وقد امتلأ جيبه جزاء سعيه المشكور. بالرغم من أن سليمان أعلن أنه لن يتغير، ولكن الحياة جادت بمذاقات جديدة، وحملت السحب ماء سلسبيلا. وقال سليمان لنفسه إن من النساء من هن جبن «قريش»، ومنهن من هن زبدة وقشدة. أسكرته الرائحة الزكية، وداهنته البشرة الملساء، وأطربته النبرة العذبة. وحلت دنياه الرشاقة اللعوب. وبإقامته في دار السمري أياما معدودات كل أسبوع عرف نعومة المجلس ودفء المرقد وسلاسة الملبس وأبهة الماء الساخن في الحمام الفسيح، والستائر والوسائد والنمارق، والتحف والتهاويل، والسجاجيد والأبسطة، والحلي والجواهر، والأهم من ذلك كله الأطعمة الفاخرة واللحوم المتنوعة والحلوى الساحرة. وذهل الفتوة، وعجب كيف تستكن هذه الجنة الخلابة في طوايا الحارة المتقشفة. أجل حافظ على مظهره في الخارج، وأصر على ممارسة عمله المتواضع، ولم يتلفع أمام الأعين إلا بعظمته الحقيقية، غير أنه آنس رياحا جديدة تهب على جوه المستقر، وشررا يتطاير يوشك أن يشعل حرائق الأركان. ثمة نظرات نافذة تهتك ما يستقر في معدته من أطايب الأطعمة والأشربة. وهمسات تدور حول الجنة الخفية، بخاصة من رجاله وأتباعه. واضطر - ولأول مرة - أن يوزع عليهم في المواسم والأعياد، وفي سرية بالغة، نقودا من الإتاوات، دون غبن يذكر للفقراء والحرافيش . شعر وهو يفعل ذلك بأنه يخطو الخطوة الأولى في طريق كريه شديد الانحدار، وأنه يحيد نوعا ما عن سبيل الناجي. ثم هاله أن ينعم بما ينعم به في دار السمري، على حين تعاني فتحية وبناتها حياتهن الجافة الشاحبة، فامتدت يده مرة أخرى إلى الإتاوات وخصهن بنفحات محدودة، منحدرا درجة جديدة في الطريق الكريه. ومضى يقول متعزيا: لن يمس ذلك حقوق الفقراء والحرافيش إلا قليلا!
ولم يسكت حواره مع نفسه، ولم تصف الحياة من شوائب الكدر. وها هي سنية تلح عليه في أن يكف عن ممارسة مهنته، أن يؤجر آخر ليسوق الكارو، وها هو يرفض بإباء، ويحاول أن يسيطر سيطرة الفحل القوي، وهي تحب وتتظاهر بالطاعة تاركة الفعل والتأثير لحبها المتسلل المقتحم.
وكلما شعر سليمان بأنه يتغير قال لنفسه بحزم: ما تغيرت، ولن أتغير.
9
وجمعت مائدة العشاء بدار السمري بينه وبين وجهاء الحي. كانوا يتجنبونه خوفا أو إيثارا للسلامة، الآن يحدقون به آمنين كما يحدق المشاهدون بالأسد في حديقة الحيوان.
وتبودلت الأنخاب، وجرت الدماء بالشجاعة، وهلت تباشير الآمال، حتى قال صاحب الوكالة: لعلك ظننت يوما أننا لا نذعن لك إلا بالقهر، ألا تدري يا معلم أن العدل قيمة يحبها في النهاية من ينتفع بها ومن يخسر؟!
فتمتم متسائلا: ومن يخس؟ - حسبك أنك جنبتنا الحقد والحسد واللصوص.
وهنا قال البنان: ولكننا وجدنا في عدلك الشامل شيئا من الظلم!
فتساءل مقطبا: الظلم؟! - ظلمك نفسك وأتباعك.
وتساءل العطار: أي ظلم في أن تنال نصيبك كاملا وأن ينالوا نصيبهم؟
ناپیژندل شوی مخ