، ثم ينتقل في الدروس الأخيرة من الماديات إلى المعنويات: فكيف يتحدثن فيحسن الحديث، وكيف يجب أن لا يداخلن أحدا في حديثه، ولا يتطلعن إلى مكتوب يقرؤه قارئ، ولا يقطعن على متكلم كلامه، ولا يحاولن أن يستمعن إلى أحد يتحدث في سر، ولا يسألن عما ووري عنهن علمه، ولا يتكلمن فيما حجب عنهن فهمه، ولا يتثاءبن في المجلس، ولا يتمطين، ولا يمددن أرجلهن، ولا يمسسن أنوفهن بأيديهن، ثم يعلمهن أنهن إذا أهدين أهدين الشيء اللطيف الخفيف، كالتفاحة المنقوشة الواحدة، والأترجة الواحدة، والغصن من الريحان، والطاقة من النرجس، ونحو ذلك، ويعلمهن أيضا كيف يكتبن الكتب الظريفة لمن يحببن، أو لمن يشكون، ونحو ذلك، وكيف ينقشن على قمصانهن، وأرديتهن، وأكمامهن، وعصائبهن، ومناديلهن، ونعالهن، وما يكتبنه بالحناء على راحتهن وأبدانهن، وما ينقشنه على أواني الفضة والذهب والكاسات والأقداح، وعلى آلات الموسيقى من العيدان والطبول والدفوف والنايات.
وعلى الجملة فكان يعلمهن قوانين الظرف بجانب قوانين الغناء، ويعلمهن ما نسميه اليوم ب «الإتيكيت».
ويؤلف فيه المسلمون قبل ما يؤلف فيه الغربيون اليوم بعد أكثر من ألف سنة، وكان له في ذلك فضلان: فضل نشر الغناء في العالم الإسلامي، ونشر طرق الإتيكيت، وكانت هذه الأشياء كلها تغلي ثمن الجارية أضعاف ما كانت، وبفضل هذه المدرسة فاقت العراق الشام والحجاز، فقد كان الشام مركز اللهو والظرف في عهد الأمويين.
أما في العهد العباسي ففاقته العراق، والسبب في ذلك أمران: الأمر الأول أن العراق كان مصب أموال الدولة فكل قطر يبعث للخليفة ما تبقى من الصرف عليه، والمال هو عصب الحياة يتبعه اللهو حيث كان؛ فالغناء والشراب إنما يكونان حيث يكون الترف، والترف يكون حيث يكون المال، والعراق أكثر البلدان وأعزها جاها، وكل نابغ في فن - ومنه الأدب - إنما تنفق سوقه في العراق، ومن نبغ في غيره، ولم يذهب إليه خمد ذكره وضاع فنه؛ فأي مغن مشهور لم يكن في العراق، وأي نابغة في الشعر لم يكن في العراق، وأي لؤلؤة كبيرة، أو ياقوتة عظيمة، أو عقد مرصع بديع لم يرسل إلى الخليفة في بغداد.
والأمر الثاني أن العراق كان أكثر بلاد الله خليطا؛ فقديما تعاقبت عليها الأمم والمدنيات، وفي العصر العباسي كان حاضرة الخلافة ومقصد الناس، وكان مسكن العنصر الأرستقراطي من الفرس، وعلى مقربة من بغداد إيوان كسرى ، وبغداد محط الراحلين من الهنود والعرب والروم وغيرهم، وكل جنس من هذه الأجناس يعرض خير ما عنده، وإن أدركت سائر الأقطار طرفا من زينة ولهو وغناء وشعر، فمن بغداد تقتبس.
وكان من حسنات إبراهيم الموصلي زرياب المغني؛ فقد كان تلميذا لإسحاق، وكان يحضر معه مجلس الرشيد، ثم اختلف معه ففر إلى الأندلس، وكانت سبقته شهرته إليها، فاستقبل فيها استقبالا حسنا، ولم يكن زرياب مغنيا فقط، بل كان عالما أديبا أيضا، فنشر في بلاد الأندلس موسيقاه التي تلقاها عن إبراهيم الموصلي وعلمه فنه؛ فكان أيضا من حسنات الرشيد بالوساطة.
وزان زرياب مجالس عبد الرحمن الداخل، كما زان أستاذه الموصلي مجالس الرشيد، واجتهد زرياب أن يجعل من قرطبة ما رآه في بلاط الرشيد في بغداد من فخفخة وعظمة، وأن يحمل عبد الرحمن على البذخ والترف كما كان الرشيد، وينقل حضارة بغداد إلى قرطبة، فنجح في ذلك إلى حد كبير؛ لأنه كان عظيم الشخصية، وقد أجرى عليه عبد الرحمن الداخل ثلاثة آلاف دينار في السنة، وأعطاه عقارا بقرطبة قيمته أربعون ألف دينار، وقربه إليه وجعل مرتبته مرتبة عظيمة.
وقد قالوا عنه: إنه كان يعرف عشرة آلاف لحن بأشعارها ونغماتها، ولم يقتصر على الغناء والشعر، بل كان يعلم الفلك والجغرافيا، وكان قد أخذ عن أستاذه الموصلي فن الظرف واللباقة الذي كان يعلمه الموصلي في بغداد للجواري الحسان، ونشر أيضا الذوق في قرطبة، وغير من زي الرجال؛ فقد كان الرجال يرسلون شعورهم طويلة، ويفرقونها في مقدم الرأس، فابتدع لهم طريقة جديدة، فأصبح الزي الرائج بعده أن يحسر الرجل شعره بعد أن يقصره، وكان الأندلسيون يشربون الماء بآنية معدنية، فعلمهم أن يشربوه بأقداح من زجاج، ونشر في الأندلس نوعا من الطعام كان محببا إليه هو الهليون، وابتدع أيضا أنواعا من الأطعمة اللطيفة تنسب إليه؛ منها النوع المعروف بالزريابية ... فلعله هو الذي حرفه العوام فيما بعد إلى زلابيا. •••
وعلى الجملة، فقد كان من حسنات الرشيد - وإن لم يعلم - نقل حضارته ومجالسه وترفه إلى الأندلس بوساطة زرياب.
وكان الموصلي - كما قلت - بلدي البرامكة يغنيهم كما يغني الرشيد، ويضع الأصوات في مدحهم مثل قوله:
ناپیژندل شوی مخ