سرعان ما تقهقر محمد أنور. تخلى عن صلابته الطارئة الزائفة فآوى إلى ضعفه الفطري. لشد ما آمن بأن زهيرة جوهرة، بلا قلب، وأنها تفلت من قبضته مثل الهواء. غير أنه لم يتصور الحياة بدونها. هي روح الحياة وعادتها المسيطرة، وهي شديدة الخطورة لا يؤمن لها جانب. وهل ينسى ما حاق بعبد ربه الفران؟ لا ثقة له فيها، وكلما تزعزعت ثقته نزع أكثر إلى الالتصاق بها والاستحواذ عليها بأي ثمن. وفشله في ذلك يعني فشله في الحياة كلها، في الدنيا والآخرة معا. وسوف يظل الخصام بينها وبين رئيفة مصدر إزعاج له على طول المدى. إنه يعي تماما أنه أتعس الناس، وأن عليه ألا يضن بتضحية.
ها هو مجلس المساء يضمهما معا. هي ترضع راضي فوق ديوان، هو يدخن البوري، جلال يلاعب قطة. الحق أنه لم يعد يطيق جلال. طالما عطف عليه وأحبه في الماضي، ولكن ما إن جاء راضي حتى مقته وتمنى زواله من الوجود، غير أن معاملته له لم تتغير، ظل يغمره بأبوة باسمة كاذبة، يضيف بها إلى أشجانه عناء جديدا.
وقال لزهيرة وهو يعتقد أنه يفعل المستحيل لاسترضائها وامتلاكها: عندي لك مفاجأة سارة.
فنظرت نحوه بفتور فقال: هدية السلامة!
فابتسمت، فواصل: عقد شراء صوري تصبحين به مالكة لبيتي!
تورد وجهها وقالت بحبور: يا لك من رجل كريم!
إنه بيت من ثلاثة طوابق، وأسفله دكان الفول. وسعد الرجل بفرحتها فاسترد بعض طمأنينته. وأسعدها حقا أن تصبح مالكة. ومن أعماقها شكرته. وشكرته أيضا لاعترافه الضمني بقوتها وندمه على تحديها. ولم يخل وجدانها من ازدراء له، ولم يوقف ذلك انشغالها الدائم بعزيز ونوح الغراب.
عزيز الغني، ونوح القوي. وعزيز ذو قوة أيضا، كما أن نوح ذو ثروة تتزايد مع الأيام. عزيز له زوجة، ونوح له أربعة وقطيع من العيال. لا غنى عن القوة، ولا غنى عن المال. المال يخلق القوة، والقوة تخلق المال. ترى كيف تسير الأمور؟ إنها تؤمن بأنها لم تكد تبدأ بعد. وهي تفكر في ذلك كله وهي قريبة من أنفاس محمد المترددة.
50
قرر محمد أنور أن يحصن سعادته بنوح الغراب. زاره في داره وجلس بين يديه في بهو الضيوف كما يجلس الغلام بين يدي شيخ الكتاب. ودون أن ينبس قدم له صرة موحية. تناولها الفتوة. مضى يعد ما فيها، ثم قال: لقد أديت الإتاوة، فلم هذا القدر الجسيم؟
ناپیژندل شوی مخ