وتقدم الأولاد صوب الشباب فعملوا في مختلف الحرف؛ عمل حسب الله صبي نجار، ورزق الله مبيض نحاس، وهبة الله صبي كواء بلدي. ولم يرزق أحدهم عملقة أبيه، ولكنهم كانوا أشداء لدرجة تستوجب الاحترام في الحارة.
ورغم ما عرف به عاشور من دماثة الخلق فإن واحدا من رجال قنصوه الفتوة لم يتحرش به. ولم تكن زينب تماثله في دماثته؛ كانت عصبية، سيئة الظن، طويلة اللسان، ولكنها كانت مثالا طيبا للجد والاجتهاد والوفاء.
وكانت تكبره بخمس سنوات، وبقدر ما حافظ هو على حيويته وشبابه سارع إليها التغير والنضوب قبل الأوان؛ على ذاك لم تزغ له عين، ولم يزهد في حبها.
وبمرور الزمن ابتاع بنقوده ونقود زينب كارو فترقى من مكار إلى سواق. وقالت له زينب بنبرة وعيد: كان زبائنك من الرجال، ومن الساعة لن تحمل إلا النساء!
فضحك متسائلا: وهل يقصدني إلا زائرات الأضرحة والقبور؟!
فهتفت به: بيني وبينك ربنا!
وأحزنه أنه مضى ينسى ما حفظه من القرآن فلم تبق له إلا السور الصغيرة التي يتلوها في الصلوات، ولكن حبه الخير لم يفتر قط. وتعلم أن درويش زيدان ليس الشرير الوحيد في الحياة. تعلم أن الحياة حافلة بالمكر والعنف ورذائل لا حصر لها، ولكنه واظب على الاستقامة ما وسعه ذلك، وكان يحاكم نفسه محاكمة قاسية كلما تورط في خطأ. ولم ينس أنه استولى على جميع مدخرات زينب وبعض أجور أبنائه لكي يبتاع الكارو، وأنه في سبيل ذلك قسا عليهم بعض الشيء وغضب غضبات كاسرة!
وكان يشاهد ما يصيب بعض جيرانه من عنت الفتوة ورجاله، فيكظم غيظه ويطيب خاطر المظلومين بكلمات لا تغني، ويدعو للجميع بالهداية، وحتى قال له جار ذات يوم: إنك لقوي يا عاشور، ولكن ماذا أفدنا من قوتك؟!
علام يلومه الرجل؟! علام يحرضه؟ أليس حسبه أنه رفض الانضمام إلى الطغاة؟ أليس حسبه أنه لا يستغل قوته إلا فيما ينفع الناس؟!
رغم ذلك هفت في ضميره الوساوس كما يهفو الذباب في يوم قائظ، وقال إن الناس لا يرونه بالعين التي يرى بها نفسه، وتساءل في حزن: أين صفاء البال؟ أين؟!
ناپیژندل شوی مخ